لم يكن من المفترض أن تصبح بورتسودان جبهة قتال. فعلى مدى عامين، ظلّت هذه المدينة الساحلية بمنأى عن أتون الحرب الأهلية المستعرة في السودان، إذ تشكّل ملاذاً آمناً، ومركزاً إدارياً، وآخر منفذ إلى العالم الخارجي. غير أنّ هذا الشعور بالأمان سُرعان ما تبدّد في شهر مايو.
في تصعيد لافت، شنّت قوات الدعم السريع (RSF) موجة من الهجمات بالطائرات المسيّرة على مدينة بورتسودان في وقت سابق من هذا الشهر، مستهدفةً الميناء ومستودعات الوقود والمطار الدولي الوحيد فيها.
لقد كانت العواقب على سكّان بورتسودان فورية وقاسية. إذ أدّت انقطاعات الكهرباء إلى شلل في المستشفيات، وحرمان العائلات من التبريد ووسائل الاتصال، وغرق أحياء بأكملها في الظلام.
بالنسبة لسكّان بورتسودان، كانت العواقب فورية ووحشية. فقد أدّت انقطاعات الكهرباء إلى شلل في المستشفيات، وحرمان العائلات من التبريد ووسائل الاتصال، وغرق أحياء بأكملها في الظلام.
ويفيد عمال الإغاثة بتزايد حالة الذعر في ظلّ انهيار الخدمات الأساسية وشحّ الوقود الذي شلّ حركة النقل. فهذه الهجمات تفرض حصاراً مطبقاً على حياة المدنيين وحوّلت حياتهم إلى جحيم لا يُطاق.
أسفرت الهجمات في وقت سابق من هذا الشهر عن مقتل ما لا يقلّ عن 17 مدنياً، بينهم تسعة اختنقوا بسبب الأدخنة السامة، وأشاعت حالة من الذعر بين السكان، وتسببت في نزوح أكثر من 550 أسرة، وألحقت أضراراً جسيمة بعمليات الإغاثة الإنسانية.
وفي ظلّ هذه الظروف، لا بّد من تكثيف جهود الدعم الإنساني. فالأمم المتّحدة ووكالات الإغاثة، التي ترزح أصلاً تحت ضغوط هائلة، ستحتاج إلى وضع خطط طوارئ لضمان استمرار تدفق المساعدات إلى نحو 30 مليون سوداني بحاجة ماسّة للمساعدة،لا سيّما في الخرطوم ودارفور وكردفان والولايات الشمالية والجزيرة، بالإضافة إلى مئات الآلاف من النازحين إلى بورتسودان والمناطق المحيطة بها.
لأول مرّة، تحوّل ساحل السودان الشرقي إلى ساحة معركة، حيث تعمد قوّات الدعم السريع إلى تقويض مقوّمات الدولة وقدراتها ودفعها نحو الانهيار: مراكز الطاقة ونقاط العبور ومسارات الإغاثة الإنسانية.
وبعد أن خسرت قوات الدعم السريع الأراضي في الخرطوم ومناطق إقليم الوسط، باتت تقاتل عن بُعد. وأصبحت معتمدة على سلاحها الجديد: الطائرات المسيّرة القادرة على توجيه ضربات لمواقع على بعد مئات الكيلومترات، ما أسفر عنه تعطيل أنظمة الطاقة وسلاسل الإمداد وممرّات الإغاثة الإنسانية من دون الحاجة لجندي واحد على الأرض. وباتت حساباتهم الإستراتيجية واضحة: تفادي المواجهة المباشرة مع قوّات الجيش الأقوى، وخنق شرايين الدولة الحيوية، التي تبقيها صامدة وقادرة على ممارسة سلطاتها.
وليست حملة الطائرات المسيّرة التي تشنّها قوّات الدعم السريع مجرّد تحوّل تكتيكي، بل هي مناورة إستراتيجية تهدف إلى التعطيل عن بُعد من أجل تقويض الدولة التي عجزت عن احتلالها. ومن خلال الاعتماد على الآلات في تدمير مقدرات الدولة، تتجنّب قوّات الدعم السريع خوض معارك برّية باهظة الكلفة، وتبثّ الخوف والشلل والفوضى في مناطق لم تعد تسيطر عليها.
