منذ بدء التصعيد الإقليمي ما بعد السابع من أكتوبر، تجلّت تداعيات صعود الميليشيات على الأمن العالمي بشكلٍ أكثر وضوحاً، ما أبرزته هجماتُ الحوثيين في البحر الأحمر التي كانت لها انعكاسات واسعة النطاق على الاقتصاد العالمي. غير أنّ الحوثيين – حركة سياسية مسلّحة تسيطر على معظم اليمن – ليسوا إلّا إحدى الجهات المسلّحة غير الحكومية النافذة والمتعدّدة التي تتمتّع بقدرات عابرة للحدود للوطنية. ستستمر هذه المجموعات في تقويض الأمن العالمي إلى أن يتّخذ صانعو السياسات إجراءات قابلة للاستمرار ومستدامة بهدف إشراكها ومعالجة سلوكها الضار.
تتمثّل إحدى مقاربات السياسات بإصلاح القطاع الأمني، وهي عمليةٌ ترمي إلى تحويل البيئة الأمنية من أجل تعزيز المساءلة وحقوق الإنسان وسيادة القانون، لا سيما من خلال نزع سلاح المقاتلين ودمجهم ضمن مؤسسات الدولة. لكن على مدى العقدين الماضيين اللذين شهدا اضطرابات وصراعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعرقلت هذه العمليات بسبب ظهور جهات فاعلة مسلّحة غير حكومية وتعزيز مكانتها بصفتها مقدّمة للخدمات والأمن. تحتلّ هذه المجموعات بشكلٍ متزايد مساحات انهارت فيها مؤسسات الدولة أو ضعفت – بما فيها الجهاز الأمني التقليدي مثل الجيش والشرطة.
عوضاً عن استثمار الوقت والموارد الضرورية لتنفيذ عمليات إصلاح القطاع الأمني المحفوفة بالتحدّيات، يمكن لصانعي السياسات والمختصّين تركيز جهودهم على تحقيق هدنة في الصراعات وإيصال المساعدات الإنسانية. هذان الهدفان هما أكثر واقعية ويمكن أن يشكّلا أساساً لاتفاقات أكثر شمولاً تتمحور حول تقاسم السلطة والمصالحة واحترام سيادة القانون بشكلٍ جوهري.
دول ضعيفة
لقد مهّد إرهاقُ دول عربية متعدّدة منذ العام 2011 الطريقَ أمام انتشار المجموعات المسلّحة. تأوي سوريا بمفردها أعداداً كبيرة من المجموعات المسلّحة غير الحكومية التي تتمتّع بدرجةٍ عالية من الاستقلالية. وتشير التقديرات إلى أنّ القوى الموالية لإيران في البلاد تتألّف من 80 ألف مقاتل، وينتمي الكثيرون منهم إلى بعض أقوى وكلاء إيران، على غرار حزب الله. وفي شمال شرق البلاد، أرسلت وحدات حماية الشعب مقاتلين يُقدّر عددهم بين 30 ألف و65 ألف في العام 2016.
يتكرّر المشهد نفسه في دول أخرى عبر المنطقة. في الواقع، يأوي العراق مجموعات مسلّحة متعدّدة: يُقدّر عدد المقاتلين المسجّلين رسمياً في قوات الحشد الشعبي، وهي منظّمة جامعة تضم عشرات الميليشيات الإسلامية الشيعية، بـ152 ألف مقاتل في العام 2019. أمّا في ليبيا، فيمثّل عناصر الأمن البالغ عددهم 400 ألف ضمن كيانات مختلفة أكثر من 6 في المئة من سكان البلاد.
في هذه السياقات، يسعى إصلاح القطاع الأمني إلى دمج هذه المجموعات وهؤلاء المقاتلين في مؤسسات الدولة، مثل القوات المسلّحة والشرطة. إلّا أنّ قصص النجاح نادرة لإثبات استدامة هذه المقاربة على المدى الطويل. يقوم إصلاح القطاع الأمني على مفهوم السلام الدائم ما إن تخفّ حدّة الصراع أو أن ينتهي. بيد أنّ تحقيق تسوية دائمة يتطلّب عملية خاصة تشمل عدداً من الديناميات والمداولات المترابطة، بما فيها الترتيبات المتعلّقة بتقاسم السلطة والإيرادات والمفاوضات الدستورية، وغيرها. بعبارةٍ أخرى، يجب ألّا تنطلق عملية إصلاح القطاع الأمني فعلياً إلّا بعد التوصّل إلى تسوية دائمة.
الأهم من ذلك أنّه غالباً ما يُقلَّل من أهميّة الآثار الجانبية للصراعات – لا سيما الذكريات الجماعية للظلم والقمع التي تخلقها، فتنشأ المظالم وظروف اندلاع الصراع مجدداً. وتشمل هذه الآثار أوجه عدم المساواة الاقتصادية والفقر. يبرز رابط قوي بين الفقر وعودة الصراع، لا سيما في السياقات التي تشهد خلافات عنيفة بشأن الموارد الطبيعية.
بالتالي، ينبغي أن تركّز عمليّات إصلاح القطاع الأمني على محرّكات الصراع المحتملة – أي المنافسة على الموارد الطبيعية والبنية التحتية الإستراتيجيّة والمؤسّسات المالية – شأنها شأن المصالحة الوطنية والمنافسات السياسية. على سبيل المثال، تتنافس في ليبيا حكومتان، واحده في شرق البلاد والأخرى في غربها. تقوّض منطقةُ الحكم الذاتي في الشرق، حيث تقود إدارة خليفة حفتر برلمانها الخاص ومصرفها المركزي وشركة النفط الوطنية وجهاز الاستخبارات، حكومةَ الوفاق الوطني الليبية المعترَف بها دولياً ومقرها طرابلس.
