هذه المقالة هي الجزء الثاني من سلسلة من جزئين. يمكن قراءة الجزء الأوّل هنا.
إذا كان لروّاد الربيع العربي في سوريا درسٌ جوهري يقدّمونه، فهو أنّ تحقيق التلاحم الداخلي بين قيادة الثورة وجماهيرها يُعدّ شرطاً أساسياً لتحويل نظام طاغية ساقط إلى دولة ذات سيادة تمثّل إرادة الشعب وتحقّق تطلّعاته في تقرير مصيره، وترسي أسس النظام التمثيلي المنشود.
بعبارة أخرى، لا يمكن بناء دولة يلتفّ حولها الجميع إلّا إذا كان السوريون موحّدين. ورغم أنّ المشاريع الكبرى التي تحرّك الدولة، مثل البيروقراطية والسياسات الاقتصادية والخارجية، هي بطبيعتها مبادرات تنطلق من الأعلى إلى الأسفل، إلّا أنّ أحمد الشرع يجب أن يطرح سياسات تمكِّن السوريين، من أجل كسب دعمهم الشعبي وتأمين الشرعية والتوجيه والمشاركة التي يحتاجها للبقاء في السلطة وإعادة بناء ركائز الدولة لتحقيق المشروع الوطني الجديد.
لقد فشل أسلاف سوريا في تحقيق كلا الأمرين. فقد تحوّلت القيادات الثورية إلى أنظمة أوتوقراطية معولة، ما أتاح للنظام القديم إعادة تشكيل نفسه حولها وقطع صلته بشعوبه. وتمثّلت الإخفاقات التي أدّت إلى هذا المصير في الفشل في اكتساب الشرعية من خلال تقديم الخدمات الحكومية والعجز عن تحقيق الازدهار والفشل في توجيه التفاعلات الجيوسياسية أو الإفلات من قبضة الدول المتسلّطة.
الحكومة تعني الحكم
وبينما كان غياب الرؤية السياسية هو الشرارة التي أجّجت الإحباط الشعبي وانعدام الأمن، ما أدّى إلى انهيار الثورات السابقة في المنطقة، فإنّ الفشل في تلبية احتياجات الشعب هو ما سحق تلك المشاريع وحوّلها إلى هدف يسهل الانقضاض عليه.
في تونس، تخلّى الناس عن الديمقراطية لأنّها لم توفّر لهم الحماية ولم تؤمّن لهم عملاً أو طعاماً. وفي مصر، فشل محمد مرسي في إلهام دولته لتكون في خدمة الشعب أو لعزيز قيم المدنية. أمّا في ليبيا، فقد أدّى تفكّك الدولة و«مافيوية» الاقتصاد إلى إفساد الثورة وإرهاق جمهورها، ما غذّى حنيناً إلى الحكم السلطوي الذي كان أصل كلّ هذه الديناميّات.
مهمّة الشرع أصعب من مهام أسلافه، إذ تحوّلت سوريا إلى وحشَ فرانكشتاين يضمّ جميع إخفاقات اقتصاداتهم السياسية. انحدرت البلاد إلى حالة من الفقر المدقع بسبب العقوبات المفروضة على الأسد في خلال الحرب، وأصبح الاقتصاد مافيا مشابهة للنموذج الليبي، حيث تسيطر الميليشيات والمرتزقة الأجانب والأوليغارشية على موارد البلاد الرئيسة (أو حتى الأنشطة غير القانونية مثل تجارة الكبتاغون). وكما في تونس ومصر، تدخل سوريا مرحلتها الانتقالية بموارد مالية شحيحة وقطاع عام متضخّم ودولة عميقة مشبوهة وأوليغارشية تُهيمن على الإنفاق العام والنشاط الاقتصادي الخاص.
