تتصدّر قطر، الدولة الخليجية الصغيرة، عناوين الأخبار مجدّداً لدورها في التوسّط بين إسرائيل وحماس. وعلى الرغم من عدم التوصّل إلى اتفاق جديد حتّى الآن للإفراج عن الرهائن المُحتجزين في غزة، فقد أسفرت هذه الجهود عن النتيجة الوحيدة الناجحة، حتى الآن، في الحملة الإسرائيلية المستمرّة على غزّة منذ أربعة أشهر، والتي تركتها في حالة من الدمار وأودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين. في 24 نوفمبر الماضي، حقّقت الدبلوماسية القطرية إنجازاً بالتوصّل إلى هدنة مؤقّتة لمدّة سبعة أيام، سمحت لنحو 105 أسرى و240 امرأة وطفلاً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية بالعودة إلى منازلهم، وخروج حاملي جوازات السفر الأجنبية المحاصرين في غزّة، ودخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر. ومؤخّراً، أسفرت مفاوضات مكثّفة خلف الكواليس عن اتفاق لإيصال الأدوية إلى غزّة وإلى الرهائن أيضاً.
لكن على الرغم من هذه الإنجازات، تعرّضت قطر لانتقادات شديدة وتهديدات من أعضاء في الكونغرس الأمريكي ومراكز بحوث في واشنطن ووسائل إعلام بسبب علاقتها بحماس.
في 26 نوفمبر، على سبيل المثال، قال السيناتور مايك لي (جمهوري عن ولاية يوتا) على حسابه على منصّة إكس إنّ «يدي قطر ملطّختين بالدماء»، وإنّه في حال لم تعتقل حكومتها قادة حماس وتصادر أصولهم «سيكون لذلك عواقب». وتكرّر ذلك في تصريحات أخرى منها على سبيل المثال لا الحصر تصريحات عضويْ مجلس الشيوخ تيد بود (جمهوري عن ولاية نورث كارولاينا)، وتيد كروز (جمهوري عن ولاية تكساس)، وعضوة الكونغرس كارول ميلر (جمهورية عن ولاية فرجينيا الغربية) الذين حاولوا جميعاً توريط قطر في أحداث 7 أكتوبر.
بيد أنّ هذه التصريحات تعكس في أحسن الأحوال سوء فهم عميق لعلاقة قطر مع حماس، وفي أسوأ الأحوال محاولة مخادعة وقصيرة النظر لمعاقبة الدوحة على دورها الأوسع في دعم القضية الفلسطينية. وبذلك، يخاطر منتقدو الدوحة بإبعاد الشريك الدبلوماسي الأكثر فعالية للولايات المتّحدة في الشرق الأوسط وحليف إستراتيجي أساسي من خارج حلف شمال الأطلسي يستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة. يشكّل هذا الهجوم رادعاً لأي طرف منخرط في دبلوماسية جادّة، في وقت لا تستطيع المنطقة تحمّل مزيداً من النزعة العسكرية بينما تتوجّه نحو حرب واسعة النطاق لا نهاية لها.
علاقات هادفة
تستضيف قطر منذ العام 2012 مكتباً سياسياً لحماس، بعد طرد القيادة الخارجية للحركة من مقرّها السابق في دمشق لانتقادها القمع العنيف الذي مارسه نظام الأسد ضدّ المتظاهرين في بداية الربيع العربي. وما يغفل عنه منتقدو الدوحة هو أنّ إدارة أوباما قد طلبت من قطر أن تؤدّي هذا الدور حتى تحافظ على قناة اتصال غير مباشرة مع حماس، التي صنّفتها وزارة الخارجية الأمريكية منظّمة إرهابية. وهذا التصنيف يحظّر على المسؤولين الأمريكيين التواصل مباشرة مع حماس، ما يزيد من أهمّية وجود وسيط قادر على الانخراط بشكل عملي في قضايا مُحدّدة، وخصوصاً في أوقات التوتر.
وفي السنوات الأخيرة، قدّمت الحكومة القطرية أيضاً مساعدات مالية كبيرة لغزّة لدفع رواتب موظّفيها، وتقديم المساعدة للأسر المحتاجة، وتمويل تشغيل المدارس والمستشفيات التابعة لوكالة الأمم المتّحدة للاجئين، ودعم مشاريع البناء. وكما أكّد تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز، قُدّمت هذه الأموال بناءً على طلب من الولايات المتّحدة وإسرائيل، اللتين أرادتا تحقيق الاستقرار في غزّة وسط الحصار الإسرائيلي الخانق، لكنّهما لم تتمكّنا من تخصيص الأموال بنفسيهما. ولكن هذا لا يعني أنّ إسرائيل لم يكن لها دور مباشر في توزيع هذه الأموال. في بعض الأحيان كانت الأموال تُنقَل يدوياً عبر معبر إيرز الإسرائيلي إلى غزّة برفقة ضبّاط المخابرات الإسرائيلية. وفي وقت لاحقٍ، وزِّعت من خلال آليّات المساعدة التابعة للأمم المتّحدة بموافقة الحكومة الإسرائيلية.
في الواقع، قبل أيام قليلة من أحداث 7 أكتوبر، طلبت إسرائيل وقادة حماس من قطر زيادة تمويلها لغزّة من أجل تخفيف الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتهدئة السخط، بحسب تقارير نشرتها الصحافة الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، كان من المقرّر أن تعلن الحكومة الإسرائيلية زيادة تصاريح العمل لسكان غزّة في إسرائيل. وعند تنفيذ حماس هجومها، لم تكن قطر بعد قد وافقت على هذه الزيادة.
