في الكلمة التي ألقاها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في ذكرى مرور أسبوع على استشهاد القائد العسكري في الحزب فؤاد شكر، أكّد “أنّ المقاومة ليست في وارد توظيف أي انتصار على إسرائيل في الداخل السياسي”.
بعد مرور أكثر من عشرة أشهر على بدء حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، وحرب التصفيات في الضفة، وحرب الإسناد التي يقودها حزب الله، ومع تصاعد وتيرة الاغتيالات لكوادره وبلوغ مسيّراته أهدافاً غير مسبوقة داخل إسرائيل، يغيب الحديث تماماً عن الاستحقاقات الداخلية اللبنانية إذ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، في حين يستمرّ انهيار الدولة وإدارتها ومؤسّساتها ويترهّل القطاع العام ويتحلّل برمّته، بما فيه إدارة الوزارات كافّة، إلى درجة غير مسبوقة.
لقدّ عمّقت الحرب المستمرّة انقسام اللبنانيين حولها، الأمر الذي لا بدّ من معالجته فور نهايتها. ومهما طالت الحرب، ستنتهي يوماً ما وسيعود الجميع إلى مشاكله الإقليمية والداخلية، وسيتعيّن على أصحاب الحل والربط التفكير في كيفية التعامل مع اليوم التالي وسيناريوهاته.
أزمة الاستحقاق الرئاسي في لبنان
كانت آخر دعوة لمجلس النواب اللبناني لانتخاب رئيس للجمهورية في يونيو 2023، أي قبل أكثر من سنة، انفضَّت على توازن سلبي بين القوى المؤيِّدة للثنائي الشيعي والمعارِضة له. وانطلقت بعدها الخماسية التي تشكّلت مطلع العام 2023 والمؤلّفة من المملكة العربية السعودية ومصر وقطر وفرنسا والولايات المتحدة، في محاولة تلمّس حلول توافقية من دون التوصّل إلى نتيجة. وعند اندلاع الحرب على غزة ودخول حزب الله مسانداً، توقّف الحديث عن هذا الاستحقاق وكلّ الاستحقاقات الأخرى حتى جلاء غبار تلك الحرب. فالحزب ربط وقف النار في جنوب لبنان بوقفها في غزة، وعلى الرغم من قول قياداته عكس ذلك، إلّا أنّ الربط بين الاستحقاق الرئاسي ووقف الحرب، يبدو جليّاً عملياً، فإنّ الربط محكم ومرتبط بنتائج تلك الحرب في الميدان وعلى الجبهة السياسية.
من الواضح والجلي ان الإسرائيلي لن يحقق أهدافه بالقضاء على حماس ولا في تحرير الرهائن دون تفاوض ومن الواضح أيضًا أن أهداف حماس التي أعلنتها قد تقلصت بفعل الواقع على الأرض. في حين ان حزب الله لم يضع أهدافًا محددة إلا إسناد المقاومة في غزة، أما إسرائيل فقد وضعت أهدافًا في لبنان هي ضمانة أمن المستوطنين في شمال إسرائيل وعودتهم إلى بيوتهم وأعمالهم وكذلك انسحاب حزب الله.
السيناريوهات المحتملة
لا تمتلك إسرائيل القدرة على تحقيق نصر على حزب الله. ولعلّ المطالب الإسرائيلية من لبنان والتي تتلخّص بانسحاب الحزب من 3 إلى 7 كيلومترات عن شمال فلسطين لا يتتحقق إلّا بالتفاوض. وقد يأخذ هذا التفاوض وقتاً طويلاً نطراً لخطوط البر المختلفة والخلاف على نقطة B1 والنقاط الثلاثة عشر وقرية الغجر وخراج بلدة الماري وصولاً إلى مزارع شبعا. غير أنّ ما يمكن القيام به هو التزام الطرفين بتنفيذ القرار 1701 من الطرفين على المستويين الأمني والعسكري وانطلاق التفاوض على الحدود البرّية. ولعلّ الجهود التي بذلها الوسيط الأمريكي أموس هوكشتاين على مدى الأشهر الأولى للحرب وضعت لبنة أساسية لمسودّة اتفاق على الشروع بتطبيق القرار 1701 من الجهتين.