والأسوأ من ذلك، هو أنّ سوريا تفتقر إلى الموارد المالية الكافية لتأمين الضروريات الأساسية، ناهيك عن الشروع في عملية إعادة الإعمار التي تُقدّر كلفتها بعشرات المليارات من الدولارات. وكان أوّل فخّ وقعت فيه تونس هو الاقتراض بفوائد مرتفعة تحت ضغط حلفائها الغربيين والخليجيين ضمن شراكة دوفيل مع الدول العربية في المرحلة الانتقالية، وكأنّها عوقبت على إسقاطها الحكم السلطوي. ولتفادي الوقوع في قيود الديون الخانقة، يتعيّن على الشرع إقناع السوريين بأنّ عملية إعادة البناء ستكون طويلة وشاقّة، ولكنّها ضرورية ولا بديل عنها.
وكما أظهر التفاعل الإيجابي مع خطابه الوطني الأوّل، يمكن للشرع أن يكسب الوقت والصبر الذي يحتاجه إذا تواصل بوضوح مع شعبه، وشرح لهم القيود التي يواجهها ومنطقه وأهدافه منها. فالتواصل الفعّال هو وسيلته لتحويل السلاح الذي قد يفتك به، أي الإحباط الشعبي، إلى الدرع الذي يحميه والمشروع الثوري بأسره، وهو التعاطف الشعبي. وربّما يكون هذا السبيل الوحيد لإطالة شهر العسل السياسي الذي ينعم به.
سوريا لكلّ الأمم
يكمن مفتاح الشرع لفكّ شفرة الاقتصاد السياسي السوري في الخارج. ولكن، على الرغم من أنّ سقوط الأسد بدا وكأنّه موضع احتفاء عالمي، سيجد السوريين قلّة من الأصدقاء المستعدّين لمساعدتهم على النهوض من جديد. وفي ظلّ نظام عالمي متداعٍ تتربّص به قوى متوسّطة مفترسة، يتعيّن على الشرع أن يُحسِّن استغلال لعبة شدّ الحبال الجيوسياسية حول دمشق لتعزيز المصلحة الوطنية السورية، وإعادة سوريا إلى السوريين.
وإذا كان الدرس الأهمّ لدول الربيع العربي في استدامة الثورة هو التلاحم، فإنّ درسها الأساسي في حماية الثورة هو الحذر من الثورة المضادة.
منذ العام 2011، قادت الإمارات العربية المتّحدة – غالباً بدعم خفي من إسرائيل – المعارضة الإقليمية للتغيير السياسي الذي أفرزته ثورات الربيع العربي. وعلى الرغم من الترويج لهذه المعارضة باعتبارها تصدّياً للإسلام السياسي، فقد انسجمت في الواقع مع مخاوف أبو ظبي من امتداد دعوات الثوّار للمشاركة السياسية إلى أراضيها. وفي الوقت نفسه، شكّلت الثورة المضادة وسيلة استخدمتها «إسبرطة الصغيرة» لإعادة تشكيل النظام الإقليمي القديم وفق مصالحها، عبر ترسيخ أنظمة موالية لها.
وباستغلال الروابط السياسية والاقتصادية مع الدول العميقة لإجهاض مسارات التحوّل السياسي – كما ظهر جلياً في تجربة محمد مرسي في مصر – وتأجيج الانقسامات الطائفية عبر تسليح المجموعات المنشقّة وتمويلها، مثل تمرّد خليفة حفتر في شرق ليبيا، نجحت قوى الثورة المضادة في عكس مسار التغيير.
وفي نهاية المطاف، استقطب هذا النهج دعماً انتهازياً من قوى خارجية أخرى، مثل روسيا وتركيا، اللتين سخّرتا قوّتهما العسكرية لخلق وكلاء تابعين يمكن استغلالهم لتحقيق مكاسب اقتصادية أو جيوسياسية. وفي المقابل، كشفت أوروبا عن عجزها في دعم التحوّلات الديمقراطية، وافتقارها إلى بوصلة إستراتيجية أو أخلاقية تمكّنها من مجاراة ألاعيب منافسيها.
