تحوّلت مشاهد الرعب إلى حالة يومية مألوفة. إذ يلتفّ عشرات الآلاف من الفلسطينيين اليائسين الجائعين في طوابير لا تنتهي تحت شمس حارقة، يُجرون فحوصات بيومترية لأغراض أمنية، بينما يتدفّقون باتجاه مركز إغاثة بائس، على أمل الحصول على صندوق طعام يسدّ رمقهم. وفي كلّ يوم، يُقتل أو يُجرح المئات منهم نتيجة خيار مؤلم اتّخذوه: إما الحصول على طعام يسدّ رمقهم، أو مواجهة خطر التعرّض لإطلاق النار.
مع تصاعد العنف الإبادي الذي تمارسه إسرائيل ضدّ الفلسطينيين العزل في غزّة منذ أكثر من 20 شهراً، وانسحاق السكّان تحت وطأة المجاعة، يصبح خيار الحكومات النافذة، وخصوصاً الولايات المتّحدة، جليّاً للغاية لا يحتمل التأجيل: إما التحرّك فوراً لوقف مجاعة وشيكة يمكن تفاديها، ومنع التهجير القسري لشعب كامل، أو المخاطرة بأن تصبح متواطئة في أحد أكبر الإخفاقات الأخلاقية في عصرنا. هذا ليس وقت الغموض أو التردّد أو المماطلة، بل وقت يتطلّب وضوحاً أخلاقياً، وشجاعة سياسية، وإجراءات حاسمة. فحياة أكثر من مليوني فلسطيني، نصفهم من الأطفال، على المحكّ.
إنّ مشاهد الفلسطينيين الجائعين المؤلمة في غزة وهم يبحثون يائسين عن طعام يسدّ رمقهم ليست مجرّد حوادث عابرة، بل هي نتيجة مباشرة لنظام توزيع المساعدات الجديد الذي أُطلق مطلع هذا العام. وبمعزل عن كونه جهداً إنسانياً حقيقياً، تتجاوز هذه العملية المنسّقة بين السلطات الإسرائيلية والولايات المتّحدة كلّ من الأمم المتّحدة والوكالات الإغاثية المعتمدة بذريعة منع وصول المساعدات إلى حركة حماس. لكنّه في حقيقته مشروع عسكري، صمّمته إسرائيل وتنفّذه الولايات المتّحدة، تحت إشراف «مؤسّسة غزّة الإنسانية» التي أنشِئت مؤخّراً ومقرّها الولايات المتّحدة. ففي جوهر هذا العمل الإغاثي يكمن هدف شرير وأشد خطورة من مجرّد تقديم الإغاثة، إذ يتمثّل في التهجير القسري والنقل الجماعي للسكّان المدنيين من خلال تجويعهم وحرمانهم من المساعدات. وهذه جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
ما يُقدّم على أنّه توزيع للمساعدات هو في الحقيقة ليس سوى مصيدة: قفص يُغرى فيه الجياع بالطعام، ومصمّم لاستدراجهم إلى منطقة مراقبة مشدّدة، حيث يُمتهن الإذلال ويباح القتل. وعبر تركيز الفلسطينيين في أقصى جنوب غزّة، قرب الحدود المصرية، يبدو أنّ الإستراتيجية تمهّد الطريق لتهجيرهم جماعياً إلى مصر. وهكذا، يصبح نظام المساعدات هذا بعيداً كل البعد عن كونه طوق نجاة إنساني، بل هو خطوة محسوبة في حملة أوسع لتهجير السكّان قسرياً. وتتشابه هذه الإستراتيجية، بشكل مخيف، مع اقتراح الرئيس دونالد ترامب السابق، الذي عرض أم تتملّك الولايات المتّحدة غزّة، بعد تهجير سكانها، ومن ثمّ تحويلها إلى «ريفيرا في الشرق الأوسط». ووفقاً لتقارير الأمم المتّحدة، فقد تمّ بالفعل تهجير أكثر من 640,000 فلسطيني منذ استئناف إسرائيل العمليات العسكرية في غزّة في 18 مارس الماضي، في انتهاك صارخ لاتفاق وقف إطلاق النار الذي دام شهرين وعمّق أزمة إنسانية ضخمة ذات أبعاد كارثية.
وعلى الرغم من وصفه بأنّه مشروع مستقلّ ومحايد، إلّا أنّ التقارير تشير إلى أنّ مشروع المساعدات الجديد نشأ في دوائر الحكومة الإسرائيلية في خلال الأسابيع الأولى من حملة الإبادة الجماعية. وقد أدانت منظّمات الإغاثة وحقوق الإنسان هذا المشروع بالإجماع، مؤكّدة أنّه ينتهك المبادئ الأساسية للعمل الإنساني: الإنسانية، والحياد، وعدم التحيّز، والاستقلالية. ولم يمض سوى يوم واحد على موعد إطلاق عمليات المؤسّسة، حتى قدّم المدير التنفيذي لـ «مؤسّسة غزّة الإنسانية» استقالته، مبرّراً قراره بانعدام الاستقلالية.
