يُسلّط التصعيدُ العسكري منذ اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر الضوء على هشاشة السلام في الشرق الأوسط إزاء عودة الصراعات ربما على شكل حرب أوسع تجتاح المنطقة بأسرها. على مرّ أعوامٍ من الصراعات الداخليّة المدمّرة والحروب بالوكالة في كلّ من العراق وسوريا وليبيا واليمن، بُذلت جهود واسعة النطاق بهدف إرساء نظام إقليمي يقوم على التوافق وبنية أمنية جماعية. بيد أنّ هذه الجهود أتت أحياناً ردّاً على حدث ما أو تطوّرات معيّنة، على غرار وساطة الصين في إطار التوتّرات السعودية الإيرانية، وأحياناً أخرى اقتصرت في سياق صراعٍ واحد، كما في ما يتعلّق بوساطة العراق في التنافس السعودي الإيراني في اليمن.
في سوريا والعراق وليبيا، باءت محاولات متكرّرة من إجل إحلال السلام والاستقرار بالفشل، بما فيها عدد لا يحصى من فترات وقف إطلاق النار ومسارات الوساطة. وفيما يتصاعد التنافس بين الولايات المتحدة وإيران في ظلّ الحرب على غزة، يلوح في الأفق خطر نسيان الحروب بالوكالة ما بعد الربيع العربي، مع ما يترتّب على ذلك من تداعيات خطيرة على السلام والاستقرار الإقليميين. وقد تسبّبت الحروب الأهليّة في سوريا وليبيا واليمن بالفعل بكوارث إنسانيّة، لكن من المرجّح أن تشهد هذه الدول المزيد من الصراعات المدمّرة والفظائع لسنوات إن لم تكن لعقود، ما دامت الأطراف المتناحرة تملك الجرأة والموراد لمواصلة القتال. المطلوب هو تسويةٌ كبرى تشمل الجهات المحلية والإقليمية والدولية من أجل تحقيق سلام واستقرار دائمَين.
التحديات التي تواجه إرساء السلام
ستستغرق الجروح التي خلّفها عقدان من العنف أعواماً كثيرة لكي تلتئم. تواجه سوريا بشكلٍ خاص التحدي الصعب بين الأجيال المتمثّل بالتوفيق بين مظالم مختلف المجتمعات على المستويين المحلي والوطني، ناهيك عن وجود عشرات الآلاف من المتمرّدين المسلّحين المصمّمين على مواصلة تمرّدهم ضدّ نظام الأسد. والأمر سيان في اليمن وليبيا حيث شكّلت الحروب والأعمال الوحشية على مدى حوالي عقد من الزمن الوعي الجماعي، وستستمرّ في رسم مستقبلهم لسنوات طويلة.
هل تعود الحروب الأهلية مجددا؟
في الواقع، تميل الحروب الأهلية إلى العودة مجدداً حيث أنّ 57 في المئة من البلدان التي مرّت بحروبٍ أهلية بين العامين 1945 و2009 شهدت صراعاً واحداً على الأقل في وقت لاحق. فلا يزال انتقال العراق إلى وضع ما بعد الصراع في أعقاب الحرب على داعش مؤقتاً في أفضل الأحوال، والسلام في لبنان هشٌ في أعقاب عقودٍ من الحرب الأهلية. وبحسب بيانات برنامج “أوبسالا” لبيانات الصراعات (Uppsala Conflict Data Project)، تضمّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر من خُمس الصراعات كافة منذ العام 2000، وحوالي 40 في المئة من الصراعات البالغة الشدّة، التي راح ضحيّتها أكثر من ألف شخص في خلال عامٍ واحد. الآثار كارثية: 8200 قتيل على الأقل في ساحات المعركة في ليبيا و20 ألف في اليمن و313 ألف في سوريا بين العام 2011 ومايو 2018.
