رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد يُلقي خطابه خلال حفل التدشين الرسمي لسد النهضة الكبير في قوبا، بتاريخ 9 سبتمبر 2025. (تصوير: لويس تاتو/وكالة الصحافة الفرنسية).

التوتّرات تتصاعد على ضفاف النيل مع بدء تشغيل سدّ النهضة الإثيوبي 

على الرغم من سنوات المفاوضات بشأن سدّ النهضة الكبير وتداعياته على توزيع مياه النيل، اكتمل المشروع من دون التوصّل إلى اتفاق. فماذا بعد؟ 

25 سبتمبر، 2025
أحمد مرسي، تسدينيا جيرماي

بعد أعوام من التوتّرات المتصاعدة بين دول حوض النيل بسبب خطط إثيوبيا لبناء سدّ النهضة الكبير في مصبّ النهر، دُشّن المشروع أخيراً في 9 سبتمبر الجاري من دون التوصّل إلى اتفاق جديد بشأن تقاسم موارد النيل المائية الحيوية. بالنسبة إلى مصر والسودان، الواقعتين في مصبّ النهر ، يُنظر إلى النزاع المستمرّ مع إثيوبيا على المياه باعتباره أزمةً وجوديةً تُعيد أيضاً رسم ميزان القوى في المنطقة. 

أنهى سدّ النهضة الوضع المميّز الذي تمتّعت به مصر طويلاً في ما يتعلّق بتوزيع مياه النيل، حيث احتكرت القرار فعلياً، فيما أفضت خطوة إثيوبيا لعرقلة تدفّق المياه إلى نقل مركز الثقل السياسي إلى منبع النهر. في الواقع، تحتلّ المياه موقعاً محورياً في مقاربة إثيوبيا لتعزيز نفوذها الإقليمي وشرعيتها الداخلية، وهو مسار عمّقه رئيس الوزراء آبي أحمد منذ وصوله إلى السلطة في العام 2018. ويجسّد السدّ هذه الإستراتيجية، إذ يجمع بين طموحات إثيوبيا في توليد الكهرباء، وتحقيق النمو الاقتصادي، وتعزيز مكانتها الجيوسياسية الأوسع. كما يرتبط المشروع أيضاً بمسعى إثيوبيا لاستعادة منفذ على البحر الأحمر، فبعد أن فقدته مع استقلال إريتريا في العام 1993، عاد مؤخراً كأولوية وطنية. 

وعلى الرغم من أنّ سدّ النهضة يُعدّ إنجازاً بنيوياً ضخماً، يتجاوز أثره مسألة توليد الطاقة والتنمية. فتداخل الطموحات الداخلية مع التطلّعات الإقليمية لدى إثيوبيا يهيّئ الأرضية لاحتكاكات جديدة مع الجيران ومع أطراف خارجية على حدّ سواء. 

هشاشة مصر 

يؤدّي نهر النيل دوراً محورياً في تشكيل الحياة ومصادر التوتّر في بلدان حوض النيل، حيث قامت الحضارات على ضفافه وازدهرت على مدى قرون. ويعيش كلّ سكّان مصر تقريباً على ضفاف النهر، فيما يؤمّن النيل أكثر من 90 في المئة من مواردها المائية العذبة. لذلك ينطوي أيّ تغيير في أعالي النهر على تداعيات فورية على توافر المياه والزراعة والبنى التحتية. في العام 2010، رفضت مصر «اتفاقية الإطار التعاوني لحوض نهر النيل»، المعروفة أيضاً بـ«اتفاقية عنتيبي»، التي هدفت إلى إعادة تعريف مبدأ «الاستخدام المنصف»، واعتبرت أنّها تنتهك اتفاقيتي مياه النيل لعامي 1929 و1959 اللتين منحتا مصر والسودان حصصاً ثابتةً، بل وحقّ النقض على مشاريع في منبع النهر. أمّا إثيوبيا، فترى أنّ هذه الاتفاقيات، التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية، استبعدتها من حقها في الاستخدام العادل لمياه النيل. 

ومن دون الاعتراف بحقوقها التاريخية، ترى مصر نفسها في موقف عصيب لا تُحسد عليه أمام أيّ تغييرات في منبع النهر، خصوصاً في ظلّ النمو السكاني المستارع والضغوط الإضافية الناجمة عن تغيّر المناخ. وبموجب اتفاقية 1959، خُصّص لمصر 55.5 مليار متر مكعّب سنوياً، بينما تبلغ حاجتها الفعلية حالياً نحو 114 مليار متر مكعّب سنوياً. ويُظهر هذا العجز المتنامي سبب اعتبار القاهرة أيّ مساس بحقوقها التعاقدية تهديداً وجودياً ومسألة أمن قومي. وقد اضطرت بالفعل إلى الاعتماد على إستراتيجيات بديلة للتصدّي لشحّ المياه، غير أنّ هذه الإجراءات لا تغطي سوى جزء محدود من الطلب المتنامي. 

