على الرغم من تجدّد الوساطات الدولية للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، إلّا أنّ حزب الله يصرّ على توجيه ضربة نوعية ضدّ إسرائيل ردّاً على استهداف ضاحية بيروت الجنوبية. منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، واغتيال القيادي العسكري الكبير في حزب الله فؤاد شكر، تكثّفت حركة الاتصالات الدولية في محاولة لتجديد المفاوضات الديبلوماسية لوقف النار في غزة وتجنّب توسّع الجبهات ما يهدّد باندلاع حرب إقليمية. استهدفت الاتصالات إيران وحزب الله، سعياً وراء خفض حدّة الضربات كي تتمكّن إسرائيل من احتوائها ولا تضطرّ إلى تنفيذ ضربات مضادة ما يسهم في تدحرج الأوضاع العسكرية.
أسهمت المفاوضات الأمريكية الإيرانية المباشرة وغير المباشرة في عدم دفع إيران لردّ واسع مع كلّ جبهات المقاومة ضدّ إسرائيل، ما قد يشعل حرباً إقليمية. وأسهمت تلك المفاوضات في تأخير الردّ الإيراني. وذلك يتبين من خلال تأخير الردّ وما يتسرّب من داخل إيران حول خلاف بين الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الذي يفضّل القيام بعمليات أمنية طويلة المدى كي لا يُضرَب مسار التفاوض مع الولايات المتحدة، مقابل الحرس الذي يصرّ على تنفيذ ردّ قوي.
في المقابل، دخلت روسيا على خطّ خفض التصعيد من خلال زيارة أمين مجلس الأمن القومي الروسي سيرغي شويغو إلى إيران حاملاً ثلاث رسائل أساسية، بحسب مصادر خاصّة من موسكو: الرسالة الأولى هي التضامن الروسي مع طهران والمساعدة لمساندتها دفاعياً ولكن ليس هجومياً، والثانية، نصيحة بعدم الانجرار إلى فخّ نتنياهو الذي يسعى إلى إشعال حرب إقليمية، واستدراج الأمريكيين مباشرة إليها (كي لا تصبح روسيا مضطرّة للتدخل)، أمّا الرسالة الثالثة والأساسية، فهي محاولة تحييد سوريا كساحة لهذه المواجهات، حفاظاً على المصالح الروسية وقواعدها العسكرية هناك. لأنّ اشعال الجبهة السورية سيؤدّي إلى أضرار كبيرة على دول كثيرة، وحينها ستكون موسكو مضطرّة للرد.
صيغة وقف إطلاق النار الشامل
غالبية القوى الدولية على قناعة بأنّ المسار الوحيد لسحب فتائل التصعيد الإقليمي أو توسيع الجبهات، هو بالتوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة وإنجاز صفقة تبادل، وهذا ما جرى العمل عليه بين الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وقطر، مع توجيه دعوات لرئيس حماس الجديد يحيى السنوار لإقناعه بالموافقة على وقف النار. وقد عمل السنوار على تكليف القيادي في الحركة خليل الحية بمسؤولية المباحثات السياسية، وهذا يعني أنّ السنوار سيكون صاحب القرار.
حتى الآن، تعثّرت المفاوضات بشأن مدّة وقف إطلاق النار: حماس تريد إنهاء الحرب نهائياً وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزّة – أو معظمها – في حين قال نتنياهو إنّ وقف إطلاق النار يجب أن يكون مؤقّتاً حتى تتمكّن إسرائيل من العودة إلى مهمّتها المتمثّلة في تدمير حماس. طالما يستمرّ هذا الجمود دون حلّ، ستستمرّ حرب إسرائيل على غزة وستظلّ مخاطر اندلاع حرب أوسع قائمة.
تفادي حرب إقليمية
وسط انعدام الثقة من قبل حماس ومحور المقاومة بالمساعي الأمريكية، فهناك قناعة أنّ واشنطن ليست جدّية في ضغوطها التي تمارسها على إسرائيل لوقف الحرب. بالنسبة إلى حزب الله، يرتبط تفسير الموقف الأمريكي الجديد والمبادرة الأمريكية بوقف النار مع محور المقاومة، أي محاولة لامتصاص ردّ إيران والحزب وليس وقف جدّي لإطلاق النار في غزة، وأنّ كلّ التجارب السابقة تؤكّد أنّ نتنياهو أجهض كلّ المساعي على الرغم من الأمريكيين أو بموافقتهم.