لقد عقّدت الخلفيّات الجيوسياسية والجيواقتصادية الصورة وخلقت التنافسات الإقليمية مساحةً ازدهرت فيها المجموعات المسلّحة. استغلّت إيران والمملكة العربية السعودية الصراعات داخل الدول كمنصّةٍ لدفع مصالحها الجيوسياسية قدماً، لا سيما في سوريا واليمن. وهي ليست الوحيدة. فقد تركت منافسات أخرى وصراعات بالوكالة آثاراً عميقة في المنطقة. تعاونت الحكومات الغربية في العراق مع القوى الأمنية الحكومية والقبائل العربية السنية والمقاتلين الشيعة ضمن قوات الحشد الشعبي والبيشمركة الكردية. وفي سوريا، دعم الغرب المجموعات المتمرّدة التي تقاتل نظام الأسد، ووحدات حماية الشعب الكردية التي ترفض محاربة النظام على حدّ سواء. وقد تقاتلت هذه الجهات في ما بينها في مرحلةٍ ما. وفي ليبيا كذلك، ساندت الدول الأوروبية ميليشيات متناحرة؛ فقد دعمت إيطاليا والأعضاء الآخرين من الاتحاد الأوروبي بمعظمهم حكومة الوفاق الوطني في طرابلس في حين أيّدت فرنسا الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر. كما دعمت الدول الخليجية قوى متخاصمة، إلى جانب تركيا ومصر.
ما زاد الطين بلّة أنّ دولاً كانت قد عزّزت مصالحها الأمنية القومية في السابق من خلال القوى التقليدية انتقلت الآن إلى استخدام الجهات الوكيلة. فقد أنشأت تركيا على وجه الخصوص مجموعات بالوكالة وحشدتها في الصراعات في سوريا وليبيا. بيد أنّ المجموعات المسلّحة لا تعتمد بالضرورة على القوى الخارجية فحسب. ويملك بعضها موارد هائلة على الصعيدين الداخلي والدولي، وعائدات من التجارة غير الشرعية عبر الحدود ومن الموارد الطبيعية وابتزاز المجتمعات المحليّة. ويقدّر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أنّ الحوثيين في اليمن حوّلوا مبلغاً لا يقل عن 1,8 مليار دولار كان مخصّصاً للحكومة في العام 2019 بهدف تمويل عملياتهم والسيطرة على مصادر الدخل القانونية وغير القانونية، بما فيها ضريبة الخُمس التي فرضوها على أنشطة اقتصادية متعدّدة. وقد أنشأت قوات الحشد الشعبي في العراق هيئةً تجارية للاستفادة من عقود الدولة؛ وتُولّد المجموعات المسلّحة في العراق بشكلٍ عام 10 مليارات دولار سنوياً من عائدات الجمارك.
دور المجتمع الدولي في إرساء السلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
إنّ خيارات المجتمع الدولي لاحتواء سفك الدماء محدودة. لقد قبلت القوى الإقليمية والدولية المتورّطة في سوريا بمعظمها إلى حدً ما فكرة أنّ النظام باقٍ، وإن كانت لا تزال تعقد آمالاً على سيناريو يغادر فيه بشار الأسد السلطة أو تتم الإطاحة به يوماً ما في المستقبل. علاوة على ذلك، فهي تريد المحافظة على وحدة أراضي الدولة السورية والحؤول دون انهيارها أو تقسيمها بحكم الواقع، لأنّه قد يترتّب على مثل هذا السيناريو تداعيات بعيدة المدى على استقرار الدول الأخرى في المنطقة. وتدرك الجهات الفاعلة بمعظمها أيضاً ضرورة معالجة الأزمات الإنسانية في سوريا.
بالتالي، نرى بعض الأسس للبناء على المصالح المشتركة. على سبيل المثال، من المحتمل أن تسنح فرص أخرى للولايات المتحدة التوسّط من أجل التوصّل إلى ترتيبٍ في سوريا يهدّئ مخاوف الأمن القومي التركي من جهة، ويحافظ على وحدات حماية الشعب كرادعٍ في وجه عودة داعش من جهة أخرى. في الواقع، دخلت سوريا في نظام سياسي ما بعد داعش حيث يحاول كلّ من المتناحرين المطالبة بحصة كبيرة في البلاد. ولكن، إذا استمرّ ميزان القوى في سوريا في الميل لصالح نظام الأسد وإيران وروسيا، بحيث يصبح غير مقبول للآخرين في المنطقة، قد يزيد ذلك من احتمال اندلاع مزيد من الحروب الأهلية في سوريا والمنطقة.
