تخفيف مخاطر الكوارث الطبيعية المتزايدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
تدقّ الخسائر الهائلة في الأرواح والآثار الاقتصادية المدمّرة الناجمة عن الزلازل الأخيرة التي ضربت تركيا وسوريا ناقوسَ الخطر لحكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتحثّها على إدراك المخاطر الرئيسية التي تواجهها في وجه الكوارث الطبيعية، وعلى تعديل استراتيجيات التخفيف وفقاً لهذه المخاطر. فبحسب مقاييس مختلفة، شهدت المنطقة في العقود الأخيرة أعلى نسبة زيادة في عدد الكوارث الطبيعية في العالم، بما فيها الزلازل والفيضانات والعواصف الرملية وفترات الجفاف وموجات الحرّ، وغيرها.
لقد أثّرت هذه الكوارث في عشرات الملايين من البشر، لا سيّما بين المجتمعات الأكثر فقراً وضعفاً وتهميشاً، وكلّفت اقتصادات المنطقة عشرات مليارات الدولارات أُنفِقَت على جهود التعافي وإعادة إعمار البنية التحتية المُتضرّرة أو نجمت عن خسارة الدخل. من المتوقّع أن تؤدّي المخاطر المُتزايدة لتغيّر المناخ إلى تفاقم تأثير الكوارث الطبيعية لأنها تزيد من نقاط الضعف الحالية المُتمثّلة بندرة المياه وانعدام الأمن الغذائي والصراعات. لا ينبغي الاستهانة بالآثار السياسية والأمنية لتأثيرات الكوارث الطبيعية وتغيّر المناخ على البلدان الأكثر اكتظاظاً في المنطقة وتداعياتها العابرة للحدود.
في حين سيستجيب المجتمع الدولي دائماً للأحداث الكارثية، كما يفعل الآن عبر تقديم التمويل والمساعدة، إلّا أنّ جهود ما بعد الكارثة لن تكون كافية، وينبغي أن تأتي أولاً من الحكومات الوطنية والمحلّية. في هذا السياق، إن الاعتراف المُتزايد من السلطات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالحاجة إلى الحدّ من مخاطر الكوارث وإدارتها يجب أن يتصدّر أولويات السياسات وحملات التوعية العامّة، وأن يأخذ طابعاً مؤسساتي من خلال سنّ القوانين وتعزيز قدرات الاستجابة.
بعد الزلزال: الجمود السياسي يزيد عدد الضحايا ويفاقم الأوضاع الصعبة في شمال سوريا
في أعقاب الدمار الهائل الذي خلّفه الزلزال، تفاقم الوضع في شمال سوريا بسبب التأخير في تلقّي الموارد والمساعدات الحيوية، ولا سيما معدّات الحفر اللازمة لإنقاذ الأشخاص المُحاصرين تحت أنقاض المباني المُهدّمة. وقد أدّى هذا التأخير إلى زيادة كبيرة في عدد الضحايا وتفاقم الأزمة الإنسانية في تلك المنطقة. استغرق وصول الخيام والأدوية والطعام والإمدادات أياماً عديدة بعد فوات الأوان لمئات الأشخاص المُحاصرين والذين عجزوا عن الخروج من تحت الأنقاض. فيما يمكن إلقاء اللوم جزئياً على العوائق اللوجستية، كتضرّر الطرق المؤدّية إلى المناطق المتأثّرة بـالزلزال، يبقى السبب الرئيسي سياسياً. شدّد النظام والمعارضة وحلفاؤهما الخناق في معاركهما للسيطرة على المنطقة. ففي حين أيّدت المعارضة العقوبات الدولية التي حدّت من تدفّق المعدّات الثقيلة والموارد المالية إلى البلاد، ما أضرّ بالمواطنين العاديين، حاول النظام تقييد وصول المساعدات الإنسانية إلى شمال سوريا من الدول المجاورة لتأكيد سيادته والسيطرة على المساعدات المتدفّقة والتي لم يُعِد توزيعها. وقد كشف الزلزال الآثار الكارثية لهذه السياسات.
