منذ اشتعال الصراع غير المسبوق بين إسرائيل وحماس في 7 أكتوبر الحالي، تحاول الدول الخليجية تهدئة الأزمة ومنع إشعال حربٍ إقليمية كارثية يُجرّ إليها حلفاء إيران ولا سيما حزب الله في لبنان، المجموعات المُسلّحة في سوريا، والمتمرّدين الحوثيين في اليمن.
صحيح أنّ دول مجلس التعاون الخليجي كافة أجمعت على الحاجة إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار ووصول المساعدات الإنسانية إلى غزّة، إلّا أنّ ردودها الفردية إزاء الأزمة جاءت متفاوتة بشكل ملحوظ. وبينما حافظ بعضها على موقفها التقليدي في دعم حقوق الفلسطينيين والدعوة إلى حلّ الدولتين، وجدت الدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل في خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب نفسها في وضع حرج، فيما تقصف إسرائيل القطاع المُكتظّ بالسكّان ويحتشد المتظاهرون في العالمين العربي والإسلامي في الشوارع.
التوازن الحسّاس
تحاول الإمارات العربية المتّحدة والبحرين، اللتان وقّعتا على «اتفاقيات أبراهام» في العام 2020، بحذر موازنة علاقاتهما مع إسرائيل والولايات المتّحدة في ضوء التأييد القوي للفلسطينيين بين مواطنيهما والمقيمين، إلّا أنّ مقتل مئات الفلسطينيين وجرح مئات آخرين في قصف المستشفى الأهلي المعمداني في قطاع غزة في 17 أكتوبر، أجبر أبو ظبي والمنامة على تبنّي خطاب أكثر حدّة، وإلقاء اللوم على إسرائيل و«إدانتها بشدّة». مع ذلك، وعلى الرغم من تماهيهما مع شركائهما في مجلس التعاون الخليجي، لم يصل بهما الأمر إلى اختبار علاقاتهما مع إسرائيل. وقد يكون هذا التحوّل الدقيق في اللهجة مرتبطاً بضغوط الرأي العام بشأن الصراع الذي أدّى إلى قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين.
كانت الدول الأخرى في مجلس التعاون الخليجي أكثر حدّة في إدانتها لإسرائيل وسياساتها المديدة التي أدّت إلى الأزمة الأخيرة. على سبيل المثال، أدانت قطر إسرائيل على تصعيد العنف وقصف المستشفى، ووصفته بأنه «مجزرة وحشيّة، وجريمة شنيعة». لطالما كانت قطر وسيطاً بين إسرائيل وحماس، وأدّت بالفعل دوراً فعّالاً في التفاوض على إطلاق سراح رهينتين أمريكيتين في 20 أكتوبر كانت حماس قد احتجزتهما.
وقد دعت المملكة العربية السعودية، من جانبها، إلى وقف فوري لإطلاق النار وإعادة تفعيل اللجنة الرباعية الدولية المعنية بالشرق الأوسط لإحياء جهود السلام الإقليمية. وعقدت منظّمة التعاون الإسلامي اجتماعاً عاجلاً بقيادة السعودية من أجل تحديد موقف موحّد ضدّ العدوان الإسرائيلي. وكان الاجتماع لافتاً، إذ حضره وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، الذي التقى أيضاً بنظيره السعودي لإجراء مناقشات ثنائية، بعد سبعة أشهر من توقيع القوّتين الإقليميتين الكبرتين على اتفاق للتهدئة وإنهاء سنوات من التوتّرات.
وشكّلت هذه الاجتماعات جزءاً من موجة ديبلوماسية مُكثّفة بذلتها الجهات الفاعلة في مجلس التعاون الخليجي وخصوصاً الرياض والدوحة. يشعر المسؤولون الخليجيون بقلق عميق إزاء الصراع الذي قد يُجرّ إليه حلفاء إيران، ولا سيما حزب الله في لبنان، ويتسبّب في مزيد من التصعيد في جميع أنحاء المنطقة. ناقش ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الأزمة في الاتصال الهاتفي الأول بينهما منذ تقاربهما في مارس الماضي.