عملياً، ما الذي يمكن للإسرائيليين تحقيقه في حالة الحرب الواسعة مع حزب إلله؟ ما لا يزيد عمّا يستطيع تحقيقه بالتفاوض. وهذا ما أدركه الوسيط الأمريكي الذي أراد تجنيب المنطقة حرباً كاملة. قد يدمّر نتنياهو بيروت وضاحيتها والبقاع، لكن أين الغاية السياسية المرجوّة؟ لن يقضي لا على حزب الله ولا على مقدراته وبالتأكيد ليس على شعبيته في بيئته الحاضنة. وتجربة 2006لا زالت طرية في ذهن المجتمع اللبناني وقد استطاع حزب الله بعدها أن يبني ترسانةً أشدّ ويزيد عديده وعتاده.
مما لا شكّ فيه أنّ حزب الله قد يحقّق غايات سياسية حتى لو هلكت بيروت، فبلوغ الصواريخ الداخل الإسرائيلي التجاري والصناعي والتكنولوجي يترك تداعيات هي الأخطر على الوجود “اليهودي” في الكيان. يملك الإسرائيليون بغالبيّتهم، والذين أتوا إلى إسرائيل من أجل الاستقرار والأمن والاقتصاد، جوازاً ثانياً. فماذا يبقيهم إذا ما فقدت تل أبيب أسباب وجودها العميقة؟ صحيح أنّه كيان حرب، لكن اقتصاده هو الأقوى في المنطقة، بعيداً عن الموارد الطبيعية من نفط وغاز.
وعند نهاية الحرب، أمام حزب الله وحلفائه خياران: إمّا أن يعتبروا أنّ الوضع يتطلّب التمسّك بخياراتهم بغض النظر عن النتيجة في الميدان والتي لن تكون في أي حال من الأحوال كاسرة للتوازنات الحالية. وعندها يعود الوضع الداخلي إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، حين كان الانقسام السياسي على أشدّه، ويكون بالتالي لبنان ضحية استعصاء داخلي يعطّل البلاد ومصالح شعبه.
أمّا الخيار الثاني، فهو الانطلاق نحو تسوية داخلية تأتي برئيس جمهورية يحوز على الغالبية في مجلس النواب، حتى لو كان مرشّحهم نفسه ضمن سلّة تسويات تشمل رئيس الحكومة وشكل الحكومة. وتكون وظيفة هذه الحكومة التعاون مع رئيس الجمهورية من أجل الحصول على قبول عربي (ولا أقول دعم عربي) لكي يتمكّن من فكفكة الملفّات السياسية والاقتصادية والمالية، بالتعاون مع الدول العربية والمجتمع الدولي والسعي للتوصّل إلى اتفاقيات مع المملكة العربية السعودية وقطر تحديداً. وتجدر الإشارة إلى أنّ عدداً من تلك الاتفاقيات موجود وبانتظار التطبيق.
لن يستعيد لبنان عافيته ما لم تبدأ سلطاته بتنفيذ إصلاحات قد تكون مؤلمة ولكن ضرورية. وعلى رأس هذه الإصلاحات إعطاء الأولوية لشؤون البلاد /الوطن/ الدولة، بالإضافة إلى إعادة إعمار ما دمّره العدو واستعادة الداعمين العرب والعودة إلى مندرجات باريس واحد واثنان وثلاثة وسيدر وعودة التفاوض مع صندوق النقد.
كلّ يوم بعد الحرب من دون تسوية داخلية لبنانية يُحسب على هذا الوطن وليس له، وكلّ تأخير يزيد التحلّل للوصول إلى الذوبان وعندها قد لا تبقى أي فرصة لإلتقاط أطراف الوطن وجمعها من جديد. وهذا أسوأ ما يمكن أن يحصل.