عندما أطلقت إسرائيل هجومها العسكري الأخير، وسمّته «عملية عربات جدعون» كنذير سوء، أفادت تقارير بأنّ أحد أهدافه الرئيسة هو تهجير معظم سكّان غزّة إلى الجزء الجنوبي من القطاع، وخصوصاً إلى مدينة رفح، التي كانت تأوي أكثر من 200 ألف نسمة وتحوّلت اليوم إلى أرض قفراء خاوية على عروشها. ولم تلبث هذه التقارير أن تأكّدت عبر تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه، الذي أقرّ بخطط نقل جميع سكّان غزّة إلى ما سمّاه «منطقة معقّمة» في الجنوب، بينما تواصل القوّات الإسرائيلية عملياتها في أماكن أخرى. وفي خلال مخاطبته جنود الاحتياط الإسرائيليين، ذهب نتنياهو أبعد من ذلك، وصرّح بأنّ هدف إسرائيل النهائي هو القضاء على الفلسطينيين في غزّة، وأشار إلى أنّ العقبة الرئيسة أمام ذلك هي إيجاد دول ثالثة تقبل بهم. ويعلم الفلسطينيون أنّهم لن يكون لهم رأي في مصيرهم القاسي.
منذ السابع من أكتوبر 2023، لا يمكن تبرير انتهاكات إسرائيل الواسعة في غزّة، بدءاً من القتل الجماعي ومروراً بالتدمير الواسع للبنية التحتية المدنية ووصولاً إلى التهجير القسري والتجويع الجماعي، على أنّها أضرار جانبية أو نتائج عرضية لحملة عسكرية. بل تعكس هذه الأفعال سياسة متعمّدة ومنهجية، جرى التخطيط لها بعناية وتنسيقها على أعلى المستويات في الحكومة الإسرائيلية ومؤسّستها العسكرية. والهدف واضح لا لبس فيه: تفرّيغ غزة من سكّانها من خلال سلسلة من الجرائم الدولية الجسيمة التي تحمل جميع سمات الإبادة الجماعية.
يشاع في الخطاب العام اختزال مفهوم الإبادة الجماعية في شكل الإبادة بالقتل الجماعي المنظّم. غير أنّ اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تعترف بأنّ من الممكن «تدمير» جماعة بشرية من خلال أفعال لا ترتقي لمستوى القتل الجماعي المباشر. وتبدو إستراتيجية الحكومة الإسرائيلية اليوم معتمدة بشكل متزايد على تكتيكين متوازيين: التهجير القسري وتدمير مقوّمات الحياة الأساسية. ويشمل ذلك الحرمان المتعمّد من الغذاء والرعاية الطبّية والمأوى والأمن، وهي عناصر أساسية للبقاء على قيد الحياة. وعندما تُمارَس هذه الأفعال ضدّ جماعة مُستهدفة، فإنّها تُعدّ بموجب القانون الدولي جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، بل وحتى تندرج ضمن جريمة الإبادة الجماعية نفسها. فالمقصود ليس بالضرورة الإبادة الفورية، بل التدمير البطيء والمتدرّج: محو شعب بأكمله عبر سياسات مدروسة تهدف إلى تجويعه وإمراضه وتهجيره من أرضه. وكلّ ذلك يجري في ظلّ صمت دولي مطبق يصمّ الآذان، ما يخلق مناخاً للإفلات من العقاب يشجّع إسرائيل على المضيّ في أفعالها من دون رادع أو محاسبة.
هذه الحملة الشعواء من التهجير القسري ليست انحرافاً عن السياسات السابقة، بل هي استمرار، وتصعيد، لمشروع الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي الممتدّ منذ عقود. يقوم هذا المشروع في جوهره على محو الهوية الفلسطينية وتجريد الفلسطينيين من أرضهم. وقد فرضت إسرائيل، بشكل منهجي، نظاماً شاملاً من القيود المتعمّدة على حرّية حركة الفلسطينيين، وأخضعت المدنيين لنظام تصاريح صارم وفصل عنصري آلي، وجرّدتهم من حقهم في تقرير مصيرهم، وقيّدت حتى أبسط تفاصيل حياتهم اليومية بسلطة بيروقراطية وعسكرية متشابكة.
