في 17 نوفمبر، اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار 2803، الذي أقرّ خطّة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذات النقاط العشرين بشأن غزة، ومنح الضوء الأخضر لنشر «قوة الاستقرار الدولية» في القطاع حتى نهاية العام 2027. ولاحقاً أعلنت كلّ من المملكة العربية السعودية وقطر ومصر والأردن والإمارات العربية المتّحدة دعمها للقرار، مانحةً قوّة الاستقرار الدولية تفويضاً أممياً، على الرغم من غموضه وإشكالياته، إلى جانب سند إقليمي مهم قبل بدء انتشارها الفعلي على الأرض.
قبيل التصويت، توجّه السفير الأمريكي لدى الأمم المتّحدة، مايك والتز، إلى أعضاء المجلس ملوّحاً بأنّ رفض المشروع الأمريكي سيُفضي إلى استئناف الحرب في غزة. ورفع نسخة من القرار في خلال مداخلته، مؤكّداً أنّه يمثّل «طوق نجاة» حيوياً لسكان القطاع، وأن تبنّيه ضروري لتجنيبهم العودة إلى ما وصفه بـ «الجحيم على الأرض».
غير أنّ ذلك تقييم متفائل إلى حدّ كبير. فعلى الرغم من أن القرار 2803، وانتشار قوّة الاستقرار الدولية بموجبه، قد يحولان دون انزلاق غزة مجدّداً إلى «الجحيم» الذي عاشته في خلال العامين الماضيين، غير أنّه من المرجّح أن تتحوّل هذه القوة إلى بعثة حفظ سلام تُبقي غزة في حالة من الجمود السياسي، أكثر منها قوّة استقرار قادرة على دفع القطاع نحو واقع أفضل، كما تفترض خطّة ترامب والقرار الأممي نظرياً. فغياب تأييد كافٍ من الفاعلين المحلّيين والدول الأعضاء المساهمة في القوّة، إلى جانب منظومة من المطالب المفروضة على الفلسطينيين في مقابل إغفال شبه تام لمسؤوليات إسرائيل، يتذر بأن تتحوّل قوّة الاستقرار الدولية إلى غطاء تجميلي يرسّخ الوضع المأزوم في غزة بدل أن يسهم في معالجته.
حتى الآن، ما زال وقف إطلاق النار صامداً على الرغم من الخروقات المتكرّرة. غير أنّ التباين في حصيلة الضحايا منذ 10 أكتوبر 2025، ثلاثة جنود إسرائيليين في مقابل أكثر من 300 فلسطيني في غزة، يكشف بوضوح طبيعة الصراع غير المتكافئة، ويؤكد أنّ إسرائيل ما زالت تخوض «حرباً أبديةً» في القطاع، وإن كانت بوتيرة أقلّ حدّة. ونتيجة ذلك، يبدو أنّ ملامح «اليوم التالي» في غزة لن تختلف كثيراً عن واقعها الحالي، الذي يفترض نظرياً أن يكون وضعاً انتقالياً لا دائماً.
والأهم أنّ تدفّق المساعدات الإنسانية الأساسية ما زال يخضع لقيود مشدّدة، فيما لم تُسجّل أيّ انطلاقة فعلية لعمليات إعادة الإعمار، على الرغم من أنّ خطة ترامب نصّت صراحةً على هذا الشروع الفوري في الأمرين معاً. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أنّ إعادة غزة إلى مستويات ما قبل الحرب قد تتطلّب ما يصل إلى 70 مليار دولار، علماً بأنّ غزة لم تكن أصلاً مزدهرة بأي حال من الأحوال قبل 7 أكتوبر. وتجسّد هذه الأرقام حجم الدمار واتساع نطاق الكارثة الإنسانية التي يواجهها نحو مليوني فلسطيني يعيشون في القطاع.
يوفّر القرار 2803، ومعه نشر قوّة الاستقرار الدولية، مساراً نظرياً نحو «اليوم التالي»، بما في ذلك تهيئة الظروف التي يُفترض أن تفضي إلى انسحاب إسرائيل من غزة في نهاية المطاف. غير أنّ حجم الغموض الذي يحيط بنصّ القرار يجعل من الصعب قراءة ذلك كخللٍ عرضي، بل كتصميمٍ مقصود يُبقي الكفة راجحة لمصلحة إسرائيل. فالتوقيت المفترض لانسحاب إسرائيل لم يُحدّد، فيما تتضمّن بنود القرار سلسلة من الالتزامات الصارمة والعقابية بحق الفلسطينيين في حال «خرقهم» للاتفاق، بما في ذلك استيفاء السلطة الفلسطينية لمعايير برنامج «إصلاح» غير محدّد المعالم، من دون فرض أي التزامات مقابلة على إسرائيل. ويزداد هذا التناقض وضوحاً إذ أخذنا في الاعتبار الانتهاكات الإسرائيلية المستمرّة منذ اللحظة الأولى لاعتماد الاتفاق سواء عبر تقييد دخول المساعدات أو تنفيذ ضربات عسكرية شبه يومية. وفي أسوأ حالاته، يمنح القرار غطاءً قانونياً لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي إذ يسمح له بالإبقاء على «طوق أمني» غير محدّد المساحة إلى حين اعتبار غزة «مؤمّنة بما يكفي من أي تهديد إرهابي متجدّد»، من دون أن يوضح ما المقصود بـ«التهديد المتجدّد» ولا الجهة المخوّلة تحديد ذلك.
