لقد أشعل الانقلاب العسكري ضدّ رئيس النيجر الموالي للغرب، محمد بازوم، في يوليو الماضي، أزمة مُعقَّدة لا تخلو من عواقب خطيرة على المنطقة بأكملها. وهذا الانقلاب هو الأحدث ضمن سلسلة من عمليّات الاستيلاء العسكري على السلطة في منطقة الساحل الأفريقي، وقد أثار ردّ فعل حادّاً من فرنسا، القوّة الاستعمارية السابقة، التي لديها قوّات متمركزة في البلاد بحجّة محاربة المقاتلين الإسلاميين، وتعتمد على النيجر لتأمين نحو خمس احتياجاتها من اليورانيوم الذي يغذّي شبكتها الكهربائية العاملة على الطاقة النووية.
لكن التهديدات بعملية عسكرية لإعادة بازوم إلى السلطة بدعمٍ من باريس وبقيادة الأعضاء المتبقين في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، قد تؤدّي إلى تعميق المشاكل في منطقة الساحل الأفريقي، ليس إلّا. فالمنطقة تعاني أصلاً أزمات مُتصاعدة ومُترابطة نتيجة سوء الحوكمة والفقر وسوء التنمية وتغيُّر المناخ والإرهاب وانعدام الأمن، وتشتدّ الحاجة إلى جهود دبلوماسية من أجل تجنّب إضافة صراع جديد إلى القائمة.
تزايد المظالم
لم تكن إطاحة بازوم الأولى من نوعها في المنطقة. فقد أطاح قادة عسكريون بحكومة مالي في العام 2020، وبحكومتيْ تشاد وغينيا في العام التالي، وبحكومة بوركينا فاسو في يناير الماضي. وقد ذكر الجميع المظالم نفسها: ففي جميع أنحاء منطقة الساحل، شعرت الجيوش بالخيبة من الوجود المستمرّ للمجموعات المُتطرِّفة العنيفة، ومن ضمنها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم الدولة الإسلامية وبوكو حرام. وقد أقنعت الهجمات المُتكرِّرة التي شنّها الجهاديون ضدَّ الجيش والسكّان المحلِّيين الضبّاطَ في النيجر، أسوة بأقرانهم في منطقة الساحل، بضرورة التدخّل وإزاحة من اعتبروهم مدنيين غير أكفاء وغير قادرين على التصدّي للإرهاب.
وقد واجهت القوات الأجنبيّة أيضاً صعوبة كبيرة للقضاء على المجموعات المُتطرّفة، ما أدّى إلى تفاقم المظالم بين الجيش والشعب على حدٍّ سواء. كما وأنّ وجود القوّات الفرنسية لا يحظى بشعبية كبرى، ويعتبره الكثير من سكّان الساحل استعماراً جديداً. واللافت تظاهر آلاف النيجيريين المؤيّدين للانقلاب أمام السفارة الفرنسية في نيامي في الأيام التي تلت الانقلاب حيث أدانوا فرنسا، ملوِّحين بالأعلام الروسية في بعض الحالات، على الرغم من أنّ روسيا قد ندّدت بالانقلاب رسمياً.
وفي الوقت نفسه، استجابت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا للأحداث في النيجر باتخاذ حزمة من التدابير الاقتصادية العقابية، من ضمنها تعليق جميع المعاملات التجارية والمالية مع الدول الأعضاء الإحدى عشرة المُتبقية – بعد تجميد مقاعد كلّ من مالي وبوركينا فاسو وغينيا، والآن النيجر. ويحرص زعماء المجموعة على تجنّب «تأثير الدومينو» الذي قد يُهدِّد توغو وبنين وتشاد (مجدَّداً) وغيرها. ولذلك، اتخذوا كلّ الاستعدادات للتدخّل العسكري على حين غرَّة.
مع ذلك، تهدّد هذه التدابير بكارثة إنسانيّة. على الرغم من وفرة الذهب والنحاس والنفط واليورانيوم، فإنّ عدداً من دول الساحل تصنَّف من بين أفقر دول العالم. وكما قال لنا ضابط في الجيش النيجيري: «يعتمد اقتصاد النيجر على ثلاث ركائز: نيجيريا وليبيا والجزائر». وبالتالي، فإنّ إغلاق الحدود بهدف إعاقة التدفّق غير الرسمي للسلع من هذه البلدان إلى النيجر قد يتسبَّب بنقصٍ حادٍّ في الغذاء والأدوية وغيرها من الضروريات الأساسية، وقد تؤدّي هذه الأزمة الإنسانية بدورها إلى زيادة أعداد النيجريين الباحثين عن الأمان، ممّا يزيد المعاناة الإنسانية على طول طرق الهجرة غير النظامية في المنطقة.
