أمير دولة قطر سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني (على اليمين) يتبادل أطراف الحديث مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في القصر الأميري بالدوحة، وذلك في يوم 14 مايو 2025. (تصوير: بريندان سميالوفسكي/ وكالة الصحافة الفرنسية).

أهمية حماية الوسطاء في زمن تزداد فيه الحاجة إلى الوساطة

أظهر  الهجوم الإسرائيلي على قطر في سبتمبر الماضي، الدولة المستضيفة لمحادثات الوساطة بشأن وقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى، مدى هشاشة موقف الوسطاء وهم يواصلون الاضطلاع بمهمة تزداد إلحاحاً في الدبلوماسية الدولية.

6 أكتوبر، 2025
سلطان الخليفي

برزت الوساطة في حلّ الصراعات كواحدة من أهم الأدوات التي لا غنى عنها في النظام الدولي المعاصر. ففي وقت تتصاعد فيه حدّة المنافسة بين القوى الكبرى في مجالات متعدّدة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو تكنولوجية، تزداد الحاجة إلى دور الوسطاء المحايدين القادرين على تيسير قنوات التواصل وتقليص مخاطر التصعيد من أيّ وقت مضى. ومع ذلك، وعلى الرغم من الأهمية البالغة، ما زالت الوساطة ممارسة تفتقر إلى الحماية الكافية. فقد كشف الهجوم الإسرائيلي الأخير على الأراضي القطرية، الذي استهدف مكتباً سياسياً لحركة حماس كان جزءاً من مسار الوساطة في الدوحة، عن عمق هذه الهشاشة. فقد أسفر الهجوم عن مقتل مأساوي لأحد عناصر الأمن القطري وعدد من الفلسطينيين، بالإضافة إلى إصابة مواطنين قطريين، إذ لا يُعدّ هذا مجرّد انتهاك صارخ للقانون الدولي وميثاق الأمم المتّحدة، بل أيضاً عدوان مباشر على جوهر مؤسّسة الوساطة ذاتها.

 

وعليه، ينبغي أن تصبح حماية الوسطاء أولوية محورية للمجتمع الدولي وهو يمرّ بمرحلة حرجة في ظلّ تشكّل نظام عالمي يتجه أكثر فأكثر نحو التعدّدية القطبية، حيث يفاقم تشتّت موازين القوى مخاطر الحروب بالوكالة والتدخلات التنافسية. وفي المقابل، يتيح هذا التعدّد المجال أمام بروز وسطاء جدد، غالباً من الدول الصغيرة ذات المصداقية العابرة للانقسامات، للمشاركة في مساعي عمليات السلام العالمية. غير أنّ غياب الضمانات الفاعلة يهدّد بتقويض الثقة بالحوار، وإطالة أمدّ الصراعات، وإضعاف الجهود الجماعية الرامية إلى احتواء الاضطرابات.

 

الهجوم الإسرائيلي على قطر وتداعياته

 

يشكّل القصف الإسرائيلي للأراضي القطرية انتهاكاً صارخاً للمادة 2(4) من ميثاق الأمم المتّحدة، التي تحظر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة أراضي أيّ دولة أو استقلالها السياسي. ولم يكن ذلك مجرّد عدوان على قطر فحسب، بل محاولةً مباشرةً لعرقلة مسار الوساطة الجارية بين إسرائيل وحركة حماس، والذي استمرّ قرابة العامين.

 

وقد جاءت ردود الفعل الدولية معبّرةً ودالّةً، إذ تدفّقت موجة من الدعم الدبلوماسي إلى الدوحة من أطراف دولية متنوّعة، في اعتراف واضح بدور قطر الراسخ كواحدة من أكثر الوسطاء وأكثرهم فاعلية في الدبلوماسية المعاصرة. فقد أكسبها سجلها الحافل بالإنجازات في ملفات تمتدّ من السودان وفنزويلا إلى أفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، موقعاً موثوقاً كطرف قادر على التوسط في صراعات تفتقر فيها غالباً القوى التقليدية إلى الشرعية. ومن ثمّ، فإنّ الاستهداف الرمزي لدور قطر الوسيط قد أثار استياءً عميقاً ضمن النظام الدولي، إذ يفضح  مدى هشاشة نظام عالمي يستفيد من جهود الوساطة لكنه لا يوفّر لها الحماية اللازمة.