تختلف علاقة المملكة العربية السعودية مع إسرائيل بشكلٍ كبيرٍ عن علاقات الدول الخليجية الأخرى معها، إذ إنّ دورها كوصي على أقدس مقامين في الإسلام يضع قيادتها في وضع صعب ودقيق عندما يتعلّق الأمر بالعلاقات مع إسرائيل، وخصوصاً في خلال الأزمة التي أشعلتها، جزئياً، الاستفزازات الإسرائيلية في المسجد الأقصى في القدس، ثالث المقامات قدسية في الإسلام. سيكون التطبيع مع المملكة العربية السعودية بالنسبة إلى إسرائيل جائزة أكبر من جائزة التطبيع مع الإمارات العربية المتّحدة أو أي دولة أخرى في مجلس التعاون الخليجي، ويعود ذلك تحديداً إلى الأهمّية الدينية للمملكة، فضلاً عن نفوذها الاقتصادي والسياسي. إذا قرّرت المملكة العربية السعودية التطبيع، فيمكن أن تحذو حذوها دول أخرى ذات الغالبية المُسلمة مثل إندونيسيا وماليزيا. قبل أسابيع قليلة من صراع أكتوبر، قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لشبكة فوكس نيوز: «كل يوم نقترب أكثر» من التطبيع، مضيفاً أنّ الصفقة يجب أن تسهّل حياة الفلسطينيين. ومن المرجّح أن يكون العنف ضدّ غزة قد جمّد هذه العملية إلى أجل غير مُسمى.
قد تكون قطر الدولة الخليجية الأكثر انخراطاً دبلوماسياً في أزمة غزّة. وهي لم تعارض علناً تهجير إسرائيل القسري للفلسطينيين من خلال القصف الإسرائيلي العشوائي والعقاب الجماعي فحسب، بل انخرطت أيضاً في دبلوماسية مكوكية من أجل وقف فوري لإطلاق النار وتوصيل المساعدات إلى الأراضي المحاصرة. ودافع وزير الخارجية الشيخ محمد آل ثاني عن قرار قطر بإبقاء مكتب حماس في الدوحة مفتوحاً من أجل الحفاظ على قنوات للاتصال، وربّما التوسّط من أجل وقف إطلاق النار أو تبادل الأسرى. وكانت الشيخة موزا بنت ناصر قد نشرت صوراً للدمار في غزة على حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك صوراً لمركز تعليمي مدمّر ساعدت قطر في إنشائه.
وبالنسبة إلى الدول الأخرى في مجلس التعاون الخليجي، يعكس موقف الإمارات العربية المتحدة والبحرين المحايد إلى حدٍّ ما الاعتبارات المُتعلقة بتطبيعهما للعلاقات مع إسرائيل. دعت الإمارات العربية المتحدة في البداية إلى وقف التصعيد من دون ذكر الاحتلال الإسرائيلي حتّى، ومع تصاعد القصف على غزّة، تحوّل خطابها نحو التركيز على الأزمة الإنسانية في القطاع، حيث أعلنت عن تقديم مساعدات إنسانية بقيمة 20 مليون دولار.
وسلّطت مندوبة الدائمة لدولة الإمارات لدى الأمم المتّحدة، لانا نسيبة، الضوء على الأوضاع الكارثية التي يواجهها المدنيون في غزة، مضيفة أنّ «حماس لا تمثّل الشعب الفلسطيني أو شعب غزة»، فيما أعربت وزارة الخارجية الإماراتية عن “استيائها الشديد” إزاء التقارير التي تُفيد باختطاف مدنيين إسرائيليين. وظهرت تقارير على وسائل التواصل الاجتماعي تفيد بوصول طائرات عسكرية أمريكية إلى الإمارات العربية المتّحدة من أجل دعم إسرائيل، لكن وزارة الدفاع الإماراتية نفت هذه الادعاءات، مشيرة إلى أنّ وصول الطائرات الأمريكية إلى قاعدة الظفرة كان مُقرراً منذ أشهر.
