بعثَ تعيين رئيس الوزراء العراقي، محمد شيّاع السوداني، في أكتوبر الماضي الحياة مُجدّداً في قوّات الحشد الشعبي. وهي شبكة مليشيات تشكّلت في العام 2014 لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وسرعان ما تحوَّلت إلى قوّة سياسية وازنة، وحقّقت نتائج لافتة في الانتخابات البرلمانية لعام 2018، قبل أن تواجه سلسلة من الانتكاسات، بدأت باغتيال شخصيّات بارزة ضمنها ووصلت إلى انشقاق الفصائل القوّية عنها. عدا أنّ دور بعض مكوّناتها في قمع موجة الاحتجاجات الشعبية المناهضة لإيران أثّر بشكل كارثي في سمعتها.
عزّز صعودُ السوداني المكانةَ السياسية والاقتصادية للشبكة مُجدّداً، بدعم من لاعبٍ قوي، وهو رئيس الوزراء السابق والسياسي المُحنّك نوري المالكي، الذي كان له دور فعّال في صعود قوّات الحشد الشعبي قبل حوالي عقدٍ من الزمن. مع ذلك، تتقاسم فصائل قوات الحشد الشعبي المتبقية ولاءات الشيعة العراقيين مع أطراف أخرى، بحيث قد تتسبّب عودتها، كقوّة رئيسية في السياسة العراقية، في تأجيج التوتّرات بين الفضائل الشيعية والتنافسات الإقليمية.
صعود قوّات الحشد الشعبي
يصعب على المرء أن يبالغ في تقدير صعود الميليشيات الشيعية منذ الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003. ففي خلال العقدين الماضيين، تحوَّل بعض المجموعات من ميليشيات غير مُنظّمة إلى جهات فاعلة سياسية قويّة تفرض سيطرتها على الدولة العراقية. بعضها أطرافٌ سياسية راسخة منذ ما قبل العام 2003، مثل فيلق بدر المدعوم من طهران والذي تأسّس في خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات. أمّا بعضها الآخر، فجماعات موالية لإيران، مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، التي بنت على نجاحاتها في ساحات القتال ضدّ داعش لتصبح جهات فاعلة سياسية.
أدّت إيران دوراً رئيسياً في تشكيل عدد من هذه المليشيات. لقد عمل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني لسنوات مع البصراوي أبو مهدي المهندس لبناء شبكة إيرانية بالوكالة مُرتكزين إلى العلاقات الشخصية مع القادة والزعماء السياسيين الرئيسيين. وهو نموذج كرّرته طهران في أماكن أخرى في المنطقة. ربطت بالمهندس، اليد اليمنى لسليماني والسياسي المُحنّك، صلات تشغيلية وثيقة مع الحرس الثوري الإيراني. ومن موقعه كقائد لقوّات الحشد الشعبي وكتائب حزب الله، أدّى دوراً رئيسياً في تعزيز نفوذ إيران في النظام السياسي العراقي.
وبالتالي، يتبيّن أن شبكة الميليشيات الشيعية ترتكز على مجموعة من البُنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والأمنية غير الرسمية حتى قبل صدور فتوى رجل الدين الشيعي البارز آية الله علي السيستاني في العام 2014، التي دعا فيها أتباعه إلى الدفاع عن العراق بعد اجتياح داعش مناطق شاسعة في شمال البلاد.
شكّلت هذه الفتوى نقطة تحوّل، إذ ضمّت المجموعات الموالية لإيران وما يُسمّى بميليشيات الأضرحة تحت مظلّة الحشد الشعبي، ومنحت الشبكة غطاءَ الشرعيتين الوطنية والدينية العراقية. وبحلول الوقت الذي هُزِمت فيه داعش، كانت قوات الحشد الشعبي قد نُظّمت واكتسبت شعبية بما يكفي لتحلّ في المرتبة الثانية في انتخابات 2018، عندما فازت بـ 57 من أصل 329 مقعداً في المجلس التشريعي. وبالتالي، تبلورت مكانتها كعنصر ثابت في المشهد السياسي والأمني.
الهزائم والانشقاقات
لكن في خلال السنوات التالية، واجهت الشبكة سلسلة من النكسات. أوّلاً، اغتيل سليماني والمهندس في غارة جوّية أمريكية عبر طائرة من دون طيّار في يناير 2020 بالقرب من مطار بغداد. أثار الفراغ في القيادة انقسامات داخلية وأكدّ على خسارة إيران رجلين ضمنا تركيز وكلائها الداخليين على الأهداف الاستراتيجية طويلة المدى بدلاً من التورّط في السياسة اليومية. أيضاً دفعت عمليتا الاغتيال الفصائل الرئيسية في الحشد الشعبي للجوء إلى حضن رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب الدعوة الإسلامية، نوري المالكي، بحثاً عن الاسترشاد والتوجيه خصوصاً أنه ساهم في خلال فترة حكمه في تعجيل صعود الحشد الشعبي.
إلّا أنّ الأسوأ كان ينتظر قوّات الحشد الشعبي. ففي منتصف مارس 2020، انفصل عدد من الفصائل عن مظلّة الحشد الشعبي ووضعت نفسها تحت سلطة القوات المسلّحة العراقية. وكانت هذه الخطوة مهمّة نظراً لتحالف هذه المجموعات مع آية الله علي السيستاني ولمقاومتها عبر السنين للنفوذ الإيراني قبل اضطرارها للانضمام إلى قوّات الحشد الشعبي التي تُهيمن عليها إيران بسبب تهديد داعش. فضلاً عن ذلك، نال الحشد الشعبي مباركة السيستاني في البداية، ما وفّر له غطاءً وطنياً ومنحه الشرعية الدينية، لكن انسحاب الفصائل الموالية للسيستاني، ترك الوكلاء المدعومين من إيران تحت غطاء ديني محدود وقلّل نفوذهم السياسي.