ومن بين المواقع المستهدَفة قاعدة فلامنغو البحرية، وهي قاعدة البحرية السودانية الرئيسة،شمال الميناء، والتي تعرّضت لهجوم جريء بطائرات انتحارية مسيّرة. كما تضرّر المطار الدولي الوحيد الذي لا يزال يعمل في السودان، ما أدّى إلى توقف الرحلات الجوية وتعطيل الخدمات اللوجستية الحيوية لإيصال الإغاثة. وربما كان الهجوم على محطة كهرباء المدينة هو الأكثر تدميراً، إذ سُرعان ما عمّ الظلام الدامس أرجاء بورتسودان.بذل العاملون في المستشفيات قصارى جهدهم لكي تستمرّ في تقديم خدمات الرعاية الصحية في ظلّ شحّ احتياطات الوقود، واضطرّ السكان في مناطق أخرى يسيطر عليها الجيش إلى جلب المياه مباشرة من النيل أو البحر نتيجة تعطّل المضخات.
وليست هذه الهجمات مجرّد مناورات عسكرية، بل هي أعمال تخريبية تستهدف الاقتصاد والأوضاع الإنسانية.
تعدّ بورتسودان حجر الزاوية اللوجستي لقوافل إغاثة الأمم المتّحدة وتوزيع المساعدات. وأي تعطيل فيها يهدّد بتفاقم المجاعة وتفشّي الأمراض في بلد يرزح بالفعل تحت وطأة أكبر أزمة إنسانية في العالم. وقد وصفت الأمم المتّحدة المدينة بأنّها “شريان حياة”، والآن تقطعه قوّات الدعم السريع.
التداعيات البيئية والإقليمية
بعيداً عن الخسائر البشرية المباشرة، تلوح في الأفق أزمة صامتة وخطرة.
فقد تسبّبتهجمات الطائرات المسيّرة على منشآت تخزين النفط بإشعال حرائق هائلة يمكن رؤيتها من أميال. وتثير مشاهد الحرائق في مستودعات الوقود والمنشآت النفطية مخاوف من التلوث السام وأضرار بيئية طويلة الأمد.
وفي بورتسودان، لم يعد تحوّل السماء إلى اللون الأحمر بسبب الحرائق النفطية مجرّد إنذار بصري، بل بات ناقوس خطر بيئي، يهدّد جودة الهواء وصحة السكان. وتجدر الإشارة إلى أنّ محطّات تكرير النفط تقع على ساحل البحر الأحمر، وأي دمار واسع النطاق قد يؤدّي إلى تسرّب النفط الخام إلى البحر، ما يهدّد النظم البيئية البحرية ويُعرّض سُبل كسب عيش المجتمعات الساحلية للخطر.لم تقتصر تداعيات هذه الهجمات على حدود السودان فحسب، بل أثارت قلق قوى إقليمية مثل السعودية ومصر، فسارعت كلّ من القاهرة والرياض إلى إدانة هذه الهجمات، خشية أن تؤدّي الفوضى على سواحل البحر الأحمر إلى تهديد خطوط الملاحة البحرية وامتداد العنف عبر الحدود.
ويطرح استخدام مجموعة غير حكومية طائرات مسيّرة متقدّمة تساؤلات ملحّة حول الدعم الخارجي. فهذه الضربات تجعل الحرب السودانية مسألة دولية، وتثير المخاوف من أنّ أطرافاً خارجية ستزيد انخراطها لحماية مصالحها.
وتتّهم الحكومة السودانية مباشرة الإمارات العربية المتّحدة بتزويد قوات الدعم السريع بتقنيات الطائرات المسيّرة، وهو ما تنفيه أبوظبي نفياً قاطعاً.
ردّاً على ذلك، قطع السودان علاقاته الدبلوماسية مع الإمارات، قبل أن يتراجع جزئياً عن هذا القرار بعد أيام، في خطوة تعكس مدى اعتماد السودان العميق على الإمارات كمركز لصادرات الذهب والأعمال والروابط المالية، فضلاً عن تحويلات الجالية السودانية الكبيرة. ومع ذلك، فإنّ توجيه الاتهام بهذا الشكل يعرقل جهود الوساطة الدولية وويضيف مزيداً من التوتر إلى الصراع.
يمثّل انتشار أنظمة الطائرات المسيّرة المتقدّمة تحوّلاً محورياً في طبيعة الحروب الإقليمية، ويكشف كيف باتت الميليشيات غير الحكومية تمتلك تقنيات كانت في السابق حكراً على الجيوش النظامية.
وتثير هذه التطوّرات مخاوف ملحّة بشأن تدفّق الأسلحة غير المنضبط وسهولة انتقال المعدّات المتقدّمة عبر الحدود، غالباً بمساعدة قوى إقليمية تسعى لتحقيق أجنداتها الخاصة.
