في أواخر فبراير الماضي، أطلق الرئيس التونسي قيس سعيّد ادّعاءات تحريضية ضدّ الأفارقة من جنوب الصحراء في البلاد. وشدّد على أن “جحافل” المهاجرين غير الشرعيين يشكّلون “ترتيباً إجراميّاً” لتغيير تركيبة تونس العرقية وطمس هويّتها العربية الإسلامية، متّهماً إياهم بالتسبّب في موجة من “العنف والجرائم والممارسات غير المقبولة”، ومطالباً باتخاذ “إجراءات عاجلة لوقف تدفّقهم إلى البلاد”.
أثار خطاب سعيّد في آنٍ ردّ فعل عنيف من المجتمع المدني وموجة عنفٍ ضدّ ذوي البشرة السوداء في تونس، بمن فيهم مواطنيها. واتّهم المراقبون التونسيون والأجانب على حدّ سواء سعيّد باستخدام خطاب الكراهية وتشجيع العنصرية واستعارة نظرية “الاستبدال العظيم” التي يستخدمها اليمين الفرنسي المتطرّف لشيطنة المهاجرين من شمال أفريقيا. نفت حكومة سعيّد هذه المزاعم، وادّعت أن هذه الضجّة برمّتها ليست إلّا “حملة خارجية ضدّ تونس”.
لكن بعد خطابه، شنّت السلطات حملة على المهاجرين من جنوب الصحراء، واعتقلت الكثيرين ممن لا يملكون تصاريح إقامة. حفّزت تعليقات سعيّد أيضاً هجمات عنصرية من بعض المدنيين التونسيين الذين اعتدوا على مهاجرين بغض النظر عن وضعهم القانوني، ووصل الأمر ببعض أصحاب العقارات إلى طرد مئات المهاجرين من منازلهم، ومن ضمنهم أطفالاً ونساء حوامل، خوفاً من الغرامات الباهظة أو السجن.
في بعض الحالات، استهدف العنف أيضاً تونسيين من ذوي البشرة السوداء، الذين يشكّلون نسبة 10 في المئة من السكّان. ممّا يؤشِّر إلى مشكلة أعمق في العلاقات العرقية في البلاد، والمستمرّة على الرغم من كون تونس الدولة الوحيدة في المنطقة التي تجرّم التمييز العنصري بقانون صادر في العام 2018.
تعتقد نسبة حوالي 80 في المئة من المشاركين في استطلاع الباروميتر العربي للعام 2021-2022 أنّ التمييز العنصري مشكلة خطيرة، وهي أعلى نسبة في الدول العربية العشرة التي شملها الاستطلاع. وقالت نسبة 63 في المئة إنّ التمييز ضد ذوي البشرة السوداء مشكلة.
من هم المهاجرون من جنوب الصحراء الذين يعيشون في تونس؟
وفقاً لآخر مسح وطني للسكّان في العام 2021، يعيش أكثر من 21,400 أفريقي من جنوب الصحراء في تونس، ويشكّلون نحو ثلث الأجانب المقيمين في البلاد. في حين ازدادت أعدادهم ثلاثة أضعاف تقريباً منذ العام 2014، إلّا أنّهملا يتجاوزن نسبة 0,2 في المئة من مجمل السكّان، وهم أبعد من أن يُحدِثوا “تغييراً في التركيبة السكّانية للبلد”. كما أنّهم لا يمثّلون سوى أقلّية من السكّان ذوي البشرة السوداء في تونس.
عندما سُئِلت عيّنة من المهاجرين عن أسباب قدومهم إلى تونس، قال نصفهم إنّهم جاؤوا بحثاً عن عمل وفرصٍ اقتصادية أفضل، بينما جاء أكثر من ثلثهم بحثاً عن تعليمٍ أفضل. ولم يكن لدى ثلثيهم أي نيّة للبقاء في تونس بشكل نهائي، وأعربوا عن خططٍ للعودة إلى أوطانهم أو الانتقال إلى مكانٍ آخر. في الواقع، يعتبر الكثيرون أنّ تونس هي بوابة عبور إلى أوروبا، فيعملوا فيها بضعة أعوام لادّخار المال قبل الانضمام إلى آلاف الشباب التونسي في رحلاتٍ بحرية محفوفة بالمخاطر شمالاً نحو حياة يأملون أن تكون أفضل.