اليوم، تتعرّض سوريا بالفعل لمحاولات ممنهجة لإضعافها. تُشير تقارير إلى أنّ روسيا هرّبت ضباطاً عسكريين رفيعي المستوى، من ضمنهم رئيس الأركان السابق ماهر الأسد، لأغراض مجهولة. وفي المقابل، وسّعت إسرائيل احتلالها، واستولت على أراضٍ إستراتيجية غنيّة بالموارد المائية، وأجّجت الانقسامات الطائفية عبر ادعائها حماية الأقليات الدينية، مثل الدروز، كما فرضت قيوداً على انتشار القوّات السورية في أجزاء واسعة من البلاد، وضغطت على الولايات المتّحدة للإبقاء على العقوبات، وكلّ ذلك بهدف إبقاء سوريا عالقة في أزمات مستدامة تُذكي الاضطرابات. وما يزيد الطين بلّة، أنباء عن تورّط إيران في أنشطة مزعزعة للاستقرار عبر استغلال نفوذها داخل الطائفة العلوية.
مستقبل يقوم على التنمية الاقتصادية
يمضي الشرع في مسار قيادة محفوف بالمخاطر، وسط حقول ألغام على الصعيدين الداخلي والخارجي. لكنّه يمتلك، على الأقلّ، أمثلة واضحة على المسارات التي ينبغي تجنّبها.
تبعث قرارات الشرع على التفاؤل، فقد بدأ بالفعل بإلغاء الرسوم الجمركية التي فرضها نظام الأسد على السلع المستوردة، في خطوة تهدف إلى خفض الأسعار وتخفيف الأعباء عن القطاع الخاص. ومع ذلك، يتطلّب تحقيق نمو اقتصادي مستدام إشراك الأوليغارشية السورية، التي لا تزال تمتلك النفوذ الكافي لإعادة تحريك عجلة الاقتصاد. والنهج الأكثر حكمة في هذه المرحلة هو عدم تحدّي مصالح الأوليغارشية التجارية القانونية القائمة، بشرط ألّا تعرقل بدورها نمو المشاريع الصغيرة والمتوسّطة حفاظاً على احتكاراتها. وبعد ذلك، ينبغي على الحكومة المؤقّتة تقليص التعقيدات البيروقراطية الداخلية لدفع عجلة النمو الاقتصادي قدماً.
إنّ الترويج لعملية إعادة إعمار سوريا كمشروع وطني هو المفتاح للحصول على الدعم الواسع الضروري لهذه المهمّة طويلة الأمد والشاملة، ودمجها في السياسات الداخلية والخارجية. فضلاً عن تكليف قطاعات الخدمة المدنية بوضع إستراتيجية متوسّطة المدى لتنسيق المشاريع المتعدّدة المطلوبة ما يمنحها دوراً جديداً أكثر فاعلية، ويهيّئها للاضطلاع بمسؤوليّات تنسيقية رئيسة.
تكليف هذه القطاعات بدور المُنسّق للمساعدات الإنمائية الدولية، سيمكّن الشرع من تحقيق الاستفادة القصوى من هذه المساعدات، مع ضمان بقاء السيطرة في الأيدي السورية. كما يمكن أن تكون هذه الخطوة جسراً للتواصل بين الدولة والمجتمع المدني، ما يسهم في تحقيق تقدّم تكاملي ويعزّز تصوير إعادة الإعمار على أنّها جهد وطني مشترك.
تُعدّ المنظّمات الدولية للتنمية وأنظمة السياسة الخارجية الغربية مصادر ثمينة لدعم إطلاق المشاريع العاجلة وتدريب المجتمع المدني السوري واستعادة القدرات في مجالات أساسية مثل الزراعة. كما أنّ بناء علاقات مباشرة بين الوزارات السورية ونظيراتها الأوروبية، التي لا تزال ترتكز على المساعدات القائمة على القيم، يمكن أن يساهم في تعزيز استقرار هذه الشراكة الجديدة. وإلى جانب ذلك، يمكن تنسيق المشروع الوطني مع الأولويات الأوروبية، مثل التنمية الخضراء، ما قد يساعد على تسريع مشاريع إستراتيجية كإعادة بناء البنية التحتية للطاقة في سوريا.
