يُعدّ البحر المتوسط منطقةً أكثر اعتياداً على إدارة الأزمات منها على حلّها. فمن قبرص إلى فلسطين، ومن لبنان إلى ليبيا، مروراً بملفات الهجرة والطاقة، تتخفّى صدوعه المُزمنة تحت السطح، متأرجحةً بين نشاط وخمود، أشبه ببراكين جيوسياسية. ومرّة تلو الأخرى، تنتهي الدول الساعية إلى احتواء هذه الأزمات أو استثمارها، إلى مفاقمتها، لتجعل من الاضطراب سمةً إقليميةً راسخةً بدلاً من استثناء عابر.
ويبرز هذا المشهد اليوم مع تداخل الأزمة السياسية المستعصية في ليبيا مع الصراع على حقول الغاز البحرية في المتوسط، إذ تسعى تركيا، بالتعاون مع شركاء من بينهم الولايات المتّحدة وإيطاليا والإمارات العربية المتّحدة، إلى دمج الملفين في محاولة لفرض أمرٍ واقعٍ يخدم مصالحها الجيوسياسية. غير أنّ الاضطرابات الناجمة عن هذا الرهان ترفع احتمالات وقوع انفجار كارثي يهدّد استقرار ليبيا وازدهار أسواق الطاقة المتوسطية، ويترك المنطقة غارقةً في دوّامة من التوتّرات السياسية السامة قد تمتدّ لسنوات طويلة مقبلة.
محرقة الأزمات
إنّ الأزمة المتعدّدة الأبعاد التي تتفاقم اليوم حول حقول الغاز البحرية بين شرق ليبيا وجزيرة كريت اليونانية ليست وليدة اللحظة، بل نتاج مسار طويل من السياسات. إذ يستعد ائتلاف من شركات النفط للتنقيب في الحقول البحرية الليبية، فيما تفرض الدول الداعمة له حالة جمود سياسي خانق على بلد مثقل أصلاً بالأزمات، لضمان وصولٍ مميّز إلى موارده. في المقابل، تنشر اليونان أسطولها البحري في المياه الليبية، عازمةً على عرقلة مشروع تخشى أن ينهكها لأجيال مقبلة.
ولا يتعلّق الصراع بمجرّد بيع الغاز. لطالما نظرت تركيا إلى ليبيا كمحفّز لمشروعها المعروف بـ«الوطن الأزرق»، الذي يهدف إلى تكريس سيادتها على مساحات واسعة من البحر المتوسط، وما يرافقه من مكاسب مالية وجيوسياسية وأمنية. وبالنظر إلى سعي اليونان الموازي، فضلاً عن تاريخها الحافل بالتوتّرات مع تركيا، تصبح الخصم الطبيعي لهذا المشروع.
في العام 2020، كانت أثينا هي من يهيئ المسرح. فقد شرعت الشركات متعدّدة الجنسيات في التنقيب عن الغاز الطبيعي قبالة سواحل قبرص، بينما انضمّت اليونان إلى قوى محلّية كبرى مثل مصر وإسرائيل، وإلى قوى إقليمية كالإمارات العربية المتّحدة، ضمن منتدى غاز شرق المتوسط. وهكذا، عزّزت اليونان هيمنتها الاقتصادية، وسوّقت نفسها في الولايات المتّحدة بوصفها مزوّداً جديداً للأمن الإقليمي.
ويتمثّل جوهر المواجهة بين أثينا وأنقرة في الخلاف على تصوّر من يملك الحقوق الاقتصادية السائدة في شرق المتوسط. إذ ترى اليونان، مستندةً إلى اتفاقية الأمم المتّحدة لقانون البحار (UNCLOS)، بأنّ من حقّها إقامة منطقة اقتصادية خالصة تمتدّ على مسافة 200 ميل بحري حول كلّ واحدة من جزرها الألف، ما يمنحها عملياً السيطرة على نصف المتوسط وثرواته الهيدروكربونية.
أمّا تركيا، ومعها دول إقليمية أخرى مثل ليبيا وإسرائيل، فضلاً عن الولايات المتّحدة، فليست طرفاً في الاتفاقية. وتؤكّد أنقرة أنّ قانوناً بحرياً عادلاً ينبغي أن يُعطي الأولوية لحقوق الكتل القارية على حساب الجزر. وبما أنّها تملك أطول ساحل متصل في المنطقة، فإنّ ذلك يخوّلها السيطرة على شرق المتوسط، وخنق الجزر اليونانية، وتوسيع حصة دول كبرى مطلّة على الساحل مثل ليبيا ومصر.
