تجمّع الشباب المغربي لتنظيم مظاهرة مطالبين بإصلاحات جذرية في قطاعي التعليم والرعاية الصحية، ومكافحة الفساد المستشري، الرباط، المغرب، وذلك في الثالث من أكتوبر 2025. (تصوير: أبو آدم محمد/ وكالة الأناضول/ وكالة الصحافة الفرنسية).

احتجاجات شباب المغرب وحدود النموذج الحاكم 

أدّت الفجوة المتزايدة بين الإنفاق على المشاريع الضخمة مثل الملاعب الرياضية، وتدهور الخدمات الأساسية مثل المستشفيات، إلى دفع جيل جديد من المغاربة إلى الاحتجاج والمطالبة بالتغيير. 

12 أكتوبر، 2025
ميساء هواري

في 27 سبتمبر الماضي، خرج آلاف الشباب المغاربة إلى الشوارع للتنديد بسنوات من سوء الحوكمة وسوء ترتيب أولويات الإنفاق العام. نُظِّمت التظاهرات من قبل مجموعة تُدعى «جيل زد 212»، وانتشرت في ما لا يقلّ عن عشر مدن، لتصبح سريعاً أكبر حركة مناهضة للحكومة منذ احتجاجات الريف في عامي 2016 و2017. وقد أجّج الغضبَ تخصيصُ مليارات الدراهم لبناء ملاعب جديدة استعداداً لكأس الأمم الأفريقية 2025 وكأس العالم 2030، في حين تعاني المستشفيات والمدارس نقصاً مزمناً في التمويل. وقد لاقت هذه الحركة، إثر هذه المفارقة، تجاوباً واسعاً في مختلف أنحاء البلاد. 

 

واندلعت شرارة الاحتجاجات عقب تقارير عن وفاة ثماني نساء حوامل في إحدى المستشفيات الإقليمية بسبب الإهمال الطبي ونقص المعدات الأساسية، ما يجسّد عمق الإحباط الذي يعيشه الشباب المغربي، فأعباء المعيشة في ارتفاع متواصل منذ سنوات، وفرص العمل تتضاءل، وهوة التفاوت الاجتماعي آخذة في الاتساع، بينما يشعر كثيرون أنّ العقد الاجتماعي لم يعد قادراً على تلبية تطلّعاتهم. وفي ظلّ قِلّة القنوات الرسمية للتعبير عن المعارضة، لجأ الشباب إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبئة حول قضايا تُجسّد التفاوت  والإهمال. وقد ردّد المتظاهرون شعار «سلمية»، لكنهم واجهوا انتشاراً أمنياً كثيفاً سرعان ما تحوّل إلى عنف، ما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة العشرات واعتقال المئات. كما طال التخريب عدداً من البنوك والمباني الإدارية، وأحرقت سيارات، وتعرّضت قوات الأمن للرشق بالحجارة وقنابل المولوتوف. وأكّدت حركة «جيل زد 212» نبذها للعنف، مشدّدة على أنّ خلافها مع الحكومة وليس مع الشرطة. ويعكس هذا التصعيد عمق غضب الشباب وضيق مساحة التعبير السياسي في المغرب. 

 

 

نظام يفقد توازنه 

 

استند النظام السياسي في المغرب إلى نموذج مزدوج الطبقات أدير بعناية فائقة. فمن جهة، تهيمن المؤسّسة الملكية، المعروفة باسم «المخزن»، على المجالات الإستراتيجية الكبرى مثل السياسة الخارجية والمشاريع الوطنية الرائدة، فيما يحتفظ الملك بسلطته الدينية. ومن جهة أخرى، تتولّى الحكومات المنتخبة مسؤولية تقديم الخدمات وإدارة الشؤون الاقتصادية. وقد أتاح هذا الترتيب للملكية الحفاظ على صورتها باعتبارها الضامن النهائي لاستقرار البلاد، فيما يتولّى السياسيون امتصاص غضب الشارع الموجّه نحو الدولة. غير أنّ الاحتجاجات الواسعة الأخيرة وضعت هذا التوازن على المحك. 