في المقابل، يمكن لتوازن القوى أن يضع قواعد وحدوداً متّفق عليها. وقد لا تكون واشنطن والعواصم الأوروبية الحليفة لها قادرة على فرض قواعد، لكن يمكنها أن تعمل على صقلها في الأعوام القادمة. كما تُظهر تجربة الولايات المتحدة في العراق، فإنّ الانسحابات تترك فراغاً سيملؤه أعداؤها بشكلٍ شبه مؤكد، ما سيغيّر ميزان القوى في اتجاه واحد بحيث تقلّ فرص تحقيق تسوية مستدامة، علماً أنّها ضروريّة لتفادي معاودة الصراع. في العراق، كانت إيران هي التي تحرّكت للسيطرة على المساحة التي خلّفها انسحاب القوات الأمريكية في العام 2011 واستغلالها. وقد أدّى ذلك إلى تهميش العرب السنّة والأكراد وتأجيج التوتّرات العرقية والطائفية التي يمكن القول إنّها مكّنت داعش من الاستيلاء على السلطة في العام 2014.
بناء التعاون الإقليمي: مفتاحٌ لسلامٍ دائمٍ في الشرق الأوسط
الوجود يعني القوة، وبالتالي فإنّ الجهات الموجودة على الأرض هي التي ترسم معالم الدول والهياكل التنظيمية في بيئات ما بعد الصراع. إذا حافظت الولايات المتحدة على وجودها شرق نهر الفرات وتصدّت لمحاولات إيران وروسيا الآيلة إلى طردها، يمكنها المساعدة في الحفاظ على درجةٍ من الاستقرار الإقليمي وضمان بقاء بعض أجزاء سوريا على الأقل بمنأى عن جولات جديدة من الصراع. على الرغم من أخطائها المتعدّدة في العراق، يمكن القول إنّ الولايات المتحدة خلقت حاجزاً وقائياً في وجه المجموعات الطائفية المتنافسة، التي لولا ذلك لكانت تمتّعت بحريةٍ مطلقة وربما تسبّبت بالمزيد من الخسائر في الأرواح. فقد منع هذا الحاجز على الأقل الصراعات العرقية والطائفية من اجتياح ملاذات آمنة على غرار إقليم كردستان.
لعلّ أهمّ درس يمكن تعلّمه من الصراعات التي عصفت بالمنطقة في خلال العقد الماضي هو أنّ ما من جهةٍ قادرة على معالجة الأزمات والصراعات بمفردها. ينبغي على الحكومات الغربية أن تستقي الدروس من الماضي والعمل مع المنطقة الأوسع، بما في ذلك تركيا والدول الخليجية. بالتالي، يمكن إنشاء تحالف يضمّ قوات عربية ومساهمة تركية كبيرة ويشبه قوات المساعدة الدوليّة لارساء الأمن في أفغانستان بقيادة حلف شمال الأطلسي، من شأنه أن يعمل نحو تحقيق الاستقرار في سوريا وليبيا واليمن. فعلى الرغم من تدهور علاقات تركيا مع الغرب، لا تزال المرشّح الأكثر قدرة على قيادة المنطقة، لا سيما وأنّ مساهمتها ستساعد في إضفاء الشرعية على أي جهد احتواء في سوريا. ومن وقد ترحّب تركيا بدورٍ غربي وخليجي أكبر وأكثر تفاعلاً في هذا الصدد، علماً أنّه من غير المرجّح أن تظهر معايير هذا الدور الكاملة في الأعوام القادمة، وبالتأكيد ليس في ظلّ استمرار الحرب على غزة.
ستكون سوريا والعراق وليبيا واليمن دولاً هشة ومؤسساتها الوطنية ضعيفة لسنوات طويلة. وستنتقل الحوكمة في أجزاء كبيرة من هذه الدول إلى الجهات المحلية الشعبية. فإذا كانت تنوي تأمين مساعدات إنسانية عاجلة إلى السكان المحاصرين وإرساء معايير ديمقراطية وتحقيق المساءلة وتعزيز مجتمعاتها الهشة والمنقسمة، ستحتاج هذه الجهات إلى دعمٍ دولي موثوق ومستمرّ.