 

سوابق تاريخية لاستهداف الوسطاء

 

لم يكن استهداف الوسطاء بالأمر المستجد. فالتاريخ حافل بتذكيرات قاسية بالمخاطر التي تواجه الأفراد والدول عند الاضطلاع بالمهمّة الدقيقة المتمثّلة في تيسير الحوار.

 

يُعد الكونت فولك برنادوت، أول وسيط للأمم المتّحدة في الصراع العربي الإسرائيلي، مثالاً بارزاً على ذلك. فقد جسّد أول محاولة للمجتمع الدولي لحلّ صراع ساهم في إشعاله من خلال التصويت على قرار تقسيم فلسطين في العام 1947. وفي 17 سبتمبر 1948، اغتيل برنادوت في القدس على يد ميليشيا صهيونية تُعرف بـ«ليحي» أو «عصابة شتيرن»، التي رفضت مقترحاته للسلام، لا سيّما دعوته إلى عودة اللاجئين. ولم يقتصر أثر اغتياله على حرمان للأمم المتّحدة من وسيط محوري فحسب، بل شكّل أيضاً سابقةً خطيرةً للعنف ضد الوسطاء المحايدين في الصراع العربي الإسرائيلي.

 

وبعد عقود، في العام 2012، واجه أرسالا رحماني، العضو البارز في المجلس الأعلى للسلام في أفغانستان، المصير نفسه. فقد أدّى رحماني دوراً محورياً في التواصل مع قادة طالبان لتيسير جهود المصالحة المحلّية، قبل أن يُغتال في 13 مايو من ذلك العام في كابول على يد مسلحين مجهولين يُعتقد على نطاق واسع أنهم سعوا إلى إفشال مفاوضات السلام الهشّة. وقد مثّل مقتله ضربةً موجعةً لزخم الحوار، وكشف مجدّداً عن المخاطر المميتة التي تلاحق الوسطاء في بيئات التمرّد المعقّدة.

 

وتُبرهن هذه السوابق أن استهداف الوسطاء يخدم غرضاً مزدوجاً لدى معرقلي السلام: إسكات الأصوات المعتدلة وتعطيل قنوات التواصل التي قد تمهّد لتسويات ممكنة. ويأتي الهجوم الإسرائيلي على قطر امتداداً لهذه الاعتداءات، مؤكّداً أنّ الوسطاء يُنظر إليهم كتهديد مباشر من قبل الأطراف المستفيدة من إطالة أمد العنف.

 

لماذا تُعدّ حماية الوسطاء بالغة الأهمية؟

 

إن قتل الوسطاء أو استهدافهم يخلّف عواقب ممنهجة تتجاوز الفعل العنيف نفسه.

 

ومن أبرز التداعيات المباشرة لاستهداف الوسطاء هي تآكل الثقة بجوهر عملية الوساطة نفسها. إذ تقوم فاعلية الوساطة على افتراض حياد الوسطاء وسلامتهم. وإذا باتوا عرضة للهجمات، فقد تبدأ الأطراف المتصارعة بالتشكيك في جدوى الوساطة أو في كونها مساراً أمناً، بما يقوّض مصداقية العملية برمّتها.

 

كما أنّ إقصاء الوسطاء يُنذر بإطالة أمدّ الصراعات. يشكّل الوسطاء قنوات أساسية لنقل المعلومات بين الخصوم: يفسّرون الإشارات، ويوضحون مواقف التفاوض، ويقلّصون احتمالات سوء الفهم الذي قد يتفاقم ويتحوّل إلى دوّامة عنف متجدّدة. وعندما تتعطّل قنوات الوساطة، ينشأ فراغ خطير سُرعان ما يستغلّه غالباً المتشدّدون ومعرقِلو السلام.

 

وإلى جانب ذلك، تمثّل الهجمات على الوسطاء تقويضاً لشرعية الأعراف الدولية. فهي تمثّل اعتداءً مباشراً على التزام المجتمع الدولي بتسوية النزاعات بالوسائل السلمية، وتقوّض المادة 33 من ميثاق الأمم المتّحدة التي تنص صراحة على الوساطة والتفاوض كوسائل مٌعترف بها لحلّ الصراعات. ومن هذا المنظور، تفتك هذه الممارسات بالأسس القانونية والمعيارية للنظام الدولي.

