مع احتدام التوتّرات السياسية في ليبيا وسط انعدام اليقين بشأن الانتخابات، اتّخذ المجلس الرئاسي الليبي من قلب العاصمة طرابلس مطلع الشهر الجاري خطوة لمعالجة قضية أخرى تصبّ في صلب الانقسامات التي تشهدها ليبيا، فأعلن في 6 يوليو عن تشكيل لجنة عليا للرقابة المالية ستتولّى الإشراف على العائدات الحيوية من النفط الليبي، والتدقيق في الميزانيات الحكومية، وضمان توزيع الإنفاق العام بشكل عادل في جميع أنحاء البلاد. وتشتدّ الحاجة كثيراً إلى هذه الخطوة، فقد مرّ أكثر من عقد على الإطاحة بنظام القذّافي، فيما يستمرّ التعتيم على المظالم المناطقية والأموال العامّة وكيفية إنفاقها في تأجيج الانقسامات السياسية العميقة في البلاد.
لكن هل هذه اللجنة الجديدة، التي قد تصبح المحكّم النهائي بشأن إيرادات الدولة وميزانياتها، هي الحلّ المرجوّ؟ يمكن القول إنّ المجلس الرئاسي يعكس ترتيب الخطوات بإنشائه آليّة قد تطيل الإخفاقات القائمة قبل إيجاد حلول للقضايا الأعمق من خلال التوصّل إلى تسوية سياسية دائمة وإطلاق حوار وطني تشتدّ الحاجة إليه.
عقود من التعتيم
حظيت مبادرة المجلس الرئاسي بتأييد كبير من الجهات الدولية التي تحرص على تجنّب العودة إلى الصراع والحصار على صادرات النفط الليبية. ولطالما ضغطت الأطراف الخارجية، بقيادة الولايات المتّحدة، من أجل التوصّل إلى آليّة مماثلة. وفي المقابل، لم تبرز أي ردود فعل محلّية على الإعلان، وهو مؤشّر على حصول المبادرة على دعم واسع. قد يعود السبب جزئياً إلى كون أعضاء اللجنة السبعة عشر يمثّلون قاعدة جغرافية وسياسية واسعة. ويبدو أيضاً أنّ الهيئة تجمع بين المقترحات المختلفة التي طرحتها مؤخّراً الجهات السياسية المتنافسة.
هل ستكون هذه اللجنة فعّالة أم لا؟ هذا سؤال آخر. مهمّة اللجنة واضحة: مشكلة الغموض المحيطة بالميزانية الليبية تعود إلى عقود خلت. وفي يونيو الماضي، أشار صندوق النقد الدولي مرّة أخرى إلى المشاكل المتعدّدة التي تعانيها المالية العامّة، مشدّداً على “حاجة ليبيا الملحّة إلى ميزانية شفّافة”. فقد كانت المبادرات السابقة لتحقيق إصلاحات مالية وإضفاء المزيد من الشفافية في ليبيا عشوائية وسريعة. وبينما تعتمد ميزانية الدولة بشكل أساسي على الصادرات النفطية، غالباً ما تفشل وزارة المالية في تتبّع الإيرادات بشكل مناسب بسبب النقص في الإبلاغ والتقرير والتسرّبات المالية والامتثال غير الكافي للمعايير المالية الدولية. لا يتطلّب تلبية هذه المعايير بناء القدرات فحسب، بل أيضاً تنسيقاً مستداماً بين الهيئات السياسية المتنافسة، فضلاً عن الإرادة السياسية.
وعلى نحو مماثل، تعود المظالم المناطقية بشأن كيفية إنفاق ثروة ليبيا الهائلة إلى حقبة نظام القذافي. وقد عملت إدارة القذافي والإدارات التي لحقتها على إخماد هذه المشكلات عبر التوظيف في القطاع العام أو تنفيذ مشاريع البنية التحتية، ولكن نادراً ما كانت جهود الإصلاح هذه مؤسّسية أو مستدامة أو شفّافة.
