إنّ قرار إدارة ترامب في أوائل العام 2025 بتعليق المساعدات العسكرية لأوكرانيا والتي لم تستأنف إلّا بعد موافقة كييف على التفاوض مع موسكو في مارس الماضي – يُمثّل نقطة تحوّل في الأمن عبر الأطلسي. وقد أجبر هذا القرار أوروبا على إعادة تقييم موقفها الإستراتيجي في ظلّ صراع بدأ مع ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، وأفضى في نهاية المطاف إلى حرب شاملة في العام 2022.
وقد اعتمدت أوكرانيا اعتماداً كبيراً على المساعدات الغربية، حيث قدّمت الولايات المتّحدة أكثر من 50 مليار دولار من الدعم العسكري بحلول العام 2024، تشمل أنظمة متقدّمة مثل أنظمة «هيمارس» المدفعية الصاروخية المتنقّلة وأنظمة الدفاع الجوّي «باتريوت». وقد ساهم تعليق المساعدات، الذي جاء نتيجة للسياسات الداخلية الأمريكية والتحوّل الإستراتيجي نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في الكشف عن الثغرات الأمنية التي تعانيها أوروبا ، ما أضفى مصداقية على التحذيرات القديمة من قادة مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الاعتماد المفرط على واشنطن.
في حين يطرح هذا التحوّل تساؤلاً ملحّاً بشأن قدرة أوروبا على بناء قدراتها الدفاعية المستقلّة، فإنّ التداعيات تمتدّ إلى ما هو أبعد من القارة لتصل إلى مناطق مثل الخليج. ومع إعلان إدارة ترامب نيّتها التراجع عن الالتزامات الأمنية، وفي ظلّ اعتماد هل يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي، التي تعتمد أيضاً على الدعم العسكري الأمريكي، الاستعداد لمستقبل يشهد تراجعاً لهذا الدعم؟آفاق الاستقلالية الدفاعية الأوروبية
لطالما اعتمدت الأمن الأوروبي على منظّمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث ساهمت الولايات المتّحدة بنحو 70 في المئة من الإنفاق الدفاعي حتى العام 2023. وقد واجهت محاولات سابقة لتحقيق تكامل عسكري أوروبي، صعوبات بسبب تضارب المصالح الوطنية والاختلالات المالية بين الدول. ومن بين هذه المبادرات الجماعة الدفاعية الأوروبية (European Defence Community) التي لم ترَ النور في العام 1954، ومبادرة «بيسكو» في العام 2017.
لقد أحيت الحرب في أوكرانيا وتذبذب الدعم الأمريكي النقاشات بشأن استقلالية أوروبا الإستراتيجية. وحتّى الآن، أطلقت ألمانيا صندوق «Zeitenwende» بقيمة 100 مليار يورو لإعادة بناء قدراتها العسكرية وتعزيزها، فيما وسّعت بولندا قوّاتها لتصل إلى 200 ألف جندي، في حين تواصل فرنسا الضغط من أجل رفع هدف إنفاق الحلف الدفاعي إلى 3,5 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي بدلاً من النسبة الحالية البالغة 2 في المئة.
بيد أنّ الاستثمار المالي وحده لن يُحقق الاستقلالية الإستراتيجية، إذ يتطلّب بلوغ هذا الهدف تخطّي الاعتمادات الهيكلية والصناعية المتاصّلة، وهذه مهمّة سياسية حسّاسة وتحتاج إلى بذل جهود مُضنية على المدى الطويل.
تظلّ إستراتيجية الدفاع الأوروبية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتّحدة، خاصة في الشراء واللوجستيات. ويُعدّ برنامج الطائرات المقاتلة “F-35” مثالاً واضحاً، إذ يخطّط ثمانية أعضاء أوروبيين في حلف الناتو لشراء أكثر من 600 طائرة بحلول العام 2030، ما يعزّز التوافقية بينهم، لكنّه في الوقت نفسه يربطهم بأنظمة الصيانة والبرمجيات الخاضعة للولايات المتّحدة.
وتعتمد المنصّات الأوروبية أيضاً على تقنيّات أمريكية المنشأ، مثل أشباه الموصلات والأنظمة والملكية الفكرية، وهي خاضعة للوائح التجارة الدولية للأسلحة (ITAR) التي تتيح لواشنطن حظر الصادرات. وقد برز هذا الضعف بوضوح في العام 2019 عندما استُبعِدَت تركيا من برنامج “F-35” بسبب شرائها أنظمة الدفاع الجوّي الروسية من طراز “S-400″.
ولتقليل الاعتماد، أطلق الاتحاد الأوروبي «الإستراتيجية الصناعية الدفاعية الأوروبية» ومبادرة «إعادة تسليح أوروبا» بقيمة 800 مليار يورو، بهدف تحقيق الاكتفاء الدفاعي الذاتي بحلول العام 2035. ومع ذلك، لا تزال الاستقلالية الفعلية هدفاً بعيد المنال، ما يترك أوروبا عرضة للتقلّبات والتحوّلات في السياسة الأمريكية.