ومع ذلك يبدي بعض المحللين قدراً من التفاؤل الحذر بأن يساهم انتشار قوّة الاستقرار الدولية في التخفيف من أوجه القصور التي تعتري خطّة ترامب، وإعادة حدّ أدنى من النظام إلى غزة، وربما فتح نافذة ولو ضيّقة أمام قيام دولة فلسطينية. غير أن التوصيف المتكرّر للقوّة باعتبارها «قوّة حفظ سلام»، يعكس فهماً ملتبساً لطبيعة مهمتها، إذ يختلف هذا التوصيف جذرياً عمّا تنص عليه مهمتها الفعلية والطموحة. إنّ مفهومي حفظ السلام والاستقرار هما إطاران عملياتيين متمايزين تماماً، لهما أهداف مختلفة ومستويات متباينة من تحمّل المخاطر.
تقليدياً، يقتصر دور قوات حفظ السلام على تثبيت الوضع القائم عبر الفصل بين جيشين متحاربين. فهي «تحفظ السلام» من دون أن يُناط بها تحقيق تغييرات أعمق. أمّا عمليات الاستقرار، فتنتمي إلى إطار مختلف تماماً، إذ تتسم بأهداف أكثر طموحاً وطابع أكثر إكراهاً، وتطمح إلى إحداث تحوّل في البيئة الأمنية والسياسية. فبينما يوفّر حفظة السلام عادةً حاجزاً بشرياً بين خصمين، تعمل قوّات الاستقرار في سياقات تنهار فيها مؤسّسات الدولة أو تغيب بالكامل، وتتمثّل مهمتها في إعادة تنظيم الفوضى عبر المساهمة في بناء هياكل الحكم، وتأمين المدنيين، ومواجهة الجماعات المسلّحة أو نزع سلاحها. وهذا ما يفترض أن يُميّز مهمات الاستقرار متعدّدة الجنسيات «الجديدة»، كما في هايتي والبلقان، عن مهمات حفظ السلام «القديمة» في مناطق مثل قبرص والجولان وسيناء.
إلّا أنّ هذه المهمات «الجديدة» في كثير من الأحيان لا تلبث أن تنحدر إلى أدوار حفظ سلام تقليدية وأكثر سلبية. فغياب إرادة سياسية كافية لدى الفاعلين المحلّيين للانخراط في نظام جديد يجعل قدرة القوّات الدولية محصورة في احتواء مستويات العنف لا أكثر. ويستلزم تجاوز هذا المأزق أن تكون الدول الداعمة والمشاركة في قوة الاستقرار مستعدة لتخصيص موارد معتبرة، وقبول مستويات عالية من المخاطر.
غير أنّ هذا الشرط نادراً ما يتحقق. تميل القوّات الأجنبية بطبيعة الحال، إلى تجنّب الانخراط في عمليات مكافحة التمرّد التي يُتوقَّع أن تسفر عن خسائر بشرية على مختلف الأطراف، لا سيّما عندما تنظر إلى الصراع بوصفه صراعاً بعيداً لا تترتب عليه سوى تداعيات محتملة قليلة على أمنها القومي. ويتضاعف هذا التردّد حين لا تُرفَق المهمة بمسار سياسي واضح يضمن نقطة نهاية محدَّدة لدورها.
ويرجّح أن ينطبق هذا المنطق على الدول البعيدة التي يجري تداول أسمائها كمساهمين محتملين في قوة الاستقرار الدولية، مثل أذربيجان وإندونيسيا، إذ تبدو دوافعهما لإرسال قوّات محدودة لا تطغى على رغبتهما في إبقاء الكلفة البشرية والمادية عند أدنى مستوى ممكن. وينطبق الأمر أيضاً على المساهمين الإقليميين المحتملين، وعلى رأسهم مصر والأردن، اللذان يُبديان حساسيةً شديدةً حيال أيّ انطباع بأنّ مشاركتهما قد تُفسَّر كتنفيذٍ لأجندة إسرائيل. وقد لمّح مسؤولون أردنيون بالفعل إلى استعدادهم للمساهمة في قوة الاستقرار الدولية، لكنهم استبعدوا استبعاداً واضحاً أيّ انتشار مسلّح داخل غزة، ناهيك عن مواجهة أو نزع سلاح نحو 20 ألف مقاتل من حركة حماس، تقول إسرائيل إنهم ما زالوا نشطين داخل القطاع.
