تؤكّد الضربة الأخيرة بطائرة مسيّرة على جنود أمريكيين متمركزين قرب الحدود الأردنية السورية، والضربات الانتقامية التي شنّتها واشنطن يوم الجمعة، على زيادة خطر احتمال حدوث تصعيد كبير بين الولايات المتحدة وإيران قد يورّط المنطقة بأكملها. فقد شهدت الأشهر الأخيرة ضربات متبادلة بين واشنطن وطهران حيث نفّذت إيران هجمات مباشرة أو غير مباشرة ضد عناصر أمريكيين أو جهات موالية للولايات المتحدة، بما في ذلك ما لا يقل عن 160 هجوماً ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا شنّتها ميليشيات مدعومة من إيران. في المقابل، استُهدف عدد من قادة الميليشيات الإيرانية أو المدعومة من إيران في لبنان وسوريا والعراق، قُتل بعضهم على يد إسرائيل.
يلوح في الأفق خطر اندلاع حرب إقليمية بعد أحداث 7 أكتوبر والصراع الذي تبعها بين إسرائيل وحماس، في ظلّ انضمام حزب الله إلى المعركة على الحدوده اللبنانية مع إسرائيل وإرسال الولايات المتحدة حاملات طائرات بحرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. تصاعد هذا الخطر بشكلٍ جذري عندما كثّف الحوثيون المتمركزون في اليمن -الذين تلّقوا دعماً مادياً كبيراً من إيران- هجماتهم ضدّ السفن التجارية في البحر الأحمر بدءاً من شهر نوفمبر. وفي هجومٍ جريء، شنّت إيران الشهر الماضي ضربةً صاروخيّة على أربيل في كردستان العراق أصابت منطقةً سكنيّة وأسفرت عن مقتل رجل أعمال بارز وابنته البالغة من العمر 11 شهراً.
من الواضح أنّ الجرأة تغمر النظام الإيراني في خضم الصراع الذي تدور رحاه في قطاع غزة. في الواقع، تستمتع طهران بتعرّض الحكومات والمؤسسات الغربية للهجوم بسبب فشلها في إنهاء الحرب على غزّة، وتعتقد أنّ إدارة بايدن لا ترغب في صراع مع طهران في عام الانتخابات. من هذا المنطلق، ترى إيران فرصة لتوسيع نفوذها الإقليمي فتستغلّ الحرب في غزة، تماماً كما فعلت وبتداعيات كبيرة ودامية في خلال الحروب الأهلية في سوريا والعراق واليمن.
إيران تستغلّ التصعيد الإقليمي
يصعب التصوّر أنّ إيران لم يكن لها يد في هجوم 7 أكتوبر، بعد عقودٍ من الرعاية العسكرية والمالية المحورية لحماس في غزة. فإنّ دعمها العملياتي والمادي الكبير لحماس منذ عقود يجعلها، على الأقل، متواطئة في إتاحة الهجوم الذي أثار الحرب الأخيرة. وتتعدّد الأسباب التي تدفع إيران لتشجيع هكذا عمليّة وتسهيلها، منها عرقلة عمليّة التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل التي اكتسبت زخماً كبيراً في الأشهر التي سبقت السابع من أكتوبر، ومحاولة تقويض اتفاقات التطبيع القائمة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب. بالإضافة إلى ذلك، قدّم الصراع في غزة ساحةً لوكلاء إيران الإقليميين للانخراط عسكرياً ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة ولتعزيز صورتهم.
وقد أدّت هذه الهجمات مجتمعةً إلى تضخيم استعراض إيران لقوتها في الشرق الأوسط وفي الوقت نفسه امتحان النفوذ الغربي في المنطقة وإضعافه وزعزعة الوضع الأمني الإقليمي. تقدّم إيران نفسها علنياً كقوةٍ إقليمية تتصرّف دفاعاً عن الفلسطينيين في ظلّ استمرار الحرب في قطاع غزة. من هذا المنطلق، تُصوّر إيران أفعالها كما تُمليها الحرب، وعليه، من المفترض أن توعز وكلاءها بتهدئة التوترات الحالية ودفع المنطقة باتجاه السلام والاستقرار ما إن ينتهي الصراع في غزة.
إلّا أنّه على أرض الواقع، تتناقض هذه الصورة مع إستراتيجية النظام الإيراني الإقليمية الشاملة التي تقضي منذ اعتمادها في خلال ثورة العام 1979 بإنشاء نظامٍ إقليمي جديد مهيمن يكون العرب فيه مرؤوسين والولايات المتحدة خارج الصورة. وقد سبقت الهجماتُ التي شنّتها إيران وشبكتها من الميليشيات ضد كل من الأهداف الغربية والحليفة – بما فيها في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وكردستان العراق وسوريا واليمن – الصراعَ في غزة. على سبيل المثال، أدّت عرقلة الحوثيين للشحن العالمي في البحر الأحمر إلى تشكيل قوةٍ متعدّدة الجنسيات تقوم بدوريات في تلك المياه منذ منتصف العام 2022. كما وأنّ هجوم الشهر الماضي على أربيل ليس حادثاً منفرداً. فقد شنّ النظام الإيراني هجوماً صاروخياً على منطقة سكنية كردية في مارس من العام الماضي، في أعقاب هجمات شنّتها الميليشيات الموالية لإيران ضد مناطق سكنية في فبراير 2021. وعلى مدى أعوام متعدّدة، هاجمت هذه المجموعات قواعد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة عبر العراق وسوريا في إطار جهود منسّقة آيلة إلى طرد القوات الأمريكية من كلا البلدين، والتي مثّلت ركناً أساسياً من سياسة طهران الخارجية منذ تسلّم رجال الدين مقاليد السلطة قبل أكثر من أربعة عقود.