 

وأصبح رئيس الوزراء عزيز أخنوش، رجل الأعمال الملياردير وأحد أغنى أغنياء المغرب، محوراً لغضب الرأي العام. إذ يرى منتقدوه أنّ حكومته منفصلة عن هموم المواطنين العاديين، فيما عزّزت اتهامات بالفساد والمحسوبية من تشويه صورتها. غير أنّ رمزية كأس العالم وسائر من المشاريع العملاقة المدعومة من القصر قد طمست الحدود التي لطالما فصلت بين مسؤولية الحكومة وسلطة الملك. 

 

 

أولويات في غير محلّها وتراجع الثقة 

 

بالنسبة إلى القيادة المغربية، كانت استضافة كأس العالم تهدف إلى إبراز موقع البلاد كلاعب صاعد على الساحة الدولية. غير أنّ كثيراً من الشباب المغاربة يرون في هذا الحدث رمزاً لاختلال الأولويات، ودليلاً على أنّ السعي وراء الوجاهة الدولية يجري على حساب الكرامة والفرص داخل البلاد. وقد تبنّى المحتجّون شعاراً انتشر على نطاق واسع: «الملاعب موجودة، لكن أين المستشفيات؟». يعاني النظام الصحي في المغرب نقصاً مزمناً في الكوادر والمعدات. ففي العام 2023، لم يكن هناك سوى 7.8 طبيب لكل 10,000 مواطن، أيّ أقل من ثلث المعدّل الذي تعدّه منظمة الصحة العالمية مقبولاً. كما تواجه الأسر المغربية صعوبات جمّة في ظلّ نظام تعليمي تتّسع فيه الفجوة بين المدارس الخاصة والعامة. 

 

هذه الاختلالات ليست وليدة اللحظة، غير أنّ اتّساع الهوّة السحيقة بين المشاريع العملاقة والخدمات الأساسية جعلها أكثر استفزازاً للرأي العام. وإلى جانب الغضب الشعبي، يخيّم شعور أوسع بالإحباط الاقتصادي، إذ تبلغ نسبة بطالة الشباب 35.8 في المئة وفقاً للأرقام الرسمية، وهي من الأعلى في شمال أفريقيا. وأيضاً يواجه خريجو الجامعات معدّلات بطالة تقترب من واحد من كل خمسة، ما يعزّز لدى الشباب قناعة مريرة بأنّ العمل الدؤوب والتعليم لم يعودا طريقاً مضموناً نحو مستقبل مستقر. وعندما يستحضر المتظاهرون كأس العالم، فهم في الواقع يطعنون ضمناً في أولويات الدولة التي قامت عليها سردية التحديث المغربية. 

 

لكن الخطر لا يكمن في تحدّي الملكية نفسها، فسلطتها ورمزيتها لا تزالان راسختين. بل إنّ مصداقية الصيغة السياسية التي تحميها من غضب الشارع هي من باتت على المحك. ومع تصاعد موجات السخط الشعبي، قد تفقد الحكومة المنتخبة قدرتها على أداء دورها كحاجز  يصدّ السخط الشعبي كما كانت تفعل في السابق. وفي ظلّ تفاقم أزمة البطالة وانهيار الخدمات العامة، باتت جموع الشباب المغربي ترى أنّ الفصل بين الحكومة والمخزن لم يعد سوى فاصل شكلي.  

 

 

الاختبار السياسي المقبل في المغرب 

 

من المرجّح أن تواصل السلطات المغربية اعتماد النهج المألوف في إدارة الأزمات: احتواء الاحتجاجات عبر الإجراءات الأمنية، مع ترك للحكومة المنتخبة تتحمّل العبء الأكبر من الانتقادات الشعبية. وتشير دعوة الملك الأخيرة إلى الإصلاح إلى محاولة لتحديد الأجندة وتوجيه الغضب الشعبي بعيداً من الحكومة. وبالفعل تراجعت شعبية رئيس الوزراء عزيز أخنوش، وقد يدفع حزبه الثمن في انتخابات العام 2026. وبهذا المعنى، قد ينجح النظام مرّة أخرى في تحويل الغضب بعيداً من الملكية واستعادة توازنه واستقراره عبر التداول الانتخابي للسلطة. 

