منذ سقوط بشار الأسد في ديسمبر الماضي، كشفت السلطات الانتقالية في سوريا عن معضلة جوهرية في قلب النظام السياسي الجديد. فما يبدو على السطح مجرّد عبث انتخابي، يكشف في العمق عن أزمة شرعية وقدرة دولة وسيادة، وهي أزمة ستحدّد ملامح مسار الانتقال السوري وتترك ارتداداتها وتداعياتها على المنطقة برمتها.
بعد أسابيع من الإطاحة بالأسد، نظّمت الحكومة الجديدة ما سُمّي بـ «مؤتمر النصر»، الذي انتهى بتنصيب أحمد الشرع رئيساً. وأعقب ذلك سريعاً «حوار وطني» توّج بالإعلان عن دستور جديد. واليوم، بعد أقل من عام على هذه المرحلة الجديدة، مضت الحكومة نحو تشكيل أول برلمان سوري بعد الأسد. وطرحت الرئاسة قانوناً انتخابياً مؤقتاً وقدّمته بوصفه خطوة على طريق التمثيل الديمقراطي. غير أنّ النظام الانتخابي الجديد يستثني ثلاث محافظات رئيسة تفتقر دمشق إلى السيطرة الفعلية عليها، وهي السويداء والرقة والحسكة.
وبالإضافة إلى الفراغ التمثيلي، أصدرت الحكومة الانتقالية في أغسطس الماضي المرسوم رقم 143، الذي يقرّ «نظاماً انتخابياً مؤقتاً» لمجلس الشعب. وبموجبه، يتألّف البرلمان من 210 مقاعد، يُنتخب ثلثاها عبر هيئات انتخابية إقليمية مستحدثة، فيما يُعيَّن الثلث المتبقي مباشرة من قبل الرئاسة. والخطوة تبدو ظاهرياً موجّهة لتوسيع التمثيل وتشجيع التعدّدية.
تكشف الآليّات عن صورة معاكسة تماماً. فالهيئات الانتخابية نفسها ليست منتخبة من الشعب، بل تتشكّل من لجان فرعية حُدّدت عضويتها مسبقاً بموجب مرسوم رئاسي سابق. وهكذا استُبدل الانتخاب المباشر بعملية غير مباشرة ومتعدّدة المراحل: تختار لجان فرعية في كلّ محافظة مندوبين، وهؤلاء بدورهم يختارون أعضاء البرلمان.
أمّا شروط الترشح فهي بدورها شديدة التقييد. فإلى جانب استبعاد كلّ من ارتبط بنظام الأسد السابق، يحظر المرسوم كلّ من له صلة بـ«مجموعات انفصالية» أو «خارجة عن القانون»، وهي توصيفات تُرٍكت بالكامل لتقدير الدولة. وبالنظر إلى الحركات الداعية إلى الحكم الذاتي أو الفدرالية في الشمال الشرقي ذي الغالبية الكردية، وكذلك في معاقل الدروز جنوباً، تتعاظم الشكوك بشأن مدى تمثيلية هذا النظام.
وعلى الرغم من الخطاب المفعم بعبارات الشفافية والمعايير، يرسّخ النظام تركيز السلطة بدلاً من توزيعها. إذ تحتفظ الرئاسة بحق تعيين كتلة برلمانية كافية لترجيح الأغلبية أو منع تشكيل التحالفات وضمان سيطرة الموالين على المناصب البارزة في اللجان. وفي الوقت نفسه، يُستبعد ملايين السوريين المقيمين في الخارج، من لاجئين ومغتربين، من العملية برمتها.
لذلك لم يكن مفاجئاً أن تعدّ منظّمات حقوقية ومحلّلون سياسيون المرسوم مجرّد خطوة شكلية. يحذّر كثيرون من أنّه قد يفرز برلماناً أقل استقلالية ولا يختلف كثيراً عن سلفه البعثي، سوى أنّه «ختم مطاطي» بوجوه مُعاد تدويرها من الأعيان والتكنوقراط، لكن تحت قبضة تنفيذية أشدّ إحكاماً.