في أعقاب الزلزال، خفّف كلا الجانبين قبضتيهما. فقد سمح النظام بفتح معبرين حدوديين إضافيين من تركيا لمدة ثلاثة أشهر، وأعلنت وزارة الخزانة الأمريكية عن رفع العقوبات المفروضة على سوريا لمدّة 180 يوماً لتسهيل جهود الإغاثة. بيد أنّ تنفيذ هذه الخطوات استغرق أياماً ثمينة أتت على حساب آلاف الأرواح، عدا أنّ الطبيعة المؤقّتة لهذه الإعفاءات ستُبقي الناس عرضة لأزمات مستقبلية. يمكن للجانبين تخفيف قبضتيهما الخانقة على المنطقة من خلال التوصّل إلى اتفاق يحوّل هذه الترتيبات المؤقّتة إلى دائمة.
حان وقت بناء الثقة قبل المباني الجديدة
أدّى الزلزال والهزّات الارتدادية إلى تحطيم ثقة الشعبين التركي والسوري في الوقت الذي تفاقمت حدّة الدمار بسبب رداءة المباني في المناطق المُتضرّرة. قبل وقوع الكارثة، ظنَّ الكثير من الأتراك أنّ المباني التي شُيدت بعد زلزال إزميد في العام 1999 آمنة ويمكن أن تصمد أمام النشاط الزلزالي المتوقّع. لكن الزلزال الأخير كان أكثر شدّة ممّا هو متوقّع، الأمر الذي عمّق المخاوف بشأن التراخي في تطبيق القوانين. والآن يطالب المواطنون الغاضبون باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع المزيد من الخسائر في الأرواح في المستقبل.
تقدّم برامج الحوكمة وبناء المؤسّسات والنقاشات حول الحوكمة، لاسيّما في التسعينيات، دروساً يمكن التعلّم منها كيفية إعادة بناء الثقة. على سبيل المثال، يربط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قروضهما بشروط تحسين الإدارة المحلّية ممّا يزيد ثقة الجمهور في المؤسّسات الحكومية. وقد ثبت أيضاً أن تمكين المبادرات والمؤسسات المستقلّة، مثل البنوك المركزية، من شأنه أن يحسّن نوعية الإدارة ويساهم في بناء الثقة.
ومن أجل إعادة بناء الثقة في أعقاب هذه الكارثة، يجب على تركيا إنشاء هيئة تنظيمية مستقلّة للإشراف على قوانين البناء المقاوم للزلازل وضمان تنفيذها من دون تدخّل سياسي. لا يؤدّي إنشاء هيئة تنظيمية مستقلّة إلى استعادة الثقة في سلامة البناء فحسب، بل يظهر أيضاً التزام الحكومة بالمساءلة والشفافية، ويساعدها في حشد التمويل الدولي والمحلّي لجهود إعادة الإعمار. يمكن للحكومة بهدف تعزيز المساءلة إصدار سندات وصكوك مُستدامة لمشاريع البناء الجديدة، وتخصيص الأموال بعد موافقة الهيئة التنظيمية المستقلّة على الخطط.
مصافحة يونانية قد تعزي تركيا في مأساتها
على الرغم من حجم الكارثة في تركيا وسوريا والخسائر المأساوية في الأرواح، قد يكون هناك جانب مضيء للدبلوماسية التركية لرأب خلافها القديم مع جارتها اليونان. فقد جدّد التضامن اليوناني مع تركيا في أعقاب الزلزال الإيمان بما يُسمّى “دبلوماسية الشعوب”، التي تأسّست على التضامن غير المشروط مع بلد و/ أو شعب في أوقات الحاجة. بعد أيام من الزلزال، زار وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس أضنة والتقى بنظيره التركي مولود جاويش أوغلو، في بادرة حسن نية فاجأت المجتمع الدولي، وفتحت المجال لإمكانية حصول انفراج ديبلوماسي.
وفي ظلّ الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في منطقة جغرافية مجاورة لتركيا، تشير هذه البادرة إلى تحسّن العلاقات بين خصمين تاريخيين، يشتركان في عضوية الناتو، لكنّهما يتنازعان على ملكية جزر بحر إيجه. تتمحور نزاعاتهما حول الحدود البحرية بما فيها الجرف القاري، و”عسكرة” الجزر اليونانية المُتاخمة لتركيا في انتهاك لمعاهدة باريس للسلام لعام 1947. نتيجة لذلك، تتصاعد التوتّرات بانتظام، وتصل إلى مستويات خطيرة كما حدث في منتصف العام 2022. لكن الدفء الظاهر في العلاقات، والذي أطلق عليه البعض “دبلوماسية الزلزال”، يشبه التعاون النشط في أعقاب زلزال 1999 الذي ضرب البلدين. وقد قدّمت اليونان الدعم من خلال إرسال رجال وكلاب الإنقاذ وأدوية ومهندسين، كما أنّها تحثّ الاتحاد الأوروبي لعقد اجتماع للمانحين لمساعدة تركيا في إعادة بناء المنازل والبنية التحتية التي دمّرها الزلزال. في وقت تتصاعد فيه الحرب في جوارهما، يمكن النظر إلى البادرة الدبلوماسية اليونانية على أنّها “لحظة غروتية”، تعيد تقديم بناء الثقة والتعاون كقاعدة ذهبية للانخراط في العلاقات الثنائية.