ويجعل هذا التوازن المتوتر الغاز المتوسطي بطبيعته مادةً للصراع، خصوصاً مع تمسّك كلّ من اليونان وتركيا بتفسيرات قانونية تفضي إلى هيمنة أحدهما على الآخر، بينما يسعيان إلى استغلال ثرواتهما الغازية لتحقيق مكاسب جيوسياسية أوسع. ففي العام 2020، أفلتت تركيا من الفخّ الجيوسياسي اليوناني باستخدام أسطولها البحري لعرقلة عمليات التنقيب، فيما عرضت على الحكومة الليبية حماية من هجوم مدعوم من أعضاء منتدى غاز شرق المتوسط على العاصمة طرابلس، في مقابل اتفاق لترسيم الحدود البحرية وفق الشروط التركية.
وكلاء ليبيا
أتاح الانخراط التركي المحسوب في ليبيا، والمستند إلى اتفاقية بحرية تجاهلت مطالب جزر يونانية كبرى مثل رودس وكريت، لأنقرة أن ترسّخ موطئ قدم دبلوماسياً وقانونياً وعسكرياً في المنطقة. ولم يكن أمام اليونان سوى الاحتماء بتضامن الاتحاد الأوروبي، فيما كادت التوتّرات أن تنزلق إلى مواجهة عسكرية مباشرة حين اصطدمت القوّات البحرية الفرنسية والتركية في العام 2020. غير أنّ تراجع أسعار الغاز عالمياً، وارتفاع مخاطر الاستخراج، وتكاليف البنية التحتية غير المجدية، نجحت في نزع فتيل الأزمة.
غير أنّ ليبيا كانت الخاسر الأكبر، إذ عمّقت الرهانات الجيوسياسية الانقسامات بين اللاعبين، وجعلت استمرار الأزمة السياسية أكثر إغراءً من حلّها. وقد شكّلت معارضة أوروبا للاتفاق البحري التركي الليبي ركيزةً لسياستها تجاه ليبيا، فحوّلت جهودها نحو فرض حظر السلاح الأممي على القوّات العسكرية التركية، وقدّمت دعماً متزايداً للجنرال المستبد خليفة حفتر كقوة موازنة، على الرغم من سجله الحافل بالانتهاكات.
والنتيجة كانت مزيداً من إضعاف السيادة الليبية الهشّة أصلاً. فبدلاً من معالجة جذور أزمة الشرعية السياسية، عمدت القوى الخارجية، بما فيها تركيا وأوروبا، إلى استغلال الانقسامات الليبية لتحقيق مكاسب إستراتيجية. ومع انحسار حدّة التنافسات الإقليمية لاحقاً، استثمرت تركيا هذه المكاسب في تقارب أوسع مع الإمارات العربية المتّحدة ومصر وفرنسا، محوّلةً هذه المكاسب إلى صفقات تجارية وأمنية مربحة مع طرفي الصراع الليبي.
وهكذا ترسّخت دكتاتوريتان بحكم الأمر الواقع، بلا قواعد محلّية، وتدعمهما القوى الأجنبية ذاتها. وقد وسّعت تركيا نفوذها عبر صفقات طاقة جديدة وامتيازات عسكرية، فيما ساعدت مع دول أخرى الفصائل الليبية على تفكيك القطاع النفطي الوطني وتحويل عائداته عبر وسطاء جُدد. ويجسّد إنشاء شركة «أركينو» النفطية هذا المسار، ليصبح رمزاً لمحو ليبيا من ثرواتها الطبيعية، تحت واجهة شراكة ظاهرها التعاون وحقيقتها الهيمنة الخارجية.
أحسن الخطط المرسومة
نجحت تركيا بمهارة في بناء منصّة نفوذ سياسي داخل ليبيا، مستفيدةً من علاقاتها مع النخب، ومؤسّسة شراكات جديدة مع أعضاء منتدى غاز شرق المتوسط، وموسّعة تعاونها في مجال الطاقة مع شركات أمريكية وأوروبية بما يضمن تدفّق أيّ مكاسب في صالحها. وعلى الرغم من هذه التحالفات الجديدة، تدفع هشاشة ليبيا واستمرار الخصومة بين اليونان وتركيا المنطقة نحو أزمة دائمة.
وتقود هذا المسار جملة من العوامل. في مقدّمتها الحجم الهائل لاحتياطيات الغاز البحري الليبية المقدّرة بنحو 122 تريليون قدم مكعب. وقد استقطب هذا المنجم المُحتمل رئيس وزراء ليبياً ضعيف الثقة يسعى لمقايضة موارد الطاقة بدعم دولي، وأوروبا يائسة بحثاً عن بدائل للطاقة بعد حرب أوكرانيا، وإدارة أمريكية جديدة مدفوعة باعتبارات تجارية بحتة.
سعت نخب ليبيا جميعها إلى استرضاء واشنطن بطرق شتى، غير أنّ الطاقة تبقى العملة الأساس. ففي زيارة حديثة، توسّط مستشار ترامب مسعد بولس لإبرام صفقات مع شركتي «هيل إنترناشونال» و«إكسون موبيل» لاستكشاف الحقول البحرية وتطويرها.