والنتيجة هي عصر جديد من الحروب بالوكالة، تستطيع الأطراف الخارجية فيها توجيه الحروب الأهلية عن بُعد، ما يزيد من حدّة العنف ويقوّض سلطة الدولة ويعقّد الاستجابة الإنسانية. وتؤكّد هذه التجارب الحاجة الملحّة لاهتمام دولي بمسألة انتشار الطائرات المسيّرة ومواجهة التداعيات المزعزعة للاستقرار التي تفرضها الحروب بالوكالة على الصراعات المعاصرة.
تدمير الاقتصاد
تهدّد الهجمات كذلك الشريان الاقتصادي لدولة جنوب السودان، فكونها دولة حبيسة، تعتمد اعتماداً كلّياً على خطوط أنابيب السودان وبورتسودان لتصدير نفطها. وقد استهدفت الضربات الأخيرة محطة ضخّ رئيسة ومستودعاً لتخزين النفط، ما يهدّد بوقف تدفّق النفط. وسيؤدّي أي توقّف إلى تدمير اقتصاد جوبا الهشّ وحرمان السودان من عائدات حيوية.
لقد كان اتفاق نقل النفط بين السودان وجنوب السودان، المقرّر تجديده في 2026، أساساً للتعاون بعد الانفصال. غير أنّ الهجمات الأخيرة تهدّد بنسف هذا الترتيب الهش ودفع البلدين إلى مزيد من الاضطراباتما كان في بدايته صراعاً للسيطرة على العاصمة، سُرعان ما تحوّل إلى حرب تستهدف شرايين الحياة في البلاد، حيث أصبحت خزانات الوقود ومحطات الطاقة ورافعات الموانئ أهدافاً مشروعة. ويحمل هذا التصعيد كلفة إنسانية هائلة: فخنق السودان وحرمانه من مصادر الطاقة والمساعدات، يهدّد بإغراق البلاد في هوة أعمق من المعاناة وانهيار مؤسّسات الدولة.
دعوة عاجلة للتحرك
تستدعي هذه الأزمة الراهنة تحرّكاً عاجلاً على جبهات متعدّدة. إذ يجب على المجتمع الدولي التدخّل دبلوماسياً للضغط من أجل وقف إطلاق النار والعودة إلى المفاوضات، إذ لا سبيل لوقف هذا التردّي سوى بإنهاء الأعمال العدائية. وينبغي على القوى الإقليمية، مثل مصر وقطر والسعودية والاتحاد الإفريقي، تكثيف الضغط على قوّات الدعم السريع لوقف هجماتها على البنية التحتية المدنية والموافقة على فتح ممرّات إنسانية.
ولا بّد من تحرّك دولي لحماية البنية التحتية الحيوية في البلاد: فعلى المجتمع الدولي أن يوجّه تحذيراً واضحاً وحاسماً لقوّات الدعم السريع بأنّ استهداف المنشآت الأساسية لبقاء المدنيين، مثل شبكات الكهرباء والموانئ والمياه والوقود، يُعدّ جرائم حرب بموجب القانون الدولي.
سواء عبر إيجاد طرق بديلة، أو تجهيز المساعدات مسبقاً، أو فرض هدنات مؤقّتة لإيصال المساعدات، فإنّ الحاجة لاتّخاذ إجراءات فورية لا تحتمل التأجيل. ويجب على الدول المانحة التعامل مع أزمة السودان بما تستحّقه من جدّية واستعجال، فزيادة التمويل باتت ضرورة قصوى لتفادي شبح المجاعة، خاصة في ظلّ تقليص المساعدات الدولية على نطاق واسع، ومنها التخفيض الحاد في الدعم الأمريكي، الأمر الذي جعل العمليات الإنسانية تواجه خطراً وجودياً غير مسبوق.
حرب الطائرات المسيّرة التي تشنّها قوات الدعم السريع لا تدمّر بنية السودان التحتية فحسب؛ بل تقطع آخر صلات البلاد بمقوّمات البقاء والنظام والأمل.
على المجتمع الدولي أن يتحرك فوراً: للضغط من أجل وقف إطلاق النار، وحماية البنية التحتية الحيوية، وحشد المساعدات الإنسانية على نطاق واسع. وإلّا، فإنّ العالم يخاطر بتطبيع نمط جديد من الحروب، تصبح فيه شرايين الحياة أهدافاً مشروعة، وتغدو معاناة المدنيين إستراتيجية مقصودة لا مجرّد تداعيات.
يجب رسم الخط الآن، قبل أن تجهز الطائرات المسيّرة على ما تبقّى من نبض السودان ومستقبله.
نُشِرت هذة المقالة في الأصل على “تي آر تي وورلد” (TRT World) باللغة الإنكليزية وهذه ترجمتها.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.