يُشاع أنّه كُتب ذات مرة على لافتةٍ في الدوحة “أمس الكويت، اليوم دبي؛ غداً قطر”. قد تكون هذه القصّة من نسج الخيال، إلّا أنّها تُجسّد حقيقةً مهمّة ومؤلمة بالنسبة إلى الكثير من الكويتيين. في البداية، كانت الكويت السبّاقة في منطقة الخليج، إذ كانت الدولة الأولى التي أصدرت عملتها الخاصّة وأقرّت دستور دولة الكويت. وقد برزت حرية الصحافة وصلاحيات البرلمان كاستثناءٍ صارخٍ في منطقةٍ تخلّفت فيها المعايير والممارسات الديمقراطية عن بقية العالم.
إلّا أنّ الزخم والدينامية انتقلا منذ فترةٍ طويلة إلى دول أخرى داخل مجلس التعاون الخليجي. فقد استضافت قطر مؤخّراً بطولة كأس العالم لكرة القدم للعام 2022، واستضافت دبي 85 ألف مشاركٍ في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيّر المناخ (COP28) في أواخر العام الماضي. وتشهد المملكة العربية السعودية تحوّلاً اقتصادياً واجتماعياً سريعاً في ظلّ ولي عهدها الطموح. أمّا في الكويت، فتمحورت المناقشات مؤخّراً حول ما إذا كان ينبغي على الحكومة إسقاط الديون الشخصية عن المواطنين الكويتيين – ما يُشكّل منحة غير ضروريّة ولها تبعات على سلوك المواطن واعتماده على الإعفاءات الحكومية. وقد انحدر مستوى معدّلات الاستثمار في الكويت إلى مستوى متدنٍ جداً بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي. وباتت معدّلات تخرّج الذكور الكويتيين من المدارس الثانوية تقلّ بنسبة 20 في المئة تقريباً عن معدّلات الكويتيات. وغالباً ما تكون الحكومة في أزمة سياسية مع البرلمان، حيث شهدت البلاد سبعة تعديلات حكومية في أقل من ثلاثة أعوام.
أمير الكويت الجديد يُعلن عن حقبة جديدة من الإصلاحات
بيد أنّ التغيير يلوح في الأفق. فقد أعلن أمير الكويت الجديد، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، في خطابه الأوّل أمام البرلمان عن حقبةٍ جديدة من الإصلاحات وشدّد على تعزيز الرقابة والمساءلة الحكومة الكويتية. ولا يمكن اختيار رئيساً لحكومته أفضل من الشيخ محمد صباح السالم الصباح لقيادة مسيرة التغيير هذه. ويُعرَف رئيس الحكومة الجديد، الذي يحمل شهادة دكتوراه في الاقتصاد من جامعة هارفارد ويتمتّع بخبرة دبلوماسيّة وإداريّة واسعة، بكفاءته وجدّيته ونزهاته.
صحيحٌ أنّ أجندة الإصلاحات الاقتصادية والقطاع العام في الكويت واضحة منذ فترةٍ، غير أنّ التقدّم كان بطيئاً ومتقطّعاً. تُحدّد رؤية 2035 مجموعةً من الأولويات المختارة بعناية على مسيرة تحويل الكويت إلى مركزٍ مالي وتجاري، مع التركيز على إدارةٍ حكومية فعّالة وعلى رأس المال البشري وعلى اقتصادٍ متنوّع وبنى تحتيّة متينة ورعاية صحّية عالية الجودة وبيئةٍ مستدامة وتعزيز وجود الكويت على الساحة الدولية. ولكن تواجه الحكومة تحدّيات جمّة، منها تصاعد المطالب الشعبوية والانقسام البرلماني، بالإضافة إلى الخطر الفعلي في انزلاق وضع المالية العامة إلى عجزٍ هيكلي. ومن شأن هذه التحدّيات أن تقوّض قدرتها على الإيفاء بالوعود المعلنة في رؤية 2035.
ما هي الإصلاحات التي يجب أن يضعها الشيخ محمد الصباح على رأس قائمة أولويّاته؟
لعلّ الأولوية الأكثر أهمية تتضمّن ترتيب المركز المالي الكويتي، باعتبار أنّه في غياب الموارد المالية الكافية، لن تتحقّق أي خطة من خطط رؤية 2035 الطموحة. في الوضع الراهن، يواجه وضع الماليّة العامة تحدّياً وجودياً، وإن كان على وتيرة بطيئة. في الواقع، يعتمد زهاء 75 في المئة من عائدات الحكومة على أسعار النفط المتقلّبة، التي يمكنها أن تتعرّض لتهديدٍ طويل الأمد في ظلّ تحوّل العالم إلى مصادر طاقة أكثر مراعاةً للبيئة. من جهةٍ أخرى، ترتفع نفقات الحكومة بشكلٍ مستمرّ في إطار اتّجاهٍ طويل الأمد. وسيتسارع هذا المسار التصاعدي بفعل التضخّم الديموغرافي في صفوف الشباب الكويتي على مدى السنوات العشرة إلى الخمس عشرة المقبلة، بحيث سيبحث الكثير منهم عن وظائف في القطاع العام الذي يعمل فيه حالياً حوالي 85 في المئة من المواطنين الكويتيين.