معلومات مُضلّلة عن زلزال تركيا وسوريا
لمأساة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا وجه آخر غير مُرحّب به، وهو انتشار المعلومات المُضلّلة عبر الإنترنت ونظريات المؤامرة التي تسعى إلى إعادة توجيه التركيز الإنساني وإعاقته بسرديات مُسيّسة. على سبيل المثال، نشرت آلاف الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي على تويتر وفايسبوك قصصاً تفيد بأنّ “برنامج أبحاث الشفق النشط عالي التردّد” (HAARP)، وهي تقنية أمريكية مُصمّمة لدراسة الغلاف الأيوني، كانت مسؤولة عن الزلزال. دفعت هذه المؤامرة العديد من الوسائل الإخبارية، من ضمنها رويترز، إلى التحقّق من المعلومات، وتحويل جهودها عن التغطية القيّمة إلى مواجهة الأكاذيب الغريبة. نشرت آلاف الحسابات الأخرى قصّة كاذبة عن أنّ عدداً من الدول الغربية سحبت سفرائها قبل الزلزال في إشارة إلى علمها المسبق بوقوعه. ويبدو أنّ الترويج لهذه القصص يأتي من حسابات أمريكية يمينية، ومن مؤيدّي نظرية المؤامرة، وحسابات مجهولة مؤيّدة لروسيا، التي ادّعى الكثير منها أنّ الزلزال الناجم عن برنامج أبحاث الشفق النشط عالي التردّد كان عقاباً لتركيا بسبب عرقلتها انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو.
إضافة إلى ذلك، يستعمل المستخدمون المحتالون على الإنترنت وسائل التواصل الاجتماعي وصوراً مركّبة بواسطة الذكاء الاصطناعي لرجال إطفاء ينقذون أطفالاً بهدف خداع الناس ودفعهم للتبرّع لعمليّات إنقاذ وهمية. وفي حين تنطوي هذه الحيل على حوافز مالية واضحة، يُفاقم تسييسُ المعلومات المُضلّلة الصراعَ الاجتماعي، ويعمّق انعدام الثقة ويروّج لتفسيرات بديلة للظواهر الطبيعية. وفي الحالات القصوى، قد يقود الناس إلى الاعتقاد بأنّ حدثاً مُعيّناً لم يحصل أو تمّ اختلاقه – وهو ما يُعرف بالراية المُزيّفة أو العَلَم الزائف – ممّا يضعف جهود الإغاثة من خلال تقويض التعاطف العالمي. في الوقت نفسه، قد يؤدّي التصدّي للمعلومات المُضلِّلة إلى تشريع الباب للرقابة. أطلقت تركيا بسرعة تطبيقاً للإبلاغ عن المعلومات المُضلّلة، وهو تكتيك تمّ انتقاده سابقاً بوصفه وسيلة لفرض رقابة على المعلومات التي تنتقد استجابة الحكومة. بينما تؤدّي الوسائط الرقمية دوراً إيجابياً في وقت الأزمات الإنسانية، مثل حشد التعاطف وتقديم المعلومات مباشرة من قلب الحدث، إلّا أنها تُستخدم أيضاً لنشر معلومات مزيّفة ولتشويه الواقع.
زلزال واحد، نتيجتان مختلفتان
من المحتمل أن تظهر تداعيات الزلزال بطرق مختلفة في تركيا وسوريا. بالنسبة لتركيا، تلقّت جهود التعافي الدعم من دول المنطقة والمجتمع الدولي. فقد تعهّدت الولايات المتّحدة بنحو 85 مليون دولار كمساعدات إنسانية، وبريطانيا بنحو 30 مليون دولار وتقود حالياً عمليّات استجابة الناتو، بينما حشدت الدول الخليجية الدعم المالي وقدّمت المستشفيات الميدانية وفرق البحث والإنقاذ وتبرّعت بحزم المساعدات. ومن المرجّح أن يؤدّي هذا الدعم إلى تسريع عملية إعادة الإعمار، شرط ألّا تعيقها الأجواء السياسية المُتقلّبة مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في يونيو المقبل.