واجب منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها
تفرض اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التزاماً قانونياً وأخلاقياً على جميع الدول لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وهذا ليس التزاماً شكلياً، بل يتطلّب اتخاذ تدابير فعّالة لإنهاء الإبادة الجماعية ومنعها والتحقيق فيها ومعاقبة مرتكبيها، فضلاً عن حماية الفئات الضعيفة المعرّضة لخطر الإبادة. وكلّ دولة طرف في الاتفاقية مقيّدة بهذا الإطار القانوني. وفي هذا السياق، فرضت اليمن، مستندة إلى ما تسمح به الاتفاقية، حصاراً على السفن المتّجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر لمنع وقوع جريمة الإبادة وإجبار إسرائيل على إنهاء حصار التجويع الخانق المفروض على غزّة.
وبالنظر إلى انتهاكات إسرائيل الفاضحة للقانون الإنساني الدولي، وفي مقدمتها تجويع المدنيين عمداً وعرقلة إيصال المساعدات الإنسانية، وكذلك تحدّيها الصريح للإجراءات المؤقّتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية، يُلقى على الدول الأطراف الأخرى التزام عاجل وواضح بالتحرّك. فلا يمكن للدول التي تواصل توفير الغطاء السياسي والدبلوماسي، أو الدعم المالي أو العسكري لإسرائيل، أن تدّعي الحياد بصدق. ووفقاً للقانون الدولي، يجعلها هذا الدعم متواطئة بطريقتين أساسيتين: أولاً، من خلال الإخفاق في منع الإبادة كما تنصّ المادة الأولى من اتفاقية الإبادة الجماعية؛ وثانياً، من خلال تمكين وقوعها بشكل مباشر، وهو شكل واضح من أشكال التواطؤ بموجب المادة الثالثة الفقرة “هـ” من الاتفاقية. وفي مواجهة الفظائع الجماعية، لا يُعدّ الصمت وعدم التحرّك مواقف حيادية، بل هما في جوهرهما أشكالاً من المشاركة في الجريمة.
تقع على عاتق جميع الحكومات مسؤولية منع الإبادة الجماعية من خلال ضمان إيصال المساعدات الإنسانية على نطاق واسع لتجنّب المجاعة، واتخاذ خطوات جدّية لوقف التهجير القسري للشعب الفلسطيني. غير أنّ الواقع يكشف أنّ حكومة واحدة تملك، دون سواها، القدرة على تغيير مسار هذه الكارثة الإنسانية المصنوعة بيد الإنسان تغييراً حاسماً، ألا وهي الولايات المتّحدة.
بمكالمة هاتفية واحدة، كان يمكن للرئيس دونالد ترامب أن يطالب بوقف فوري ودائم لإطلاق النار والإفراج غير المشروط عن جميع الأسرى الإسرائيليين والفلسطينيين. وبالتهديد بفرض حظر أسلحة على إسرائيل، كان يمكنه الضغط على نتنياهو لإعادة فتح جميع المعابر الحدودية بالكامل، بما يضمن وصول المساعدات الإنسانية المستمرّ وغير المقيّد إلى جميع أنحاء قطاع غزّة بما يتوافق مع المبادئ الأساسية للعمل الإنساني: الإنسانية، وعدم التحيّز، والحياد، والاستقلالية، فضلاً عن المطالبة بالتراجع الكامل عن حظر وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”.
وبموجب القانونين الأمريكي والدولي، ينبغي على الرئيس ترامب أن يتّخذ مزيداً من الإجراءات من خلال تعليق جميع عمليات نقل المعدّات والخدمات والمساعدات العسكرية إلى إسرائيل، وفرض عقوبات قانونية وموجّهة على القادة الإسرائيليين وغيرهم ممن يُشتبه في تورّطهم في هذه الفظائع الإجرامية، وفتح تحقيقات في مزاعم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، ودعم الجهود الدولية لمحاسبة المسؤولين عنها.
وبالنسبة إلى رئيس تعهّد في خطاب تنصيبه بأن يقيس النجاح «ليس عبر الحروب التي ننتصر فيها فحسب، بل عبر الحروب التي ننهيها، والأهمّ عبر الحروب التي لا نخوضها أصلاً»، وأعلن أنّ إرثه الأبرز سيكون «صانع سلام وموحِّداً»، تشكّل المأساة التي تتكشّف اليوم في غزّة اختباراً حاسماً لهذا القسم.
ومع استمرار إسرائيل في اعتدائها غير المبرّر على إيران، وهو عمل عدواني يبدو أنّه يهدف في المقام الأول إلى صرف انتباه العالم عن استمرار إبادة غزّة وتطهيرها عرقياً وتجويع سكّانها المحاصرين، يجب أن تبقى كلّ الأنظار متّجهة نحو غزّة.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.