هذا السيناريو مريع بالفعل، ولكن مخاطر التدخّل العسكري أسوأ بكثير. ومن الممكن أن تستغل المجموعات المُتطرِّفة العنيفة الفراغ الأمني الناتج عنه، وتعزِّز مواقعها في النيجر ونيجيريا وبوركينا فاسو ومالي المجاورة. تحتلُّ النيجر أيضاً موقعاً إستراتيجياً على طرق الهجرة في أفريقيا، إذ تشكّل ممرّ عبور إلى ليبيا، ونقطة انطلاق رئيسية للهجرة إلى أوروبا. وهذا ما قد يساعد في تفسير سبب عدم حصول فرنسا على الدعم المتوقَّع من حلفائها في الاتحاد الأوروبي للتدخّل العسكري في النيجر، إذ تعارض كلّ من ألمانيا وإيطاليا الأمر وتدعوان إلى حلّ دبلوماسي.
من شأن التدخّل العسكري في النيجر أن يؤدّي أيضاً إلى تفاقم الوضع غير المستقرّ أصلاً في ليبيا، حيث تربط بازوم صلات مع قبيلة أولاد سليمان. ففي أعقاب الانقلاب، سعت ليبيا إلى تأمين حدودها الطويلة مع النيجر، التي تُستخدَم للإتجار البشر وتهريب الأسلحة والمخدّرات والذهب، وكذلك التجارة غير الرسمية التي يعتمد عليها الكثير من السكّان لكسب لقمة العيش. وتستغلّ المجموعات المُتطرّفة من تهريب الأسلحة من ليبيا للقيام بعمليات في النيجر ومالي وبوركينا فاسو ونيجيريا. وتدخل الأسلحة إلى النيجر عبر الحدود الليبية عبر استخدام طرق التجارة القديمة عبر الساحل الأفريقي من أجل تجنّب أنظمة المراقبة التي وضعتها الولايات المتّحدة والنيجر. وقد يؤدّي الصراع المُسلَّح في النيجر إلى المزيد من إراقة الدماء على جانبي الحدود.
وقد أصرّت الجزائر المجاورة لليبيا على ضرورة التوصّل إلى حلّ سلمي للأزمة. وكونها أكبر دولة في أفريقيا من حيث المساحة، وتحدُّها كلّ من النيجر ومالي، للجزائر ذكريات مريرة عن تداعيات الصراع الليبي في العام 2011. وقد حذّرت من أنّها لن تتسامح مع تكرار هذا السيناريو الذي أجّج عقداً من العنف والأزمات السياسية في ليبيا. حظيَ موقف الجزائر بصدى إيجابي في الولايات المتّحدة، التي لديها قاعدة للطائرات من دون طيّار وحامية عسكرية فيها حوالي 1100 عنصر في النيجر، حيث قامت بتدريب قوَّات نيجيرية بمن فيهم بعض الضبَّاط المشاركين في الانقلاب.
وبالتالي، فإنّ استقرار النيجر مهمٌّ بالنسبة للجزائر، ليس بسبب التهديدات الإرهابية العابرة للحدود والجريمة المنظَّمة فحسب، بل أيضاً بسبب التأثير المُحتمل على مشاريعها الإقليمية المختلفة. وتشمل هذه المشاريع خطَّ أنابيب الغاز عبر الصحراء الذي يبلغ طوله 4100 كيلومتر ويهدف إلى ربط نيجيريا بالجزائر عبر النيجر وتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا، بالإضافة إلى الطريق السريع العابر للصحراء الذي يبلغ طوله 4800 كيلومتر ويربط الجزائر العاصمة ولاغوس ويعبر النيجر أيضاً. قد تعرِّض الحرب هذه المشاريع والعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية للخطر، بعد أن بنتها الجزائر بشقِّ الأنفس على مرِّ السنين مع جيرانها في الساحل الأفريقي، وقد تسرِّع تدفُّق المهاجرين إلى أراضيها.