أمّا جهود التعافي في سوريا، فقد انطلقت بعد أيام من وقوع المأساة، لأنّ نظام الأسد لم يفتح المعابر الحدودية على الفور، وطالب بضبط تدفق مساعدات الأمم المتحدة إلى البلاد، ما أدّى إلى استغلال المساعدات لمصالح أخرى وتأخير وصول الدعم إلى آلاف الأشخاص في أشدّ الحاجة إليها. لا يزال السوريون غارقين في الصراع والنزوح. ومن المحتمل أن تؤدّي كارثة الزلزال واستجابة النظام إلى تأجيج المزيد من الغضب والاستياء، وبالتالي تقليل احتمالات السلام في البلاد. وقد تستفيد المجموعات المُتشدّدة في سوريا من المأساة، فتشهد بالتالي ارتفاعاً في عدد المنتسبين إليها. أيضاً يجب على تركيا أن لا تتهاون، فالكوارث الطبيعية تدمّر المجتمعات والاقتصادات، وتشير التقديرات إلى أنّ نحو 23 مليون شخص في تركيا وسوريا يحتاجون إلى المساعدة، فيما تتطلّب جهود التعافي في تركيا حوالي 83 مليار دولار. لذلك، قد تجد الدولة التركية أنّ الزلزال يمكّن مجموعات مثل حزب العمّال الكردستاني وتنظيم الدولة الإسلامية، اللذين يستطيعان استغلال المظالم واسعة الانتشار التي أحدثها الزلزال.
الزلزال ينبّه بضرورة تغيير رؤيتنا للبُنى التحتية
إنّ المأساة التي خلّفها زلزال تركيا وسوريا جديرٌ بأن يُعطي مؤشّراً للحكومات سواء في تركيا وسوريا أو دول العالم بأن تتّخذ الإجراءات اللازمة من أجل تحسين البنية التحتية والأنظمة الإجرائية في خطط الإخلاء وتحضير أماكن بديلة آمنة. فإذا ما تفحّصنا آثار الكوارث الطبيعية بين الدولة النامية والدول المتقدّمة، سنلحظ بأن البنية التحتية المجهّزة للصمود أمام الكوارث الطبيعية تُساهم في خفض عدد الضحايا وكذلك في تقليل الخسائر المادية. على سبيل المثال، يصل متوسط ضحايا الكارثة الطبيعية في اليابان إلى 63 شخصاً، أمّا في البيرو، فيصل متوسط عدد الضحايا إلى 2900 قتيل، أي 46 ضعف عدد ضحايا اليابان. وحينما ضرب إعصار إيلينا الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1985 راح ضحيّته خمسة أشخاص، بينما وصل عدد الضحايا في الإعصار الذي ضرب بنغلادش في العام 1991 إلى نصف مليون شخص. والجدير بالذكر أنّ الزلازل التي راح ضحيّتها أكثر من 10000 شخص لم تحدث إلّا في الدولة النامية
وعلى الرغم من التحسينات التي قامت بها تركيا في إدارة الطوارئ ومخاطر الكوارث بعد حدوث زلزال مرمرة في العام 1999، وامتلاكها نظاماً للإنذار المبكر في حال حدوث الزلازل، إلّا أنّ هذا لم يكن كافياً، لافتقار البنية التحتية إلى آليات الصمود أمام الكوارث الطبيعية. وربما لا يزال مفهوم البنية التحتية في الشرق الأوسط يقتصر على وجود المباني والطرق وليس على مدى استدامتها وقدرتها على مواجهة الكوارث الطبيعية. ولعل آثار الزلزال الأخير سلّطت الضوء على ضرورة أن تأخذ الحكومات هذه المخاطر في الحسبان. فقد شهدت منطقة الشرق الأوسط تسجيل أكثر من 200 زلزال منذ بداية القرن العشرين. أضف إلى ذلك التقلُبات المناخية التي يشهدها العالم، مما يتسبّب في حدوث عواصف وفيضانات في مناطق لم تكن تشهدها من قبل، وهو ما يحتّم على الدول تجهيز بنى تحتية قائمة على الاستدامة والصمود أمام المخاطر والكوارث الطبيعية. وقد يساهم ذلك في تقليل التكاليف البشرية والمادية في حال حدوث كوارث طبيعية أو حروب أو مواجهة التغيرات المناخية.