كما أجّلت الحكومة الانتخابات البرلمانية في السويداء الخاضعة جزئياً لسيطرة فصائل درزية، وفي محافظتي الرقة والحسكة حيث تهيمن القوى الكردية بذريعة غياب سيطرة الدولة الفعلية. لكن بعد أسابيع، ومن دون مرسوم جديد يلغي التأجيل السابق، شرعت السلطات في تعيين لجان انتخابية فرعية داخل جيوب صغيرة تسيطر عليها الدولة في تلك المحافظات، مثل رأس العين في الحسكة وتل أبيض في الرقة. هذه اللجان، المؤلّفة في الغالب من وجهاء محلّيين اختارتهم دمشق، أوكلت إليها مهمّة الإشراف على إجراءات اقتراع محدودة.
تسعى هذه المقاربة إلى إضفاء مظهر جامع وشامل عبر السماح لبعض السكّان بالتصويت، على الرغم من أنّ معظم هذه المناطق خارج سيطرة الحكومة. غير أنّ الأوضاع الأمنية في السويداء والقيود التي فرضتها المجموعات المسلّحة المحلّية جعلت حتى هذا الشكل المحدود من الانتخابات أمراً مستحيلاً، تاركةً مقاعد المحافظة البرلمانية شاغرة.
وتكشف هذه العمليات المتوازية عن الطابع المفكّك للسلطة في سوريا وعن اختلال ميزان القوة بين مناطقها، وهو ما يقوّض الادعاءات بالتمثيل الوطني. وبينما تحاول الحكومة الحفاظ على واجهة شرعية انتخابية في المناطق المتنازع عليها، غير أنّها في الواقع تفضح حدود الديمقراطية الشاملة والجامعة حين يُحرم سكان مدن ومناطق بأكملها من حقّ الاقتراع.
تمثيل وطني بلا وحدة وطنية
تواجه المرحلة الانتقالية السورية تناقضاً جوهرياً: فهي تسعى إلى إظهار التمثيل الوطني والسيادة في بلد ما زالت حدوده وسيطرته الميدانية موضع نزاع، وسكانه في حالة انقسام عميق.
من ناحية، تحاول الإدارة الجديدة طمأنة المجتمع الدولي. فمن خلال تنظيم انتخابات برلمانية، ولو جزئية، تسعى إلى إضفاء انطباع بوجود نظام واستقرار. وتهدف هذه الخطوات إلى جذب الانخراط الدولي، ومن ثم في نهاية المطاف، تأمين الاستثمارات اللازمة لإعادة الإعمار.
ولكن خلف هذه الواجهة، يطغى الإقصاء وهيمنة السلطة التنفيذية على مجمل العملية. يكاد النظام لا يترك مجالاً للتعدّدية الحقيقية أو لأيّ تجارب سياسية قاعدية. وحتى الهيئات الانتخابية نفسها تتألف من شخصيات منتقاة مسبقاً بعناية، ما يضمن تبعية المؤسّسات الجديدة للرئاسة لا للمواطنين. وبذلك، قد يبدو النظام السياسي الناشئ مختلفاً في الشكل، لكنه يقوم على أسس هشّة لا تقل هشاشة عن تلك التي سبقته.
ولن تنحصر تداعيات المرحلة الانتقالية الممزّقة في سوريا عند حدودها. فاستبعاد مناطق كاملة وسكانها يمنح القوى الأجنبية مبررات جاهزة لمواصلة التدخل. إذ تبرر إسرائيل ضرباتها الجوّية وعملياتها عبر الحدود في جنوب سوريا بأنّها ردّاً على تهديدات مزعومة ضد المجتمعات الدرزية في السويداء ودرعا. أمّا في الشمال الشرقي، فتواصل الولايات المتّحدة دعم الهياكل الكردية الذاتية، وتحافظ على قواتها لحماية حقول النفط التي تسيطر عليها «قسد» بنسبة تتجاوز 90 في المئة. وعلى الرغم من إعلان واشنطن دعمها للحكومة الانتقالية، يكشف ذلك تناقضات غياب الدولة الموحّدة والشرعية، بل ويظهر أيضاً انقسامات داخل الإدارة الأمريكية نفسها بين تيار يدفع نحو تسريع التطبيع مع دمشق وآخر يفضل الحذر بسبب استمرار المخاوف الأمنية والحكومية.