وبذلك دخلت الولايات المتّحدة مباشرة في تحالفات جاهزة: إذ كانت شركة النفط التركية المملوكة للدولة قد عقدت بالفعل شراكة مع المؤسّسة الوطنية للنفط الليبية، فيما ربطت صفقة «هيل إنترناشونال» الشركة الأمريكية باتحاد قائم بين المؤسّسة الوطنية الليبية وشركة «إيني» الإيطالية العملاقة للطاقة. ولتعزيز هذا التعاون، استضاف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مؤخراً، مؤتمراً خاصاً مع نظيريه الإيطالي والليبي.
ومع تنامي الزخم، أطلقت أنقرة حملة تقارب جديدة نحو حفتر وشرق ليبيا، مستخدمةً النموذج المألوف القائم على توظيف الدعم العسكري لاستدراج عقود متبادلة المنفعة كأساس لعلاقة سياسية. والجائزة المرتقبة هي انتزاع مصادقة رئيس البرلمان الليبي، الذي يتحدّث منفرداً باسم مؤسّسة مشلولة في الشرق لا تملك نصاباً ولا قدرة على تجاوز حفتر، على الاتفاق البحري. وهذه خطوة من شأنها أن تعزّز المطالب التركية في مناطق الطاقة المتوسطية وتفتح الباب أمام وصول مميّز.
غير أنّ هذه المصالح الأجنبية المتزايدة تدفع ليبيا نحو الانهيار. فقد راح حفتر، وقد تعزّزت مكانته بفعل الاهتمام الدولي، يكدّس السلاح ويعيد إحياء طموحاته لغزو طرابلس. وفي المقابل، اندفع رئيس الوزراء الدبيبة، في مسعى لاستباق حفتر، إلى إطلاق أول امتيازات للطاقة منذ عقود لكسب ودّ المجتمع الدولي، ثمّ شنّ حرباً في العاصمة لتكريس سلطته المركزية.
انفجار وشيك؟
مع ازدياد فقر الليبيين وإحباطهم، وارتفاع الرهانات السياسية وتضاعف مكاسبها المُحتملة، يتصاعد الضغط نحو انفجار عنيف. في حين لا تساهم الديناميّات الدولية في التهدئة، بل تزيد الطين بلّة. إذ دخلت اليونان، التي استفزّتها تركيا وتقلّبات حفتر السياسية، في خلاف مع شريكها الليبي السابق. وقد ردّ حفتر في الصيف عبر تصدير المهاجرين إلى كريت، للضغط على الحكومة اليمينية في أثينا. لكن قابلت اليونان ذلك باحتجاز شحنة أسلحة تابعة له، مذكّرةً إياه بأهمّيتها لعملياته، ثم نشرت أسطولها البحري، وأطلقت حملة لاستمالته إلى صفوفها من جديد.
وربّما ترى تركيا أنّ تحالفاتها الطاقوية مع الولايات المتّحدة وإيطاليا وغيرهما تقيها معارضة أوروبية موحّدة، لكنّها في الواقع تغذّي انقسامات جديدة. فاستغلال حفتر لورقة الهجرة يمسّ أعمق مخاوف أوروبا. وفي الوقت نفسه، اكتشفت «إكسون موبيل» حقول غاز جديدة قبالة قبرص التي تتعاون مع مصر لتوسيع صادراتها، ما يهدّد بإشعال فتيل النزاع في شرق المتوسط مجدّداً.
الأسطول اليوناني منتشر بالفعل، فيما أعادت قبرص، العضو الآخر في الاتحاد الأوروبي، تفعيل اهتماماتها الطاقوية، وسط إغراء أطراف إقليمية مثل الإمارات العربية المتّحدة ومصر وإسرائيل لتأجيج حدّة التوتّرات أكثر من أجل كسب أوراق ضغط على كلّ من تركيا وأوروبا.
الطريق العقلاني إلى الأمام هو الدبلوماسية: منتدى متعدّد الأطراف لإدارة موارد المتوسط بعدالة، وعملية أممية تُعطي الأولوية لسيادة ليبيا على حساب سياسات الوكلاء الخارجيين. وحتى من منظور واقعي براغماتي بحت، تعدّ هذه الخطوات مفتاحاً للاستقرار والمكاسب الاقتصادية طويلة الأمد. ومع ذلك، تبقى الحلول غير مطروحة، فيما تُذكي الخصومات المتشابكة، وقِصر النظر، والطموحات المتطرّفة المتضاربة في المنطقة، البركان الكامن في ليبيا وشرق المتوسط، دافعةً إياه نحو انفجار آخر متوقَّع، ولو أنّه كان قابلاً للتجنّب.