لا يبدو حزب الله واثقاً بكل الطروحات الأمريكية، ويعتبر أنّ الأمريكيين غير جدّيين بالضغط على إسرائيل لوقف النار في غزة، وكل ما يجري يهدف إلى امتصاص الردّ الإيراني وردّ حزب الله وليس وقف إطلاق النار الفعلي في غزة. وهناك في الولايات المتحدة من يريد إعطاء نتنياهو المزيد من الوقت من الآن وحتى الإنتخابات الرئاسية. بالطبع لا يمانع حزب الله و إيران من خلفه التوصّل إلى وقف الحرب على غزة بشكل جدّي ونهائي. وفي حال تحقّق ذلك يمكن أن يضحّيان بالردّ طالما أنّ الهدف الإستراتيجي تحقّق وهو وقف الحرب، “فكل هدف جبهة الإسناد هو وقف إطلاق النار في غزة، وبالتالي في حال تحقّق ذلك يمكن تجنّب الردّ الإيراني ويكون الهدف الكبير قد تحقّق، وتكون إيران قد حقّقت ما تسعى إليه وسجّلت انتصاراً“.
ويتمّ الضغط على حزب الله لعدم الردّ على إسرائيل لتجنّب التصعيد والانجرار نحو الحرب الموسّعة التي يطمح إليها نتنياهو. لكن الحزب يردّ على هذه الضغوط بأنّه لا يمكنه القبول بتكريس قواعد اشتباك عمل نتنياهو على وضعها وهي استهداف الضاحية بدون ردّ”.
سيكون ردّ حزب الله قوياً ومن شأنه أن يعزّز منظومة الردع لدى الحزب لمنع إسرائيل من تكرار استهداف الضاحية. وبحسب ما يقول مصدر مقرّب من الحزب، فإنّ الردّ حتميّ وقوي وسيكون قريباً. نحتاج للرّد لإعادة توازن الردع وحماية الناس في الضاحية“.
لا خيار آخر سوى الرد
بحسب التقديرات، تبرز ثلاثة سيناريوهات بعد الرد. يتمثّل السيناريو الأوّل بأن تحصل ضغوط كبيرة على إسرائيل تطالبها بعدم الردّ والتصعيد، فتعود قواعد الإشتباك في الجنوب إلى ما كانت عليه قبل استهداف الضاحية. ولكنه احتمال ضعيف بحسب تقدير المصادر.
السيناريو الثاني هو أن ينفّذ الحزب ضربة قوية لا تكون إسرائيل قادرة على تحمّلها، فتنفّذ ردّاً يستدعي تبادل الردود لأيام وتتدرحج الأمور إلى حرب محدودة وهو ما يطلق عليه “الأيام القتالية”، أي بشكل يشبه المواجهات الحالية في جنوب لبنان ولكن بشكل أوسع بالنار والكثافة والمساحة. ويمكن في هذه المواجهات أن يتم استهداف الضاحية، وبعدها تحصل تدخّلات كبيرة دولياً لوقف النار أو العودة لقواعد الإشتباك.
أما السيناريو الثالث، فهو أن تتدحرج الأوضاع إلى حرب شاملة، ولكنّها مستبعدة لانّها قد تُدخل إيران ودول أخرى، وستؤدّي إلى إغلاق الممرّات البحرية وربما تدخل الولايات المتحدة في الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر. وفيها سيضرب حزب الله أهدافاً مركزة في وسط اسرائيل. ولكن هذا السيناريو مستبعد أيضاً لأن الأغلبية لا ترغب بالذهاب إلى حرب إقليمية.
وبالنسبة إلى حزب الله، الرد حتميّ. لا يمكن للحزب التراجع أو السكوت عمّا جرى أو التخفيف من وطأته. وحسب المعلومات، فإنّ الردّ سيكون عنيفاً وجدّياً، لأن الحزب لا يمكن أن يسلّم باستهداف الضاحية الجنوبية من دون ردّ يعيد تشكيل موازين القوى، ويحيي توازن الردع والرعب. فالضاحية بالنسبة إلى الحزب هي منظومة القيادة الأمنية والعسكرية والإستراتيجية، ولا يمكن القبول بجعلها “سوريا أخرى”. وبالتالي، عدم الرد القوي سيجعل الإسرائيليين يستسهلون تنفيذ المزيد من العمليات فيها. وهذا أمر من المحرّمات لدى حزب الله، الذي ينظر إلى الضاحية باعتبارها تكاملاً عسكرياً وسياسياً واجتماعياً بين الحزب كمؤسّسة وجسم تنظيمي وبين الناس الذين يشكّلون بيئة حاضنة.
عملياً، لا تظهر في الأفق نهاية لهذه المواجهات قريباً، إذ يمكنها أن تستمرّ لفترة طويلة، تتصاعد حيناً وتنخفض أحياناً. فإمّا أن تنفجر بشكل موسّع لفرض وقائع عسكرية جديدة، وإمّا أن تنتظر تسوية دولية كبيرة تسهم في تغيير الواقع العسكري وتفرض حلّاً ديبلوماسياً يؤسّس إلى استقرار طويل الأمد على الحدود اللبنانية مع إسرائيل عبر مقترح سحب السلاح الثقيل لحزب الله وترسيم الحدود المختلف عليها.