يعقّد هذا التشتت حسابات القوى الإقليمية الساعية للعودة إلى سوريا. فقد عبّرت تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة عن رغبتها في الاستثمار وإطلاق شراكات اقتصادية بعد الحرب. غير أنّ بقاء مساحات وشرائح سكانية كاملة خارج التوافق الوطني، سيجعل قدرتها على العمل في بيئة مستقرة وقابلة للتنبؤ محدودة للغاية.
في عهد الأسد، لم يكن مجلس الشعب سوى مسرحاً سياسياً لتصديق القرارات وإظهار صورة مصطنعة للوحدة، لا لممارسة الديمقراطية. واليوم، تهدّد الإصلاحات الجارية بإحياء الواجهة نفسها، لكن بأدوات سيطرة أكثر تطوراً. فبدلاً من خلق مساحة لأصوات متعدّدة، يبدو أنّ النظام الجديد صُمِّم لاحتوائها وتحييدها. وهذه صورة قاتمة لما كان يُفترض أن يكون أول برلمان لـ«سوريا الحرة».
وبإقصاء تمثيل بعض من أكثر المحافظات تعقيداً وتنوعاً، لا تعالج السلطات المؤقتة معضلة الشرعية، بل تحوّلها إلى واقع دائم. وبإحكام قبضتها التنفيذية على المجلس، تصادر أحد المنافذ القليلة المتاحة للتعبير عن الضغط والمعارضة الوطنية، تاركةً الاحتقان بلا متنفّس سوى الشارع.
نحو الواقعية والمشاركة الواسعة والشاملة
تحمل الخطوات الأخيرة للحكومة الانتقالية السورية دروساً بالغة الأهمية لصانعي السياسات والمحللين في الداخل والخارج. فهي تبرز صعوبة بناء مؤسّسات جديدة في ظلّ إرث الحكم الاستبدادي، ووسط سياق من الصراع والانقسام والهشاشة في الهوية الوطنية. وفي الوقت نفسه، تكشف عن التحدّيات العملية التي تواجهها حكومة انتقالية تسعى إلى ترسيخ شرعيتها واستقرارها ضمن مشهد منقسم ومتشظّي.
تواجه السلطات الجديدة تحدّياً مزدوجاً: إرساء دعائم سلطة الدولة من جهة، والعمل في بيئة يصعب فيها سياسياً ولوجستياً ضمان مشاركة واسعة وتنظيم انتخابات مباشرة من جهة أخرى. لذلك فإنّ الاعتماد على آليّات انتخابية غير مباشرة والإدماج الانتقائي يعكس محاولة لإدارة جهاز دولة هشّ، يرزح تحت انعدام الأمن، وضعف البنية التحتية، وتنافس الفاعلين المحلّيين. إنّ إدراك هذه القيود أمر أساسي لصياغة مسارات واقعية للمستقبل.
أمّا بالنسبة إلى جيران سوريا وشركائها الدوليين، فتحمل هذه الديناميات في طيّاتها إنذارات وفرصاً في آنٍ واحد. إذ ينبغي أن تركّز إستراتيجيات الاستقرار على دعم إصلاح سياسي حقيقي ومشاركة واسعة وشاملة، مع مراعاة الحدود التي تواجهها حكومة لا تزال تبحث عن موطئ قدم لها. وسيعتمد الانخراط الفعّال على تعزيز دور المؤسّسات القادرة على توسيع نطاق المشاركة والتمثيل تدريجياً، مع ضمان أن يكون لمجتمعات سوريا كافة، بمكوّناتها العرقية والدينية ومناطقها المتعدّدة، دور في رسم ملامح مستقبل البلاد.
وفي نهاية المطاف، لن يكون الاختبار الحقيقي للمرحلة الانتقالية السورية في مجرّد تنظيم الانتخابات أو إنشاء مؤسّسات حكم شكلية، بل في قدرة هذه المؤسّسات على عكس تنوّع المجتمع السوري، ومعالجة المظالم العميقة، وفتح المجال أمام تنافس سياسي سلمي. ومن دون هذه المشاركة الواسعة والشاملة، فإنّ أيّ إصلاحات تعزز المركزية لن تؤدّى سوى إلى مفاقمة الانقسامات بدلاً من تعزيز المصالحة وبناء مستقبل وطني متماسك.