وإذا ما نظرنا عن كثب إلى التركيبة السكّانية بناءً على مسح 2021، يتبيّن أن متوسّط أعمار المهاجرين من جنوب الصحراء لا يتجاوز 27 عاماً؛ ثلثاهم ذكور، وثلثهم من ساحل العاج. اجتازت نسبة حوالي 40 في المئة من المهاجرين التعليم الثانوي، وقد حصلت نسبة 27 في المئة منهم على شهادة جامعية. من بين المهاجرين الذين تتجاوزت أعمارهم 15 عاماً، 42 في المئة فقط يعملون. ويشير كثيرون إلى أنّ صعوبة العثور على عمل هي سبب رئيسي لرغبتهم في مغادرة تونس.
في الواقع، لا تزال البطالة في تونس من بين أعلى المعدّلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم. ويضطر الكثير من المهاجرين غير النظاميين الآتيين من بلدان جنوب الصحراء بسبب معدّلات البطالة العالية ووضعهم غير القانوني لأن يقبلوا بوظائف تتطلّب مهارات متدنية بالحد الأدنى للأجور ومن دون أي حماية وظيفية – لا عقود عمل أو حماية للأجور أو تأمين صحّي. وعادةً يعملون في وظائف يتجنّبها الشباب التونسي مثل الخدمة المنزلية أو أعمال البناء.
تأتي محنة المهاجرين في سياق أوسع من التحدّيات الهيكلية المتنوّعة التي تواجهها تونس، والتي عمّقتها جائحة فيروس كورونا المُستجدّ. فالدَّيْن العام مرتفع وهو في منحى تصاعدي. معدّل التضخّم تجاوز مستويات العام 2011 وهو مستمرٌ في الارتفاع، ممّا يقلّل من القوة الشرائية للأفراد. كما أنّ تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر تنخفض.
على الجبهة السياسية، الناس غير راضين ومُشتّتين بشكل متزايد، وهذا ما أظهرته نسبة المشاركة المُنخفضة بشكل قياسي في الانتخابات الأخيرة. كذلك تقمع حكومة سعيّد خصومه، وتعتقل شخصيّات مُعارضة، وهو ما وصفته منظّمة العفو الدولية بـ”حملة ضدّ المعارضين ذات دوافع سياسية”. تتعارض كلّ هذه الأحداث مع آمالٍ كبيرة بمستقبل ديمقراطي حملها التونسيين بعد ثورة 2011.
وقد أثارت تحرّكات سعيّد الأخيرة بعض التظاهرات الغاضبة. في 26 فبراير الماضي، تجمّع المئات في العاصمة للتنديد بخطاب سعيّد المُناهض للهجرة ورفعوا شعارات مثل “تسقط الفاشية، تونس أرض أفريقية”. وبعد أسبوع، احتشد الآلاف في تظاهرة ضدّ الحملة القمعية نظّمها الاتحاد العام التونسي للشغل.
يعتقد الكثيرون أنّ خطاب سعيّد المُناهض للهجرة والداعي إلى الاعتقاد بالمؤامرة ليس سوى تكتيكاً لصرف الانتباه عن المعضلات الحقيقية التي تواجهها البلاد، إذ يستخدم المهاجرين الأفارقة ككبش فداء عن المشكلات الاقتصادية والسياسية المُتفاقمة. وتتمثّل النتيجة بعيش المهاجرين من جنوب الصحراء في خوفٍ وغالباً في الشوارع. يحاول الكثيرون منهم مغادرة البلاد بعد تعرّضهم للمضايقات والاعتداءات، وقد سجّل المئات أسماءهم في سفاراتهم مطالبين بإعادتهم إلى أوطانهم، ومن ضمنهم أكثر من ألف شخص من أصل 7 آلاف من ساحل العاج مقيمين في تونس.
بدلاً من إصلاح قوانين الهجرة للسماح للاجئين والطلّاب وأصحاب المهارات المطلوبة بالاندماج في المجتمع التونسي، اختار سعيّد استخدامهم كورقة سياسية. لكن كلفة هذه الخطوة أتت باهظة. وبالفعل تشتدّ التوتّرات مع الدول الأفريقية، إذ أصدر الاتحاد الأفريقي بياناً حذّر فيه من “خطاب الكراهية العنصرية”، وأرجأ مؤتمراً بشأن التصدّي للتدفّقات المالية غير المشروعة كان من المقرّر عقده في تونس في منتصف مارس الحالي. كذلك، أوقف البنك الدولي المحادثات بشأن تمويل مستقبلي، ممّا قد يطيح بخطّة الإنقاذ مع صندوق النقد الدولي التي تحتاجها تونس بشدّة. مهما كانت دوافع سعيّد وراء تشديد الخناق على المهاجرين، فقد كانت واقعة سيّئة على جميع المعنيين، وتضيف إلى مشاكل تونس التي لا تُعدّ ولا تُحصى.