وبالمثل، يجب إعطاء الأولوية لاستعادة العلاقات التجارية السابقة مع تركيا، ما سيسهم في تدفّق رؤوس الأموال وإنعاش الاقتصادوتحفيز النمو الذي قد يدفع أنقرة إلى تقديم دعم إضافي. ويمكن للشرع أن يتبنّى النهج نفسه مع قوى إقليمية أخرى مثل المملكة العربية السعودية، بهدف تحفيزها على بناء مصالح متبادلة في سوريا. ومن شأن هذا المسار أن يحدّ من نفوذ الدول المناهضة للثورة من دون مواجهتها مباشرة، وقد يساعد أيضاً في كسب حلفاء داعمين لتخفيف العقوبات وحشد تأييد دولي أوسع.
يتمثّل الاختبار الحقيقي للشرع في قدرته على تحقيق توازن دقيق بين هذه الشراكات، وضمان عدم تعارضها أو تحوّلها إلى نقاط ضعف قد تُستغلّ ضدّه. فعلى سبيل المثال، في حين يُعدّ بناء علاقات اقتصادية مع تركيا أمراً بالغ الأهمّية، قد يهدّد الاعتماد الأمني عليها السيادة الوطنية، كما حدث في ليبيا، وهو في غاية الخطورة خصوصاً في ظلّ تنامي العلاقات بين أنقرة وأبو ظبي. كما يجب عليه أن يتعامل بحنكة ديبلوماسية مع الضغوط التركية المتزايدة لعقد اتفاقية لترسيم الحدود البحرية، إذ قد تؤدّي خطوة مماثلة إلى تأجيج التوتّر مع أوروبا وإقحام سوريا في نزاعات شرق المتوسط هي في غنى عنها بشأن المناطق الاقتصادية.
وبالطريقة نفسها، يجب على الشرع تعزيز العلاقات المباشرة بين الوزارات السورية ونظيراتها الأوروبية، مع تجنّب القضايا الخلافية التي تهيمن على السياسة الأوروبية، مثل المواقف من روسيا و تركيا والهجرة.
وللمفارقة، قد يكون اللاجئون السوريون في تركيا وأوروبا أهمّ ورقة يمتلكها الشرع لضمان الدعم التنموي، بل وربّما تعزيز الروابط مع القطاع الخاص عبر تشجيع روّاد الأعمال السوريين في الخارج على فتح مكاتب إقليمية داخل البلاد. ومع ذلك، قد تكون هذه الخطوة محفوفة بمخاطر دبلوماسية، وقد لا يكون الوقت الحالي مناسباً لتنفيذها. في نهاية المطاف، يعتمد نجاح المرحلة الانتقالية على تحقيق التلاحم الداخلي. فإذا أراد الشرع أن يجعل الثورة السورية مستدامة وناجحة، فعليه تمكين قطاعات الخدمة المدنية والمجتمع المدني من قيادة مشروع إعادة الإعمار الوطني والمشاركة الفاعلة في رسم ملامحه. ومن شأن ذلك أن يطيل شهر العسل السياسي الذي ينعم به، ويحدّ من فرص القوى المناهضة للثورة في عرقلته. وفي الوقت نفسه، عليه بناء علاقات متوازنة وشراكات متعدّدة مع جميع الأطراف لضمان تدفق الاستثمارات التي تحتاجها سوريا. وسيسهم ذلك في إنشاء شبكة من المصالح المتبادلة التي تحميه من الثورة المضادة، وتجنّبه الوقوع في فخّ الاعتماد المفرط على شريك واحد قد يملي عليه مواقف جيوسياسية غير مستقرّة.
لقد منح الربيع العربي سوريا والشرع درساً بالغ الأهمية مفاده أنّ مصير طموحاتهما مترابط بشكل وثيق، فإمّا أن ينجحا معاً أو يفشلا معاً. أمّا بقية المنطقة التي تعتمد على نجاحهما، فلا يسعها إلّا أن تأمل بأنّهما قد تعلّما الدرس جيّداً.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.