 

وأخيراً، يخلق غياب الرد على استهداف الوسطاء ما يُعرف بـالخطر الأخلاقي، إذ يشجّع سلوك المعرقِلين. وإذا لم يواجه المرتكبون أيّ تبعات سياسية أو قانونية أو حتى معنوية، يغدو تطبيع العنف ضد الوسطاء خياراً عقلانياً لمن يسعى إلى تعطيل مسارات السلام. وهكذا تُرسّخ سابقة خطيرة تجعل من استهداف الوسطاء وسيلة محسوبة لإطالة أمدّ الصراعات أو تأجيجها.

 

نحو ترسيخ قاعدة لحماية الوسطاء

 

يتحمّل المجتمع الدولي واجباً أخلاقياً وإستراتيجياً لحماية الوسطاء. ففي عالم متعدّد الأقطاب تزداد فيه الصراعات تعقيداً، ستغدو الحاجة إلى وساطة فعّالة أشد إلحاحاً. ومن هنا، تبرز ضرورة اتّخاذ خطوات عملية، من بينها ترقية حماية الوسطاء إلى قاعدة عالمية تُعزَّز ضمن إطار الأمم المتّحدة وتُدعَم عبر المنظمات الإقليمية. وكما أرسى المجتمع الدولي أعرافاً لحماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني، تبرز الحاجة الملحّة إلى وضع إطار موازٍ يُكرّس حماية الوسطاء.

 

كما يمكن للأمم المتّحدة أن تعتمد قراراً رسمياً يُدرج الهجمات على الوسطاء ضمن انتهاكات القانون الدولي التي تستوجب رداً جماعياً. ولن يساهم هذا الاعتراف في تعزيز الحماية القانونية فحسب، بل يمنح الوسطاء أيضاً تفويضاً أقوى في خلال المفاوضات. وعلى هذا الأساس، ينبغي أن يواجه الفاعلون المعرقلون تبعات  معنوية وسياسية واقتصادية نتيجة استهداف الوسطاء، بما تشمل فرض عقوبات، أو فرض العزلة الدبلوماسية، أو، عند الاقتضاء، إحالات إلى المحاكم الدولية ضمن منظومة استجابة متدرجة.

 

وفضلاً عن الالتزامات المعيارية، يحتاج الوسطاء إلى دعم معزَّز. فالدول الصغيرة مثل قطر، التي اضطلعت بأدوار تفاوضية تتجاوز حجمها، تحتاج إلى إسناد دولي يضمن سلامة بعثاتها.

 

جرس إنذار؟

 

يشكّل الاعتداء الإسرائيلي على جهود الوساطة القطرية بمثابة جرس إنذار حقيقي. فهو يُذكّر بأنّ الوسطاء ليسوا مجرّد مراقبين محايدين في نظر معرقلي السلام، بل عقبات أمام إستراتيجيات الهيمنة والعنف. وكما أجهض اغتيال فولك برنادوت وأرسالا رحماني  مسارات السلام السابقة، يهدّد الفشل في حماية الوسطاء اليوم بتقويض المفاوضات الهشّة وإطالة أمدّ الصراعات بكلفة   إنسانية باهظة ومدمّرة.

 

وعليه، يتعيّن على المجتمع الدولي أن يتبنّى قاعدة ويفرضها حتى تجعل من حماية الوسطاء مبدأً محورياً في النظام الدولي. فالأمر لا يقتصر على إنصاف لأولئك الذين يعرّضون حياتهم للخطر في سبيل السلام، بل يمثّل أيضاً ضرورةً إستراتيجيةً لنظام عالمي يقوم على الوساطة كأداة سياسية لمنع الانزلاق إلى صراعات خارجة عن السيطرة.

 

 

تعبّر الآراء الواردة أعلاه عن وجهة نظر المؤلّف ولا تعكس بالضرورة مواقف الحكومة الأمريكية.

القضية: العلاقات الإقليمية، الوساطة، عدوان إسرائيل على غزة
البلد: فلسطين، قطر

المؤلف

زميل أوّل غير مقيم
سلطان الخليفي هو زميل أوّل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وباحث أوّل في مركز دراسات النزاعات والعمل الإنساني، حيث تتناول بحوثه السياسة الخارجية القطرية. وتركّز بحوثه على السياسة الخارجية القطرية، وحلّ الصراعات وجهود الوساطة في منطقة الشرق الأوسط، حيث يقدّم قراءة دقيقة لإستراتيجيات الدبلوماسية القطرية وإسهاماتها في حلّ النزاعات الإقليمية والدولية.