ومن أجل عكس مسار هذه الاتجاهات، ينبغي إحراز تقدّم في مجالات متعدّدة تمّ تأجيل الإصلاحات فيها أو تجنّبها بالكامل لفترةٍ طويلة. إذ لم تواكب البلاد وتيرة الإصلاحات الضريبية التي تبنّاها جيرانها. في الأصل، قرّر البرلمان الكويتي تطبيق ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5 في المئة في العام 2021، لكن ذلك تأجّل حتى العام 2023 ومن ثمّ أُرجئ بعد ذلك. وقد شجّع صندوق النقد الدولي الحكومة على إدخال الرسوم الضريبية وتوسيع ضريبة دخل الشركات لتشمل الشركات المحلّية وتطبيق ضريبة عقارية محلّية بحسب القيمة، الذي من شأنه أن يتيح قاعدة عائدات أكثر تنوّعاً واستقراراً. ومن شأن إقرار قانون الدين العام الذي انتهت صلاحيته في العام 2017 ولم يُجدَّد، أن يوفّر للحكومة مرونةً قيّمة في إدارة أوضاع المالية العامة حيث تسجّل الكويت حالياً أحد أدنى معدّلات الدين إلى إجمالي الناتج المحلي في العالم.
من الضروري أن تقلّص الكويت فاتورة الأجور في القطاع العام، التي تُعدّ حصّتها من إجمالي الناتج المحلي الأعلى في دول مجلس التعاون الخليجي ومن بين الأكثر ارتفاعاً في العالم. في العام 2022، شكّلت فاتورة الأجور 43 في المئة من النفقات العامة و17 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. ومنذ العام 2005، ازدادت أجور القطاع العام 4,3 أضعاف بالقيمة الإسمية مقارنةً مع زيادة 1,5 أضعاف في عائدات الحكومة. وفي حين أنّ العمالة في القطاع العام تزوّد الحكومة بوسيلةٍ حاضرة لإعادة توزيع الثورة النفطية، إلّا أنّها تؤدّي أيضاً إلى أسواق عمل مشوّهة وتنسف الإنتاجيّة وتقضي على حوافز العمالة في القطاع الخاص لدى المواطنين. ومن شأن إنشاء لجنة مستقلّة معنيّة بالأجور بهدف إجراء تعديلات سنوية لأجور ورواتب الخدمة المدنية أن تساعد في الحدّ من الزيادات الارتجالية المُكلفة. وينبغي أيضاً تقليص الإعانات المخصّصة للطاقة والمياه والكهرباء، التي تُعتبر حالياً من بين الأكثر ارتفاعاً على الصعيد العالمي.
الإنفاق الرأسمالي في البنية التحتية
عندما تستقرّ أوضاع المالية العامة في الكويت، سيشكّل تعزيز الإنفاق الرأسمالي الأولوية التالية. لقد أُنشئ الجزء الأكبر من البنية التحتية في الكويت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وقد تكون تقترب من انتهاء مدّة خدمتها. تتضمّن رؤية 2035 مجموعةً بارزة من مشاريع البنى التحتية التي وصلت قيمتها الإجمالية إلى 27,6 مليار دولار، إلّا أنّ قيمة المشاريع الممنوحة انخفضت في العام 2022 إلى حوالي نصف متوسّط الأعوام الخمسة السابقة. ومنذ إقرار قانون الشراء الجديد في العام 2016، أحرزت الكويت تقدّماً نسبياً في إصلاح إجراءات إعداد الموازنة الرأسمالية ولائحة المناقصات العامة بغية تسريع الإنفاق على البنى التحتية، إلّا أنّ العمل لم يكتمل بعد ولا يزال أمام الكويت الكثير لإنجازه. ويمكن لدفعة رفيعة المستوى باتّجاه تسريع هذه الجهود أن تساعد في إزالة العقبات وترشيد العمليات التنظيمية.
كيف يمكن للكويت تعزيز الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد؟
في الختام، تحت قيادة رئيس الوزراء الجديد، من المهم المضي قدماً في تعزيز الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد، كما أكّد الأمير في خطابه الأول. في العام 2020، أصبحت الكويت إحدى دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا السبعة التي اعتمدت قانوناً في شأن حقّ الاطّلاع على المعلومات، على الرغم من أنّ إحدى المنظمات غير الحكومية الريادية اعتبرت هذا القانون “ضعيفاً جداً”. كما تحتلّ الكويت المرتبة السابعة إقليمياً على مؤشّر مُدرَكات الفساد (CPI) الذي أصدرته منظّمة الشفافية الدولية للعام 2022، خلف دول مجلس التعاون الخليجي كافة والأردن. وقد أُنشئت الهيئة العامة الجديدة لمكافحة الفساد في الكويت في العام 2016. وخلافاً لهيئات مماثلة متعدّدة، زُوّدت بطاقم عمل كبير وبتمويلٍ سخي، غير أنّها لم تُحقّق كامل إمكاناتها بعد. وستنتهي صلاحية الإستراتيجية الخمسية الأولى للهيئة (2019-2024) هذا العام، وينبغي قياس أدائها لغاية الآن وتقييمه في سياق إعداد إستراتيجية جديدة.
صحيحٌ أنّ لائحة الإصلاحات طويلة، لكنها جاءت في الوقت المناسب. بمباركة الأمير الكويتي وفي ظلّ قيادة الشيخ محمد الصباح، تقف الكويت أمام فرصة فريدة لإحراز تقدّم في بعض المسائل التي لطالما أعاقت جهود الإصلاح السابقة وأجّجت التوتّر بين الحكومة والبرلمان. لقد حان الوقت لعودة الزخم والثقة إلى هذه الدولة الخليجية.