الدروس الإستراتيجية التي على مجلس التعاون الخليجي تعلّمها: تنويع الشراكات الأمنية
تحمل تجربة أوروبا في طياتها دروساً أساسية لدول المجلس، إذ اعتمدت بنيتها الأمنية بشكل مماثل على الضمانات الأمريكية منذ حرب الخليج في العام 1991. ويُعدّ الوجود العسكري الأمريكي، بما في ذلك الأسطول الخامس في البحرين وقاعدة العُديد الجوّية في قطر، ضامناً لاستقرار المنطقة، مدعوماً بصفقات أسلحة تجاوزت قيمتها 130 مليار دولار بين عامي 2015 و2023.
ومع ذلك، فإنّ التحوّل الإستراتيجي الأمريكي نحو آسيا يثير تساؤلات عن استمرارية هذا الدعم، لا سيّما بعد إبرام اتفاقية «أوكوس» في العام 2021 بين أستراليا والولايات المتّحدة وبريطانيا وزيادة الانتشار البحري الأمريكي في بحر الصين الجنوبي.
لقد بدأ مجلس التعاون الخليجي بالفعل في الاستعداد بصورة أكبرلتقليص الدعم الأمريكي، وأصبح تنويع الشراكات الأمنية ضرورة إستراتيجية. وشملت الخطوات الأولية في هذا الاتجاه: التعاون الدفاعي مع الصين، إذ اشترت السعودية طائرات مسيّرة من طراز “CH-4” في العام 2017، وأقامت الإمارات شراكات دفاعية وتقنية نووية مع كوريا الجنوبية. في الوقت نفسه، لاقت الطائرات المسيّرة التركية «بيرقدار TB2» رواجاً في المنطقة، فيما فتح توقيع اتفاقيات أبراهام في العام 2020 بين إسرائيل والإمارات العربية المتّحدة والبحرين الباب أمام الاستفادة من القدرات الإسرائيلية في مجالات الدفاع الصاروخي والأمن السيبراني وغيرها.
تعزيز الاكتفاء الذاتي الدفاعي في مجلس التعاون الخليجي
بعيداً عن التنويع، لا بُدّ أن تعمل دول مجلس التعاون على تطوير قدراتها الدفاعية الذاتية لتقليل نقاط الضعف الخارجية. وتُبرز القيود الصناعية الأوروبية مدى إلحاح هذه المهمّة. وعلى الرغم من التقدّم الذي أحرزته الدول الخليجية، لا تزال الجهود متفرّقة وغير منسّقة.
يُعدّ التكامل الإقليمي في مجالي الأمن والدفاع مساراً قابلاً للتنفيذ. فتنسيق إنتاج المستلزمات الدفاعية مثل الذخيرة وقطع الغيار، إلى جانب بناء البنية التحتية وقدرات الصيانة والدعم، من شأنه أن يعزّز القدرة على الصمود. كما يُعدّ تطوير أنظمة تشغيل القيادة والسيطرة المشتركة ومشاركة المعلومات الإستخباراتية ودمجها وإنشاء الاتصالات الآمنة في غاية الأهمّية وأساسيّة للعمليات المشتركة.
توفّر قوّات درع الجزيرة، ذراع المجلس العسكرية التي أُنشئت في العام 1984، آليّة أساسية للتكامل الدفاعي الإقليمي. ومع ذلك، يعكس سجلها العملياتي المحدود إمكانات غير مستغلّة. ومن أبرز عملياتها، التحرّك العسكري في خلال الغزو العراقي للكويت، حيث أظهر المجلس، بدعم أمريكي ودولي، استعداده للقتال دفاعاً عن أحد أعضائه.
وتمثّلت الخطوة الأحدث، وإن كانت متواضعة، في إصدار رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي في العام 2024، وهي ثاني وثيقة أمنية رئيسة بعد «اتفاقية الدفاع المشترك» في العام 2001. وتعيد الرؤية التأكيد على مبادئ الدفاع الجماعي المشابهة للمادة الخامسة من ميثاق الناتو، مشيرة إلى أنّ «أي اعتداء على أحد الأعضاء هو اعتداء على الجميع»، وتذهب أبعد من ذلك بالإشارة إلى أنّ «أي تهديد على دولة هو تهديد على الجميع».تتضمّن الوثيقة أيضاً أهدافاً مشتركة مثل تسوية النزاعات سلمياً، ومكافحة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل واستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية. ومع ذلك، لم تتطرّق إلى معالجة التهديدات الأمنية الرئيسة أو تحديد آليّات محدّدة لمواجهتها. ينبغي أن تتطوّر رؤية الأمني المشترك إلى خطّة قدرات مشتركة، تُحدّد إستراتيجيات التوريد وتُوحيد المعدّات، فضلاً عن وضع عقائد وتدريبات مشتركة لضمان القدرة على التشغيل المشترك والتنسيق العملياتي.