 

غير أنّ السؤال الأعمق هو ما إذا كانت الطريقة التقليدية لإدارة المعارضة لا تزال صالحة في التعامل مع جيل جديد لم يعد يلعب وفق القواعد القديمة، جيل متصل رقمياً، واعٍ سياسياً، وأقل خضوعاً للسلطات التقليدية. اسم حركة «جيل زد 212»، المستوحى من رمز الاتصال الدولي للمغرب، يتردّد صداه مع حركات احتجاج شبابية مشابهة في أماكن بعيدة مثل البيرو والنيبال، حيث نجح الشباب في إسقاط حكومة في الأخيرة. وقد أتاح استخدام الناشطين المغاربة لمنصّات مثل تيك توك وإنستغرام وديسكورد تنظيم صفوفهم من دون الحاجة إلى نقابات أو جمعيات مدنية، ما يجعل حركتهم أصعب احتواءً وأكثر عفوية من الحركات السابقة مثل احتجاجات الريف عامي 2016 و2017، التي كانت محلّية الطابع ولها قيادات واضحة تم سجنها أو إسكاتها لاحقاً. لكن في المقابل، قد تُضعف الطبيعة اللامركزية للاحتجاجات الحالية قدرتها على الحفاظ على الزخم أو تحويل الغضب إلى تغيير ملموس، كما حدث في حراك الجزائر في العام 2019. 

 

ومع استمرار الاحتجاجات، ما زال من المبكر معرفة ما إذا كانت ستتلاشى أو تتصاعد أو تستقرّ في إيقاع جديد من المعارضة. ما هو واضح حتى الآن هو أنّها كشفت هشاشة الصيغة السياسية التقليدية في المغرب. وحتى لو خبت جذوة هذه الحركة، فإنّ المشكلات البنيوية الكامنة وراءها لن تتلاشى. إذ لا تزال مظاهر التفاوت في التنمية وضعف تمويل الخدمات وارتفاع بطالة الشباب وتراجع الثقة بالمؤسّسات السياسية، حاضرةً بقوة في تفاصيل الحياة اليومية. وعلى الرغم من أنّ البعض قد يقللّ من شأن هذه الحركة بوصفها مجرّد زوبعة رقمية عابرة تعبّر عن نشاط شبابي عبر الإنترنت، فإنّها تمثّل منعطفاً مفصلياً في المسار السياسي المغربي. وقد تعكس دعوة الملك إلى الإصلاح إدراكاً للغضب الشعبي ولكنها لن تكبحه طويلاً. وفي نهاية المطاف، ينبغي النظر إلى هذه التظاهرات لا بوصفها قطيعة فحسب، بل إنذاراً يدق ناقوس الخطر. لقد واجه النظام المغربي الاضطرابات من قبل، لكن كل دورة جديدة منها تخلّف جيلاً أصغر أكثر تشككاً في الحدود القديمة بين الحكومة والقصر. وربّما يعتمد استقرار المغرب في المستقبل بدرجة أقل على الملاعب والمشاريع العملاقة، وبدرجة أكبر على ما إذا كان شبابه لا يزالون يؤمنون بأن النظام لا يزال يُلبي تطلّعاتهم. 

 

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاحتجاجات والثورات
البلد: المغرب

المؤلف

باحثة مساعدة
ميساء هواري باحثة مساعدة في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ضمن برنامج الصراعات والأمن. وتحمل ميساء درجة الماجستير في السياسة واقتصاديات الشرق الأوسط من كلية الملك بلندن، إذ ركّزت أطروحتها البحثية على استجابات الدولة لحركات التعبئة الجماهيرية في الجزائر، وهي حاصلة على درجة البكالوريوس في العلاقات الدولية من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS)، بجامعة لندن. وتشمل اهتمامات ميساء البحثية ديناميّات الصراعات والحوكمة والهجرة وانخراط الشباب ومشاركتهم.