علاوةً على ذلك، يقوّض غيابُ جهات ضامنة والفشلُ في تطبيق التسويات السياسية واتفاقات السلام إصلاحَ القطاع الأمني. خير مثال على ذلك الحرب في اليمن واتفاق ستوكهولم للعام 2018. في الواقع، أجبر الاتفاق، الذي دافعت عنه بريطانيا والولايات المتحدة، التحالفَ بقيادة المملكة العربية السعودية والحكومةَ اليمنية على سحب قواتهما من مدينة الحديدة الساحلية ووضع حدّ لحملتهما الآيلة إلى الاستيلاء مجدداً على الميناء من الحوثيين، الذين سيطروا عليه في العام 2014. ألزم الاتفاقُ قوات التحالف والحوثيين بالانسحاب، تاركاً قوة أمنية مشتركة جديدة تسيطر على الميناء وعلى المدينة. غير أنّ الحوثيين استبدلوا ببساطة المقاتلين المنسحبين بآخرين يرتدون زي الشرطة وخفر السواحل. بالتالي، وفّر الاتفاق شريان حياة للحوثيين ومهّد الطريق أمام المجموعة لتوسيع رقعة وجودها على طول جنوب البحر الأحمر. كما جعل عدداً من الأحكام المهمة الأخرى في الاتفاق عبثية، مثل مقايضة السجناء وتقاسم الإيرادات والالتزامات بإيصال المساعدات الإنسانية.
عبثية إصلاح القطاع الأمني
تسلّط هذه الحالات الضوء على الظروف الهشّة التي غالباً ما تخيّم على محاولة إصلاح القطاع الأمني. ونظراً لأنّ هذا الإصلاح يقوم على طرق تتمحور حول الدولة، غالباً ما يُنظر إليه كتهديد للمجموعات المسلّحة التي يسعى إلى تسريحها ودمجها في الدولة، لا سيما حيث تسيطر الفصائل المتنافسة على أقوى المؤسسات. نتيجةً لذلك، حاولت الجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية إضعاف هذه المؤسسات أو استمالتها وفقاً لمصالحها السياسية الخاصة. وغالباً ما يقاوم أولئك الذين يفشلون الدولةَ ويعارضونها؛ أمّا أولئك الذين ينجحون – على غرار قوات الحشد الشعبي في العراق – يحافظون على الأرجح على استقلاليتهم مع البقاء داخل الدولة بشكلٍ جزئي.
هذا يعني أنّه من غير المرجّح أن تدمج مجموعات مثل قوات الحشد الشعبي في العراق قوّاتها حقاً أو أن تسمح لها بالخضوع للرقابة المدنية. قد تستمرّ في المطالبة بالمنافع المرتبطة بكونها عضواً رسمياً في القوات المسلّحة من دون الخضوع بالكامل لسلطة الدولة. تشمل هذه المنافع الوصول إلى موازنة الدولة والشرعية الدستورية والحماية القانونية التي تحدّ من تعرّض المجموعة لتدابير عقابية، مثل العقوبات والحظر.
يتمثّل محرّكٌ حاسم للبيئات الأمنية الهجينة برعاية الجهات الخارجية. في العراق وليبيا على سبيل المثال، موّلت الدولة الميليشيات وزوّدتها بالأسلحة بشكلٍ مباشر بسبب مجموعة من الأزمات الأمنية التي تطلّبت تحرّكاً عاجلاً وما نتج عنها من اعتماد على الميليشيات شبه الحكومية للتدخّل. من هذا المنطلق، وبذريعة لجم تدفّق اللاجئين، دعم الاتحاد الأوروبي الميليشيات الليبية. كذلك، انتهت الأسلحة الأمريكية بين أيدي الميليشيات الشيعية في العراق التي كانت قد صنّفتها الولايات المتحدة كمنظمات إرهابية.
في بعض الحالات، تنشأ الروابط بين الراعي والوكيل من الحاجة الملحّة إلى حماية المجتمعات المعرّضة للقهر والقمع العنيفين. بالنسبة إلى البعض، تمثّل الميليشيات الأمل الوحيد لتوفير الأمن، نظراً لضعف سجل الجيش ولانعدام الثقة المتجذّر حيال المؤسسات الأمنية الفاسدة. ينبغي معالجة هذه الديناميات بين الراعي والوكيل في موازاة المحاولات المحلّية الآيلة إلى كبح جماح المجموعات المسلّحة واحتواء سلوكها الضار وفرض سيادة القانون.
ويمكن لصانعي السياسات والمختصّين أن يقسّموا بشكل أفضل موارد إصلاح القطاع الأمني على البرامج التي تركّز على التوصّل إلى هدنة في الصراعات وعلى المساعدات الإنسانية. وعوضاً عن محاولة إقناع الميليشيات بتسليم سلاحها والخضوع لسلطة الدولة، التي لا يُنظر إليها على أنّها جهة محايدة، يجب التركيز على آليات الحؤول دون عودة الصراع. ينبغي أن تشمل هذه الآليات تسهيل وصول المساعدات الإنسانية وضمان دفع رواتب القطاع العام وحماية البنى التحتية الاقتصادية الحيوية.
وهذا المطلب أقل كلفة بكثير من دعوة الميليشيات إلى الموافقة على إصلاح القطاع الأمني كما هو، لأسباب ليس أقّلها أنّ إصلاح القطاع الأمني ليس محايداً من الناحية الأيديولوجية وغالباً ما يُعتبَر أداة غربية للسيطرة. في نهاية المطاف، من شأن تحويل التركيز نحو أهداف أكثر واقعية أن يرسي أساساً لاتّفاقات مستدامة وقابلة للاستمرار.