وقد تجلّى هذا التفضيل الإستراتيجي بوضوح في القرار 2803، الذي تبدو أهدافه العامة غير منسجمة مع النص الذي يحصر انتشار قوّة الاستقرار الدولية على حدود غزة. وقراءة ما بين السطور، تُشير إلى أنّ القوّة لن تدخل عمق المناطق الحضرية في القطاع، ولن تتولّى مراقبة خطوط التماس الداخلية بين حماس وإسرائيل. وفوق ذلك، من غير الواقعي افتراض أنّ أي قوّة دولية قادرة على نزع سلاح غزة، وهي مهمة أخفقت فيها الحرب الإسرائيلية على شدّتها وطول مدّتها التي تجاوزت العامين.
وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من الشكوك الكبيرة المحيطة بقدرة قوّة الاستقرار الدولية واستعدادها لدفع عملية إعادة إعمار غزة قدماً، فإنّ إسرائيل تسعى حثيثاً للحؤول دون تحقيق هذا الهدف. فالواقع القائم في القطاع لا يمسّ الخطوط الحمراء الإسرائيلية، إذ يوفّر ما تعدّه «عمقاً إستراتيجياً» يُفترض أن يمنع تكرار سيناريو 7 أكتوبر. وهكذا تستطيع إسرائيل الاستمرار في إعلان التزامها بوقف إطلاق النار وبخطّة ترامب، بينما تواصل عملياتها العسكرية داخل غزة. وكما التزمت إسرائيل لسنوات ب«عملية السلام» بينما كانت تفرض «حقائق على الأرض» تقوّضها، فهي تستنسخ اليوم الأسلوب نفسه في غزة.
إنّ التداعيات الإنسانية وخيمة. ففي ظلّ غياب مسار سياسي واضح للمضي قدماً، ستبقى المليارات التي أعلنت دول عدّة استعدادها لاستثمارها في إعادة إعمار غزّة مجرّد التزامات نظرية لا أكثر. وحتى إذا نجحت قوّة الاستقرار الدولية في خفض مستويات العنف اليومي داخل القطاع، سيظلّ المستثمرون متردّدين في ضخّ أموالهم في منطقة لا تزال عرضة بالكامل للتدخلات العسكرية الإسرائيلية.
وبتصميمٍ متعمّد، سيكون نحو 95 في المئة من سكان غزة، أيّ أولئك المقيمون خارج المناطق التي تحتلها إسرائيل مباشرةً، الأكثر تضرّراً من الواقع القائم. فعلى الرغم من استئناف دخول قوافل المساعدات، تواصل إسرائيل فرض رقابة مشدّدة على توزيعها، وتسعى إلى خفض الإمدادات الموجَّهة إلى المناطق التي تحتفظ فيها حماس بقدرة على التأثير، أو التي تقع خارج السيطرة المباشرة للجيش الإسرائيلي. وينسجم هذا النهج مع خطّة ترامب التي تربط إيصال المساعدات بـ«المناطق الخالية من الإرهاب التي سلّمها الجيش الإسرائيلي إلى قوّة الاستقرار الدولية». غير أنّ هذا الإطار سيُنتج واقعاً من مستويين: قد تبقى الغالبية الساحقة من الغزيين فوق خطّ الجوع وبالكاد يسدّ رمقهم، ولكن في حالة من الفقر المدقع، ومعرّضة لمخاطر الوفاة بسبب أمراض يمكن الوقاية منها بسهولة. وبهذا المعنى، يعيد المشهد إنتاج منطق حصار ما بعد 2007، حين واجهت إسرائيل سيطرة حماس على القطاع بتشديد القيود على حركة الأفراد والسلع براً وبحراً وجواً.
تتطلّب إعادة إعمار غزّة ما هو أبعد بكثير من قوّة «استقرار» محدودة الفاعلية أو قرارات أممية منحازة بوضوح إلى الرؤية الإسرائيلية الضيّقة لـ«اليوم التالي». تحتاج العملية إلى استثمارات مستدامة، وضغط سياسي فعلي على المستويين الحكومي والميداني، وإلى قدر غير اعتيادي من تحمّل المخاطر من قبل أيّ مهمة دولية متعدّدة الجنسيات. وهو مطلب عسير، وبعيد المنال في الظروف الراهنة. لكن البديل لا يقل خطورة: إذ إنّ قراراتٍ أممية أحادية الجانب، ترافقها قوة حفظ سلام غير فعّالة، لن تكون سوى مسكّنٍ مؤقت في أفضل الأحوال، أو جزء من المشكلة في أسوئها. فهي تُساهم في إنتاج عاصفة مكتملة العناصر تُبقي غزة مدمّرة، ومحرومة، وعالقة في حالة من الجمود السياسي الدائم.