وصل الحشد الشعبي إلى أدنى مستوياته في العام 2018، عندما قمعت فصائل متحالفة مع إيران المدنيين في خلال احتجاجات تشرين، التي طالبت بتحسين الخدمات العامّة، وخلق الوظائف، ومكافحة الفساد، ووضع حدّ للتدخّل الإيراني في البلاد. وقد انعكس تراجع شعبيّته في الانتخابات البرلمانية لعام 2021 عندما انخفضت مقاعد الحشد الشعبي من 57 إلى 17 مقعداً فقط، على عكس منافسهم الرئيسي، مقتدى الصدر، الذي حصد أتباعه 74 مقعداً بالمقارنة مع 54 مقعداً في الدورة التي سبقتها.
هل نشهد عودة لقوات الحشد الشعبي؟
لقد أتاح وصولُ السوداني إلى سدّة الحكم الفرصةَ لفصائل الحشد الشعبي المتبقية لإعادة تجميع صفوفها، أو على الأقلّ لتنويع مصادر إيراداتها وتوسيع شبكات المحسوبية الخاصة بها. ففي نوفمبر الماضي، وافق السوداني على إنشاء شركة “المهندس” التجارية التي تديرها قوّات الحشد الشعبي برأس مال تأسيسي لا يقلّ عن 67 مليون دولار.
وقد يكون هذا مؤشّراً لما سيأتي. لقد بدأت قوّات الحشد الشعبي التشبّه بفيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، الذي يُعدُّ تكتلاً اقتصادياً بالتوازي مع كونه أحد فروع القوات المسلّحة الإيرانية. يسيطر الحرس الثوري الإيراني على قطاعات رئيسية عديدة في الاقتصاد الإيراني من خلال الشركات القابضة والصورية والمؤسّسات الخيرية التي يملكها، في حين لا تزال الميليشيات العراقية أبعد من القوّة الاقتصادية للحرس الثوري الإيراني.
بداية، لديها خصوم على قيادة الشيعة في العراق، وأوّلهم الصدر الذي يعتبر نفسه الزعيم الشرعي للشيعة. سياسياً، يحظى الصدر بتأييد نحو ثلاثة ملايين شيعي عراقي، وهو ما انعكس في نجاحه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. كذلك يُعتبر نفسه وريثاً لوالده، محمد محمد صادق الصدر، الذي عُيِّن مرجعاً دينياً في خلال نظام البعث قبل العام 2003. وفي حين لا يمتلك الصدر الإبن، حتّى الآن، المؤهّلات الدينية لخلافة السيستاني كسلطة عليا، إلّا أنّ جمعه بين النفوذ الديني والسياسي يجعله منافساً قوياً لقيادة الطائفة الشيعية، ويضعه على خلاف مع قوّات الحشد الشعبي وحلفائها السياسيين مثل حزب الدعوة الإسلامية بزعامة المالكي.
وبالفعل لقد هدّد الصراع على السلطة بين الحشد الشعبي والصدر بإشعال مزيدٍ من العنف في العراق. في الصيف الماضي، دُفِعت البلاد إلى شفا حرب أهلية بعد إشتباكات بين الصدريين وقوّات الحشد الشعبي، انزلقت إلى صراعٍ مفتوح، وأدّت إلى اقتحام الصدريين البرلمان. وعلى الرغم من تجنّب حرب أهلية في نهاية المطاف، بقي خطر عودة الاشتباكات راكداً تحت الجمر. ظهر نوّاب عصائب أهل الحق مؤخراً على شاشة التلفزيون الوطني لتحذير منافسيهم من محاولة فرض أجندتهم السياسية على رئيس الوزراء السوداني. وكان لهذه الخطوة أيضاً تأثير ثانوي تُرجِم إلى تقييد السوداني من تقديم تنازلات في المفاوضات مع الأطراف الخارجة عن فلك نفوذ إيران. لذلك، قد تؤدّي محاولة السوداني لاقتلاع موالي الصدر من مؤسّسات الدولة إلى ردّ تصعيدي من معسكر الأخير.
أخطار التصعيد
أظهرت أحداث الصيف الماضي أنّ الهدوء الظاهري منذ تعيين السوداني يمكن خرقه بسهولة نتيجة التناحر بين القوى الشيعية، ناهيك عن صراع القوى الإقليمية المستمرّ منذ عقود ضمن الأراضي العراقية، وخصوصاً بين المملكة العربية السعودية وإيران. وأيضاً قد تؤدّي الاحتجاجات المستمرّة في إيران إلى تعقيد الأمور. يجب على السوداني معالجة المظالم الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي أشعلت فتيل احتجاجات تشرين، الذي يُهدّد اشتعالها مُجدّداً بتجديد الاشتباكات بين الصدر وقوّات الحشد الشعبي، بل وعودة الصراع الأهلي.
غير أنّ قوّات الحشد الشعبي باقية لا محالة على الرغم من وجود منافسين لها. فهي متجذّرة بعمق داخل الدولة العراقية، وقد حقّقت قفزة لافتة بعد هزيمتها الانتخابية الأخيرة على الرغم من المعارضة الشعبية الواسعة. مع ذلك، سوف تستمر المنظّمة في مواجهة التحدّيات. لقد كشفت اشتباكات العام الماضي عن نقاط ضعف الميليشيات الشيعية، ولا سيّما الحشد الشعبي، فضلاً عن قدرتها على الصمود في وجه معارضة شرسة. في نهاية المطاف، سوف تُحدَّد الديناميكيّات ضمن القوى الشيعية مستقبل قوّات الحشد الشعبي والميليشيات عموماً.