لذلك، عارضت الجزائر بشدّة التدخّل العسكري في النيجر ودعت إلى اعتماد مقاربة دبلوماسية في التعامل مع الأزمة، أسوة بمالي في العام 2015. عدا أنّها تشعر بالقلق من وجود قوّات أجنبية على حدودها وتخشى من مسألة أقلّيات الطوارق التي حافظت على علاقات قوّية عبر الحدود الصحراوية التي تفتقر إلى الأمن في منطقة الساحل. ومن نتائج تدخّل حلف شمال الأطلسي في ليبيا، عودة قوات الطوارق إلى مالي والمطالبة بدولة أزواد المستقلة في العام 2012، ما أشعل سلسلة من الأحداث وأدّى إلى تدخّل عسكري بقيادة فرنسا.
وعلى الرغم من مخاوفها، تخشى الجزائر استبعادها من دور الوساطة في النيجر كما حدث في ليبيا. وقد اشتكى مسؤولون جزائريون من أنّ أعضاء المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لم يتشاوروا معهم قبل فرنسا، علماً أنهم يعتبرون بعضهم وكلاء لباريس. وفي أواخر أغسطس الماضي، أرسلت الجزائر وزير خارجيَّتها أحمد عطاف إلى نيجيريا وبنين وغانا لبدء عملية وساطة من أجل التوصّل إلى حلٍّ سلمي.
إخفاقات فرنسية
ومن وجهة نظر فرنسا، التي تملك مصالح جيوإستراتيجية واقتصادية كبيرة في النيجر، يمثّل الانقلاب فشلاً مريراً على مستوى السياسات. وعلى الرغم من إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون عن إستراتيجية جديدة في فبراير 2023، اتبعت باريس ما يعتبره كثيرون سياسة عسكرية أبوية في مستعمراتها السابقة. وبعد أن أنهت عملية برخان التي استمرَّت تسع سنوات وانسحبت من مالي في أغسطس 2022، وجدت باريس حليفاً قوّياً في النيجر حيث زرعت 1500 عنصر لمواصلة عمليات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. وهذا سوء تقدير منها. فعلى الرغم من استفادتها من موقف بازوم المؤيّد، فشلت في معالجة المشاعر المُتصاعدة المعادية لفرنسا. والجدير بالذكر أيضاً أنّه بينما أدانت باريس الإطاحة بزعيم مُنتخب ديمقراطياً، رأى الكثير من النيجيريين أنّ انتخاب بازوم معيب للغاية، ويعتبرونه، شأنه شأن نخب أخرى في منطقة الساحل، متواطئاً في السياسات الفرنسية.
في أعقاب الانقلاب في النيجر، أعلن ماكرون أنّه لن يتسامح مع «أي هجوم ضدّ فرنسا ومصالحها». ولكن يتعيَّن على فرنسا أن تدرك أنّها لم تعد القوّة الأجنبية الوحيدة في المنطقة، التي تخضع لعملية إعادة ترتيب، ويمتلك منافسوها مثل روسيا والصين وتركيا والبرازيل والهند تأثيراً متزايداً في المنطقة. وستواجه فرنسا صعوبة في الحفاظ على مصالحها من دون تغيير سياستها الاستعمارية الجديدة تجاه أفريقيا.
علاوة على ذلك، فإن التدخّل العسكري لن ينقذها، ولن يؤدّي إلّا إلى زيادة الفوضى التي تعصف بهذه المنطقة المُعقّدة والمُضطربة. وقد حذّر الحكّام الجُدد لأعضاء المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا المتوقّفة حالياً من أنّهم قد ينضمّون إلى القتال على الجانب الآخر: وأشارت مالي وبوركينا فاسو إلى إنّ ذلك سيكون بمثابة «إعلان حرب» ضدّهما، في حين أعربت غينيا عن معارضتها لعقوبات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ووصفتها بأنّها «غير شرعية وغير إنسانية». كما أعلنت موريتانيا، وهي ليست عضواً في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، عن أنّها ستنضمّ إلى المعركة ضدّ المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا.
ونظراً للشبكة المُعقّدة من الولاءات العرقية والقبلية في المنطقة والصراعات الدولية والإقليمية على السلطة، فإنّ التدخّل العسكري في النيجر سيكون كارثياً، خصوصاً في ظلّ الوضع الإنساني المريع والفوضى التي تسود بالفعل في أنحاء المنطقة. بالتالي، من الوهم تصوّر أنّ مشاكل النيجر السياسية، أو مشاكل منطقة الساحل عموماً، يمكن حلّها من خلال الأدوات العسكرية.