وفي السنوات الأخيرة، اتّخذت مصر خطوات للحدّ من هشاشتها أمام التهديدات الخارجية والتعامل مع شحّ المياه، شملت بناء محطّات لمعالجة المياه، وتوسيع مشاريع تحلية المياه، وتقليص زراعة المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه. غير أنّ غياب اتفاق ملزم بشأن تدفّقات النيل في مواسم الجفاف يترك مصر مكشوفةً أمام المخاطر. وقد دعت القاهرة مراراً إلى وضع إطار قانوني يضمن حدّاً أدنى من التدفّقات المائية ويضمن التنسيق بين دول الحوض في سنوات الجفاف، لتصبح هذه المطالب جوهر موقفها التفاوضي وأبرز أوجه الاختلاف والعقبات التي تعرقل المحادثات. 

وتؤكّد مصر أنّ حماية مصالحها المائية لا تتعارض مع أهداف إثيوبيا التنموية، شريطة التزام جميع الأطراف بالمبادئ القانونية المنظّمة للأنهار العابرة للحدود، بما في ذلك مبدأ الاستخدام المنصف وواجب منع الضرر الجسيم. وقد وصفت القاهرة إجراءات إثيوبيا بأنّها انتهاك لهذه المبادئ، وحذّرت من أنّ أيّ تعطيل إضافي قد يدفعها إلى اتّخاذ خطوات قانونية ودبلوماسية بموجب القانون الدولي. أمّا خيار استخدام القوة لتعطيل السدّ فقد أصبح مستبعداً في هذه المرحلة، على الرغم من التصريحات المتشدّدة التي صدرت عن بعض النواب المصريين في العام 2013. 

سدّ النهضة أساسي في مشروع بناء الدولة الإثيوبية تحت قيادة آبي أحمد 

فيما تبقى المحادثات الخارجية عالقة في طريق مسدود، يتطلّب فهم مقاربة إثيوبيا النظر إلى الكيفية التي اندمجت فيها البنية التحتية المائية منذ زمن بعيد في مشروع بناء الدولة. 

في ستينات القرن الماضي، روّج الإمبراطور هيلا سيلاسي لمشاريع تحديث مثل سدّ كوكا، بينما حقّقت جهود إدارة المياه بقيادة نظام «الدرج» نجاحاً محدوداً. وفي العقد الأول من الألفية الجديدة، وسّعت «الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية» القدرة الكهرومائية عبر مشاريع مثل سدّ تكيزي وسدّ جلجل جيبي 3، لكن سدّ النهضة يفوق كل المبادرات السابقة حجماً وأهمّيةً. 

بدأ العمل بالمشروع في العام 2011، وهو ليس مجرّد مشروع بنية تحتية محلّي، بل ركيزةً أساسيةً في إستراتيجية إثيوبيا الجيوسياسية ونداءً جامعاً للوحدة الوطنية. ومن المتوقّع أن يضاعف السدّ إنتاج إثيوبيا من الكهرباء، ما يغذّي مسيرة التنمية الاقتصادية والتوسّع الصناعي. كما أنّه يرمز إلى إصرار إثيوبيا على تجاوز المظالم التاريخية. فمنذ دخول أول توربين إلى الخدمة في العام 2022، أخذ إنتاج الكهرباء يتوسّع تدرّجياً، وعندما تعمل جميع التوربينات ستصل قدرة السدّ إلى 5,150 ميغاواط، ليصبح واحداً من أكبر 20 سداً كهرومائياً في العالم. 

على الصعيد الداخلي، قدّمت الحكومة السدّ باعتباره دليلاً على صمود إثيوبيا واعتمادها على الذات، وجمعت الدعم الشعبي عبر بيع السندات وحشد التمويل الجماعي، مستخدمةً المشروع لترسيخ الشرعية وتعزيز المشاعر القومية. وقد ساعدت هذه السردية في إذكاء مشاعر الفخر الوطني وإبراز الحزب الحاكم السابق «الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية» كقوة دافعة وراء مسيرة تحديث البلاد. وبالمثل، منذ أن تولّى حزب الازدهار مقاليد الأمور والسلطة، وظّف السدّ ومشاريع البنية التحتية الكبرى الأخرى لحشد الدعم المحلّي وتعزيز الشرعية على المستويين المحلّي والإقليمي. 

غير أنّ رؤية إثيوبيا تتجاوز الرمزية الوطنية والتنمية المحلّية. يُعدّ سدّ النهضة محورياً في خطتها لتوسيع صادرات الكهرباء إلى الدول المجاورة، بما في ذلك كينيا وجيبوتي والسودان وجنوب السودان، بما يتيح لها تعزيز التكامل الاقتصادي وتعزيز نفوذها الإقليمي. 