الاحتجاجات والتبرّعات
من المرجّح أن تستمرّ الإمارات العربية المتّحدة والبحرين في سياسة النأي بالنفس عن الصراع مع التركيز على الأزمة الإنسانية ومن دون توجيه أصابع الاتهام إلى أي طرف. لكن مع تصاعد العنف يصبح من الصعب جداً الموازنة بين التمسّك بالالتزامات مع إسرائيل وعدم معارضة الرأي العام علناً. على الرغم من غياب مجتمع مدني قوي قادر على التأثير في سياساتهما الخارجية، ستسعي القيادتان الإماراتية والبحرينية جاهدة لتجنّب إثارة الغضب الشعبي سواء على المستوى المحلّي أو في المنطقة. ومن الجدير بالذكر أنّ المتظاهرين في البحرين قد نظّموا احتجاجات غاضبة ليس ضدّ الصراع في غزّة فحسب، ولكن أيضاً ضدّ التطبيع مع إسرائيل.
لم تبرز أي تقارير عن احتجاجات مماثلة في المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، ألقى إمام المسجد الحرام في مكّة خطبة سياسية في 13 أكتوبر الحالي، بالتأكيد أنها أتت بموافقة مُسبقة من السلطات. وقال: «اللهم، كن للمسلمين في فلسطين نصيراً ومساعداً ومدافعاً (…) وارحم موتاهم وأعطهم ثواب الشهادة». أمّا في الإمارات العربية المتّحدة، فلم تذكر خطبة الجمعة المتلفزة الفلسطينيين على الإطلاق، كما تمّ «تأجيل» فعالية تضامنية كانت مقرّرة في دبي، تحت عنوان «اركض من أجل فلسطين»، من دون تعليل الأسباب.
في الكويت وقطر، كانت الاحتجاجات أكثر نشاطاً. تجمّع آلاف المواطنين والمقيمين في 13 أكتوبر للاحتجاج ضدّ إسرائيل والتضامن مع الفلسطينيين. أمّا الكويت، وعلى الرغم من طردها قسم من سكّانها الفلسطينيين في التسعينيات بسبب دعم رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات غزو الدكتاتور العراقي صدّام حسين، فدافعت بقوّة عن القضية الفلسطينية وأكّدت أنّها ستكون آخر من يطبّع مع إسرائيل في المنطقة. لقد ساعدت الحياة السياسية الأكثر تعدّدية في الكويت على تشكيل سياستها.
كما احتجّ العمانيّون، ومن ضمنهم المفتي العام أحمد بن حمد الخليلي، ضدّ العدوان الإسرائيلي على غزة وأدانوا عجز العالم العربي عن وقفه. وتعتبر عمان التي تترأس حالياً مجلس التعاون الخليجي، أنّ التصعيد هو نتيجة الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني و«الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة على المدن والقرى الفلسطينية».
إلى جانب الجهد الدبلوماسي التي تبذله دول مجلس التعاون الخليجي ، جمعت التبرّعات لمساعدة غزة، حتى مع استمرار إغلاق معبر رفح الحدودي مع مصر. وفي اجتماع عقد في 17 أكتوبر، أعلن وزراء دول مجلس التعاون الخليجي عن مساهمات بقيمة 100 مليون دولار. كما نظّمت الشعوب الخليجية حملات تبرّع. وجمعت أكثر من عشرين منظّمة كويتية غير ربحية تبرّعات بقيمة 10 ملايين دولار، في حين أطلقت الإمارات العربية المتّحدة حملة لجمع الأموال من أجل إعادة الإعمار وغيرها من المساعدات للهلال الأحمر الإماراتي. وقدّمت جمعية الهلال الأحمر القطري العاملة داخل غزة مساعدات طبّية.
ستستمرّ الدول الخليجية على الأرجح في إظهار التضامن مع الشعب الفلسطيني وانتقاد العمليات الإسرائيلية ضدّ غزة علناً. وعلى الأرجح أنّها ستمتنع عن التواصل مباشرة مع إسرائيل، على الأقل علناً، لتجنّب غضب الشارع. قد تختار هذه الدول التواصل عبر وسطاء وخصوصاً الولايات المتحدة، ويتوقّع أن يكثّف جهودها الدبلوماسية من أجل إنهاء الصراع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت إحدى الدول الخليجية قادرة على تأدية دور فعّال في دفع إسرائيل نحو وقف إطلاق النار، أو أن تصبح وسيطاً رئيساً للسلام وتحديد ديناميّات المنطقة بمجرّد أن تهدأ المعركة في غزة.