تغيير حسابات إيران
لقد اشتكت المنطقة لأعوام طويلة من استعداد إيران للقتال حتى آخر عراقي وسوري ويمني بينما استغلّت الصراعات المحتدمة في العراق وسوريا واليمن لتوسيع نفوذها في المنطقة الأوسع. والآن تخاطر إيران بحياة الفلسطينيين كجزءٍ من طموحاتها العقائدية الملتوية في المنطقة، وهي تعوّل على التصعيد وعلى حرب كبرى أخرى بغية توسيع نفوذها، على أمل تأجيج تداعيات الحرب في غزة والخروج منتصرةً مهما كان الثمن في أرواح الفلسطينيين، وإذا لزم الأمر، المدنيين في اليمن ولبنان والعراق. وفقاً لحسابات إيران، فهي تظنّ أنّها ستواجه ردود فعل سلبية محدودة في الداخل، لكنها ترتكز بشكل خطير على فكرة أنّ واشنطن وإسرائيل لا تتمتّعان بالجرأة لمحاسبة إيران بشكلٍ مباشر على الفظائع التي تمكّنها من خلال وكلائها.
تترتّب على سياسة إيران هذه تداعيات متعدّدة. في البداية، كما تشير الضربات الأمريكية الأخيرة على مجموعات وكيلة لإيران في العراق وسوريا، تخاطر إيران بإثارة رد غربي أقوى من شأنه زيادة احتمال اندلاع حرب إقليمية تتكبّد إيران فيها خسائر كبيرة. ويعني ذلك ضربات محتملة على أهداف داخل إيران نفسها يزداد الترويج لها في واشنطن وعواصم غربية أخرى. قد يتوصّل صناع القرار الغربيون في مرحلةٍ إلى الاعتقاد أنّ حملةً عسكرية أكثر شراسةً على إيران وحلفائها من شأنها تُغيّر حسابات صناع القرار الإيرانيين.
في هذا الصدد، على الرغم من أنّ الغرب كان يرفض إشعال صراعٍ كبير مع إيران، إلّا أنّ سياسات طهران الإقليمية تُهدّد بتحويل حرب مع الغرب إلى نبوءةٍ تحقّق نفسها. حتى الآن، كانت مقاربة إيران العامة إزاء منافستها مع الولايات المتحدة تقضي بجعل وكلائها يقاتلون عنها ويتحمّلون الردود الانتقاميّة، فتستفيد طهران من النتيجة بخسائر محدودة وبدون مواجهة مباشرة. بيد أنّ الخطاب السائد في الأوساط السياسية الغربية يقول بأنّ هذه المجموعات – أي الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان وقوة الحشد الشعبي في العراق – لا يمكن تمييزها عن النظام في إيران. بالتالي، من المرجّح أن يُنسب سلوكها بشكلٍ متزايد إلى إيران.
في غضون ذلك، يمكن أن يحدث خطأ في الحسابات من الجانبين. تتطلّب التهدئة أن تراجع إيران سياساتها، بينما يتجنّب الغرب الانجرار إلى حربٍ معها بسبب اتساع نطاق الحملة ضد المجموعات الوكيلة لإيران. ويعني ذلك على أرض الواقع أنّه على الولايات المتحدة وحلفائها إيجاد طريقة للتعامل مع التهديد المتأتّي من الحوثيين في اليمن أو من قوات الحشد الشعبي في العراق، من دون استهداف إيران بالضرورة بشكلٍ مباشر وربما إقحام المنطقة في صراعٍ شاملٍ نتيجةً لذلك. ولكي تحقّق الحكومات الغربية ذلك، لا بدّ من أن تحدّد بوضوح خطوطها الحُمُر حتى لا تسيء إيران فهم أعمالها أو تستغلها، وحتى يتضاءل احتمال وقوع أي من الطرفين في خطأ في الحسابات.
بعبارةٍ أخرى، يجب على الحكومات الغربية أن توضّح الحدّ الذي يمكن أن تتحمّله في خسارة الأرواح وعرقلة التجارة الدولية والاستفزازات من إيران أو وكلائها قبل بلوغ عتبة الضربة الانتقامية على إيران. ومن شأن ذلك أن يعزز الجهود الدبلوماسية الرامية إلى ردع إيران ووكلائها وتهدئة التوترات والتوصّل إلى تسويةٍ من خلال المفاوضات.
والأهم من ذلك هو أنّ التصعيد الحالي يُسلّط الضوء على الحاجة إلى خط اتصال مفتوح يسمح للطرفين بتجنّب سوء الفهم الذي قد يجرّهما إلى صراعٍ أكبر. لكن من الأساسي ألّا تستغلّ إيران ذلك من أجل تحقيق مصالحها بالوكالة. لقد عوّلت إيران في خلال العقد الماضي على رفض الغرب المستمرّ من فتح حربٍ في المنطقة على مصراعيها من أجل توسيع قدرات الجهات الوكيلة لها، من حيث العديد والموارد. وقد تمكّنت هذه الجهات من إبقاء هيمنتها على المشهد السياسي المحلّي في دُولها، ما عزّز سيطرة إيران ونفوذها على الساحة الجيوسياسية. يجب ألّا يُسمَح لإيران السير في كلا الاتجاهين؛ أي أن تكون قادرة على اللجوء إلى الجهود الدبلوماسية لاستدراك رد عسكري على الأعمال التي تشنّها، وفي الوقت نفسه أن تمكّن وكلاءها الإقليميين من تنفيذ أجندتهم الجماعية الخبيثة. وإلّا، لن يكون من الممكن ردع الزخم المتّجه نحو إشعال حرب إقليمية.