فشل جهود الوساطة والطريق إلى الأمام 

على مدى العقد الماضي، فشلت المفاوضات بشأن السدّ، التي قادها الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة إلى جانب أطراف أخرى، في التوصّل إلى اتفاق ملزم. تفضّل إثيوبيا مقاربةً مرنةً وسياديةً لإدارة السدّ، بينما تصرّ مصر على ضمانات قانونية ثابتة. أمّا السودان، الغارق في حرب أهلية، فقد تراجع دوره في الجولات الأخيرة من المفاوضات، على الرغم من تعرّضه في السنوات الأخيرة لفيضانات النيل. 

تبقى المسألة الجوهرية العالقة هي كيفية إدارة فترات الجفاف. ففي مطلع العام 2020، وفي خلال المحادثات في واشنطن، اقترح الوسطاء تدابير للتخفيف من أثر سنوات الجفاف والأزمات الممتدة. وتضمّن المقترح قواعد للتدفّقات المائية الدنيا لضمان تدفّق المياه نحو دول المصب، مع السماح لإثيوبيا بتوليد معظم قدرتها المخطّطة من الطاقة الكهرومائية. وافقت مصر والسودان على المسودة، فيما انسحبت منها إثيوبيا في النهاية. وقال مسؤولون مصريون إنّ أديس أبابا رأت الآليّة مقيّدة أكثر مما ينبغي، بينما عدّت إثيوبيا الوسطاء منحازون إلى القاهرة. وقد أدّى انهيار تلك المحادثات إلى ترسيخ مناخ من انعدام الثقة وغياب ترتيبات عملية للتعامل مع فترات الجفاف، وهو ما طبع جولات التفاوض اللاحقة. 

وبحلول العام 2023، وبعد جولات إضافية عقيمة، أعلنت مصر أنّ مسار سدّ النهضة وصل إلى طريق مسدود، ملقيةً اللوم على رفض إثيوبيا المتكرّر للآليّات القانونية والفنية. وقد عمّق هذا الشعور بالجمود شكوك إثيوبيا تجاه الوساطات الخارجية، وزاد الأمر سوءاً في العام 2025 عندما صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنّ السدّ «بُني بأموال الولايات المتّحدة إلى حدّ كبير»، وهو تصريح رفضته إثيوبيا علناً وعدّته زائفاً ومسيئاً. ومع تراجع صورة واشنطن كوسيط محايد، وتعثّر المبادرات الإقليمية والمتعدّدة الأطراف، تُرك النزاع من دون منصّة تفاوضية فعّالة. 

في نهاية المطاف، سيتعيّن على البلدين الجلوس والتفاوض مباشرةً بشأن المسار المستقبلي. قد تساعد الأطراف الخارجية في تيسير هذه العملية، لكن أيّ نتيجة مستدامة تعتمد بالدرجة الأولى على قدرة مصر وإثيوبيا على التوافق بينهما. ومع تدشين سدّ النهضة وتعثّر المسار الدبلوماسي، تبرز الحاجة الملحّة إلى وسطاء من أطراف ثالثة أكثر مصداقيةً ويمكنهم المساهمة في إعادة بناء الثقة بين الطرفين. ونظراً لما تتمتّع به من علاقات إقليمية وتأثير اقتصادي، فقد تكون دول مثل تركيا أو الإمارات العربية المتّحدة أو المملكة العربية السعودية في موقع أفضل لإعادة تفعيل القناة الدبلوماسية واستقرارها ودعم الجهود المستقبلية. 

لا تزال الخيارات السياسية الكامنة في قلب النزاع تعرقل التوصّل إلى اتفاق. ويتعيّن على الطرفين الانخراط بحسن نية مع الواقع الجديد. فأيّ إطار عمل قابل للتطبيق يجب أن يبدأ بإرساء الثقة والتركيز على أهداف ضيّقة وعملية، مثل التنسيق في خلال سنوات الجفاف، وتبادل البيانات في الوقت الفعلي، ووضع حدود على الإجراءات الأحادية. أمّا المقاربات الأوسع أو الاتفاقات الشاملة فهي مهدّدة بالانهيار تحت وطأة الحسابات السياسية. 

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

 

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية، العلاقات الإقليمية
البلد: مصر

المؤلّفون

زميل زائر
أحمد مرسي هو زميل زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، حيث يعمل على الديناميات الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية المترابطة بين منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي. وتضمّ اهتماماته البحثية السياسات الخارجية والأمنية في الشرق الأوسط، والإصلاحات السياسية في العالم العربي.  وهو أيضاً باحث أول مشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث… Continue reading التوتّرات تتصاعد على ضفاف النيل مع بدء تشغيل سدّ النهضة الإثيوبي 
منسقة التواصل والإعلام
تسيدنيا جيرماي هي منسقة التواصل والإعلام، مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وحصلت على بكالوريوس العلوم في الشؤون الدولية مع تخصص السياسة الدولية، وتخصص فرعي في الدراسات الأفريقية من كلية الخدمة الخارجية في جامعة جورجتاون في قطر.