ومن شأن النقص في البيانات أن يعيق الجهود المبذولة اليوم لإنشاء نظام أفضل وأكثر فعّالية. فقد أُجري آخر تعداد سكّاني في العام 2006، وأدّى عدد من الصراعات إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان على مدى العقد الماضي، ما ينتج عنه فجوة كبيرة في ما يتعلّق بالمعلومات الديموغرافية الأساسية المطلوبة لتخطيط التنمية المحلّية والإنفاق الحكومي. وتثير مسألة اللامركزية أيضاً المخاوف من تفشّي الفساد بلا رادع وتفكيك البلاد أكثر فأكثر. بيد أنّ المشكلة الأساسية في المبادرة الأخيرة تكمن بأنّ الليبيّين لم يجروا بعد حواراً وطنياً طال انتظاره ولم يتّفقوا على دستورٍ من شأنه أن يحدّد شكل الدولة التي يريدونها وكيفية توزيع إيرادات مواردها الطبيعية الهائلة. وقد كُلّفت اللجنة التي أُعلن إنشاؤها في يونيو بمعالجة قضايا عميقة لا يمكن لهيئة غير مهيّأة مثلها أن تعالجها. وبالتالي، فإنّ إنشاء لجنة أخرى لمعالجة نقاط الضعف المؤسّسية القديمة والحسّاسة سياسياً والعميقة الجذور هو أشبه بلصق ضمادة على ساق مكسورة. أمّا الليبيون، الذين اعتادوا على لجان غير فعّالة كبديل عن الحوكمة الرشيدة، فيُعذرون عندما يتساءلون عن سبب إنشاء لجنة أخرى والجدوى منها.
المطلوب هو حوار وليس لجان
بكل إنصاف، يمكن أن تساعد اللجنة الجديدة في نزع فتيل التوتّرات السياسية الفورية واسترضاء الأطراف الفاعلة محلّياً ودولياً، فيما يتجادل السياسيون حول إجراء الانتخابات العامّة. وقد تساعد أيضاً في حلّ لغز الفجوة المالية المقدّرة بمليارات الدولارات بين عائدات النفط المتوقّعة بناءً على تقارير صادرات شركة النفط الوطنية الليبية، وما تمّ إيداعه بالفعل في الحسابات الحكومية. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنّ أحداً لم يكشف عن تفاصيل الصفقة التي توسّطت فيها جهات خارجية في العام 2021 بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس والمُعترَف بها من الأمم المتحدة من جهة والجيش الوطني الليبي من جهة أخرى بغية إنهاء الحصار على الصادرات النفطية مقابل تقييد الوصول إلى عائدات التصدير.
ومن شأن اللجنة كذلك أن تساعد في تحرير التمويل المُخصّص لمشاريع البنية التحتية التي أوقفها مجلس النواب في طبرق، بعد أن سحب دعمه لحكومة الوحدة الوطنية في العام 2022، ودعم حكومة منافِسة لها بعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ.
ولكن، قد تتسبّب اللجنة أيضاً بتعميق المشاكل التي من أجلها تمّ إنشاء هذه اللجنة في الأساس، بحيث قد تضفي الشرعية على توجيه موارد الدولة إلى جهات فاعلة غير حكومية تحت ذريعة التوزيع المناطقي العادل. وترسل طرابلس أصلاً مبالغ شهرية غير مُعلنة إلى الجيش الوطني الليبي، الذي يسيطر على شرق البلاد وجنوبها، في ظلّ غياب الشفافية حول الوجهة النهائية لهذه الأموال. وقد أشارت تقارير موثوقة إلى عمليات تهريب النفط الخام والوقود المُكرَّر من شرق ليبيا، والأرجح بموافقة شركة النفط الوطنية.
والأسوأ من ذلك هو أنّه في حال أخفقت الهيئة الجديدة في التطبيق، فقد تتسبّب بارتباك بيروقراطي وتحفّز على الفساد وتقوّض عمل الحكومة المركزية غير الفعّالة بالأساس. لكن كلّ الآمال معلّقة على أن تساعد القوانين التي ستضعها اللجنة والمُقرّر نشرها في الأسابيع المقبلة، على تبديد بعض هذه المخاوف.
قد مثّل التحوّل السياسي المُضطرب الذي شهدته ليبيا على مدى العقد الماضي، مراراً وتكراراً، قانون العواقب غير المقصودة. بالتالي، سيكون من الصعب جدّاً على لجنة مؤقّتة، تعمل تحت الإكراه السياسي لتنفيذ مهام معقّدة، أن تحقّق إصلاحات كبيرة. وقد تكافئ مفسدي الإنتخابات والمخرّبين بالإبقاء على الوضع الراهن.
ليبيا بحاجة ماسة للابتعاد عن نموذج هيئات الحوكمة المؤقّتة والتوصّل إلى تسوية سياسية دائمة تعزّز الشفافية الحقيقية والإنفاق الحكومي العادل. وبالتالي، مجرّد إنشاء لجان جديدة أو إجراء انتخابات لن يحلّ هذه المسائل؛ المطلوب هو حوار وطني جادّ ودستور متّفق عليه.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفَين حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.