التحدّيات كثيرة
تواجه جهود التكامل الدفاعي في مجلس التعاون الخليجي عقبات متعدّدة لا تزال تعيق التقدّم. ويأتي في مقدّمتها الجمود المؤسّسي. اعتادت المؤسّسات الدفاعية في دول المجلس العمل بشكل منفصل ومنعزل. وإنّ إصلاح هذه المؤسّسات الراسخة ليس بالأمر السهل. وعلى الرغم من الدفع نحو إجراء إصلاحات مؤسّسية كبيرة في السنوات الأخيرة – بدءاً من الإمارات في العقد الماضي، والبرامج الجارية حالياً لإصلاح وزارة الدفاع السعودية – ما زال الطريق طويلاً والوقت مبكراً لجني ثمار هذه الجهود.
العائق الثاني هو الخلافات الداخلية التي أعاقت على مرّ التاريخ التعاون بشكل كبير، مثل الأزمة الدبلوماسية في العام 2014 والحصار على قطر في العام 2017. صحيح أنّ اتّفاقية العلا في العام 2021 قد أسهمت في تحقيق قدراً من المصالحة والاستقرار في العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي، إلّا أنّ جهود إصلاح العلاقات لا بدّ أن تستمرّ من أجل تحقيق تعاون دفاعي أوسع وتكامل أعمق.
أمّا العائق الثالث، فيكمن في اختلاف السياسات الخارجية بين دول المجلس. على سبيل المثال، قد يخلق تطبيع العلاقات بين كلّ من الإمارات والبحرين مع إسرائيل نوعاً من التوتّر مع دول مثل قطر والمملكة العربية السعودية، التي لم تتّخذ خطوات مماثلة حتّى الآن.
وعلى الرغم من كلّ هذه التحدّيات، يبقى إرساء آليّات دفاع جماعي مؤسّسية أمراً بالغ الأهمّية. ومن دون وجود بنى رسمية واضحة، ستبقى عمليات التنسيق والقدرة على الصمود محدودة.مجلس التعاون الخليجي مقابل أوروبا: من يواجه المهمّة الأصعب؟
يواجه كلا الكيانين تحدّيات فريدة في بناء قدرات دفاعية مستقلّة. إذ تتمتّع دول مجلس التعاون بمرونة أكبر في دمج أنظمة غير غربية، على الرغم من تنوعّ مصادر تسليحه، بما في ذلك روسيا والصين وحتى كوريا الشمالية. في المقابل، تعتمد أوروبا بشكل شبه كامل على التكنولوجيا الدفاعية الأمريكية أو تلك المنتَجة ذاخل أوروبا.
ومع ذلك، تتمتّع أوروبا بقاعدة صناعية دفاعية أكثر تطوّراً ونضجاً، على الرغم من النقص في التمويل منذ الحرب الباردة. وقد تمهّد إعادة إحيائها الطريق لتحقيق قد أكبر من الاستقلالية.
يستثمر مجلس التعاون بكثافة في صناعاته الدفاعية، لكنه يواجه تحدّياً أكبر، نظراً لحداثة قواعده الصناعية، والحاجة إلى توحيد رؤى ست دول بالمقارنة مع 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
التعامل مع مشهد أمني متعدّد الأقطاب
يعكس تعليق المساعدات العسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا هشاشة الترتيبات الأمنية القائمة على الهيمنة الأمريكية. وبالنسبة إلى أوروبا، يمثّل الانفكاك عن التكنولوجيا الأمريكية وأطرها التنظيمية تحدّياً كبيراً على الرغم من زيادة الاستثمارات ومبادرات السياسات. ولا يزال الاستقلال الكامل هدفاً بعيد المدى تعيقه تعقيدات صناعية وسياسية.
وبالنسبة إلى مجلس التعاون الخليجي، فإنّ أوجه الشبه واضحة. وعلى الرغم من أنّ الدول الأعضاء لم تتعرّض بعد لنفس الاضطراب في علاقاتها مع الولايات المتّحدة كما حدث مع أوروبا، إلّا أنّ الاعتماد المستمرّ على الضمانات الأمنية الأمريكية يشكّل مخاطر كبيرة في ظلّ التحوّلات المستمرّة في الأولويات العالمية. ومن خلالتنويع الشراكات الأمنية والاستثمار في الصناعات الدفاعية المحلّية وتعزيز التنسيق الإقليمي، يمكن لدول المجلس تقليص هذه المخاطر والعمل على احتوائها قبل أنّ تتفاقم وتتحول إلى قضايا كبيرة في المستقبل القريب.
في عالم أمني متعدّد الأقطاب بشكل متزايد، ليست الاستقلالية الإستراتيجية خياراً بل ضرورة. ويتطلّب تحقيقها رؤية بعيدة المدى ووحدة في الداخل والتزاماً مستمرّاً ببناء قدرات دفاعية إقليمية مرنة ومستقلة ومتكاملة، فضلاً عن تصميم بنية أمنية إقليمية يكون مجلس التعاون الخليجي في صميمها.