والأهم من ذلك أنّ ما من طرف آخر تمكّن من تأدية هذا الدور قبل هجوم 7 أكتوبر أو بعده. وهذا يشمل الولايات المتّحدة، على الرغم من انخراطها في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على مدى عقود، باعتبارها الوسيط الرئيسي في عملية السلام.
مع ذلك، وقبل أيام قليلة، طالب السيناتور بود في قاعة مجلس الشيوخ قطر «إمّا بالضغط على قادة حماس لإطلاق سراح الرهائن الآن أو طردهم من أراضيكم». لكن هل تمتلك قطر هذا النوع من النفوذ، في حين انتقل مقرّ قادة حماس مرّات متعدّدة في الماضي؟ إذا وجّهت قطر إنذاراً أخيراً مُماثلاً، فهل تنقطع علاقتها البنّاءة مع القيادة حماس السياسية، وبالتالي تكبح أي إمكانية أخرى في التوسّط بين الحركة والعالم الخارجي؟
إنّ هذه المقاربة المتشدّدة التي يدعو مسؤولون أمريكيون إلى اعتمادها هي التي جعلت الولايات المتّحدة عاجزة في دبلوماسيتها، حتى خارج نطاق إسرائيل وفلسطين. لقد عزلت واشنطن نفسها لسنوات عن الأطراف الأساسية في الصراعات، بما فيها الصراعات التي تشارك فيها، في حين أعطى الكونغرس أولوية كبيرة للإنفاق العسكري على حساب الهيئة الدبلوماسية الأمريكية. وبالنتيجة، أصبح انخراط الولايات المتحدة بالعالم عسكرياً أكثر ومرتكزاً على فرض العقوبات، ولا سيما منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. ولكن غالبية الأزمات لا حلّ عسكري لها. وبمكان ما، تصبح الدبلوماسية والوساطة ضروريتان لدعم الحل السياسي، مهما كان مستغرباً، كما في حالة طالبان التي أنهت «الحرب المديدة» في أفغانستان.
في الواقع، سدّت قطر الفراغ الدبلوماسي الأمريكي. وتوسّطت إلى يومنا هذا بين الولايات المتّحدة وإيران لإطلاق سراح السجناء الأمريكيين، وبين الولايات المتّحدة وطالبان لإنهاء الحرب في أفغانستان – وهذا يشمل مساعدة المدنيين الضعفاء الذين تُرِكوا لمصيرهم بعد الخروج الأمريكي المتسرّع والفوضوي في أغسطس 2021. وفي العام الماضي، تفاوضت قطر أيضاً على عودة الأطفال الأوكرانيين الذين أسِروا في روسيا، وكذلك دخلت في مفاوضات بين الجهات السياسية الفاعلة في فنزويلا لتأمين أجواء تنافسية عادلة قبيل انتخابات العام 2024.
وفي كلّ حالة، كانت الولايات المتّحدة عاجزة عن إجراء مفاوضات مماثلة لأنّها على قطيعة مع إيران أو طالبان أو روسيا أو فنزويلا. في المقابل، تعتمد الدوحة سياسة الحياد والانفتاح تجاه الكثير من الجهات السياسية الفاعلة. وهذا أحد مُتطلّبات الوساطة الفعّالة التي يجب أن تقوم على تنمية العلاقات والثقة. ويشمل ذلك إسرائيل التي حافظت قطر على علاقة غير رسمية معها منذ التسعينيات، وهو العقد الذي شهد افتتاح إسرائيل مكتباً تجارياً لها في الدوحة. ومن خلال سياسة قطر بشأن بناء العلاقات والوساطة، أصبحت الدوحة تؤدّي دوراً أكثر فعالية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مقارنة بأي من أقرانها، حتى الدول التي طبّعت العلاقات مع إسرائيل.
لكن هذا لا يعني أنّ قطر ليس لديها خطوط حمراء. فهي لا تتعامل مع جهات مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (في الواقع، تؤدّي قاعدة العُديد الجوية القطرية المقرّ الأمامي للقيادة المركزية الأمريكية، دوراً أساسياً في دعم العمليات الأمريكية ضدّ كلا المجموعتين). لكنّها ظلّت بشكل عام منفتحة على التعامل مع مجموعة واسعة من الجهات الإقليمية، بما فيها الجماعات الإسلامية السياسية التي يعتبرها بعض جيران قطر تهديداً. لقد دفعت قطر بالفعل ثمن هذه السياسة البراغماتية المتوازنة. ففي العام 2017، فرضت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة والبحرين ومصر حصاراً على قطر استمرّ حتى يناير 2021.
صحيح أنّ السعي إلى معاقبة أي شخص على صلة بحماس أو مرتبط بها في أعقاب أحداث 7 أكتوبر أمرٌ مفهوم، إلّا أنّ السعي إلى معاقبة الدوحة على دورٍ أيّدته الولايات المتّحدة وإسرائيل يبقى مغلوطاً وخطيراً. فهو يؤدّي إلى نتائج عكسية تعرقل العمل الدبلوماسي الذي، من أجل أن يحقّق هدفه بفعّالية، يستلزم إجراء مفاوضات صعبة مع الخصوم والأعداء لتحديد نقاط التسوية. وعليه، فإنّ السعي وراء الوسطاء هو السبيل المؤكّد لتهميش الجهود السياسية لإنهاء الحرب والإبقاء على الخيارات العسكرية وحدها والصراع الذي لا نهاية له على الطاولة.
نُشرت هذه المقالة في الأصل في National Interest في 6 فبراير 2024.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفَين حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.