منذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق في العام 2013، وسّعت الصين بشكل ملحوظ نطاق تجارتها واستثماراتها الصناعية وأنشطتها الاقتصادية الأخرى في منطقة الشرق الأوسط. ومع تنامي نفوذها، حثّت حكومات إقليمية، مثل المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا، بكين على تأدية دور أكبر في شؤون المنطقة الأمنية. وقد ازدادت وتيرة هذه الدعوات بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، إذ أعرب كثيرون في المنطقة عن استيائهم من مواقف الولايات المتّحدة وبعض دول أوروبا الغربية، التي أبدت دعماً غير مشروط لإسرائيل. وإلى جانب هذه الدعوات، لدى الصين أسبابها الخاصّة لتعزيز انخراطها الأمني، ومنها حاجتها إلى حماية طرق التجارة البحرية، وتحمّل مسؤوليّاتها كقوة عالمية كبرى، ورغبتها في تعزيز أمنها القومي من خلال التعاون الدولي.
في الوقت نفسه، تواجه هذه الدوافع ثلاثة عوائق رئيسة. أوّلها استمرار الهيمنة الأمريكية إقليمياً، لا سيّما من خلال الحفاظ على المظلّة الأمنية التي لطالما اعتمدت عليها الدول الخليجية. وتشير التطوّرات الأخيرة، بما في ذلك اتفاقية الدفاع الأمريكية مع البحرين في 2023، وتصنيف قطر «حليفاً رئيساً من خارج الناتو»، واعتماد الإمارات العربية المتحدة شريكاً دفاعياً رئيساً، إلى استمرار هذا النهج. وقد تؤدّي عودة دونالد ترامب إلى السلطة إلى تعزيز دور واشنطن الأمني في المنطقة، من خلال زيادة مبيعات الأسلحة للدول الخليجية، ومحاولات تعزيز إطار اتفاقيات أبراهام للتطبيع مع إسرائيل، وربّما إبرام اتفاقية دفاعية محسّنة مع المملكة العربية السعودية. أمّا الصين، التي تتجنّب باستمرار الدخول في المواجهة المباشرة مع الولايات المتّحدة أو في «حرب باردة جديدة»، فإنّ هذا الواقع يحدّ دورها في المنظومة الأمنية الخليجية، حيث تتركّز أبرز مصالحها الاقتصادية.
ويتمثّل العامل الثاني في التباين الجوهري بين عقيدة الصين في سياستها الخارجية وتلك الخاصّة بالدول الغربية. فمنذ نهاية الحرب الباردة، تبنّت الصين مبدأ عدم الانحياز ورفضت التدخّل في شؤون الدول الأخرى الداخلية، وظلّت متمسكة بهذه السياسة حتى في مواجهة الأزمات المتكرّرة، مثل الأزمات في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، فضلاً عن حملات المقاطعة والعقوبات الغربية التي واجهتها بعد العام 1989.
وعلى عكس النظام الدولي «القائم على القواعد» الذي تهيمن عليه القوى الغربية، تدعو الصين إلى التعدّدية ومواجهة التحدّيات عبر التعاون العالمي. وغالباً ما انتهكت هذه القوى القواعد التي وضعتها، متجاوزة مبادئها المعلنة بشأن الأمن القومي والسيادة والاستقلال، خصوصاً في الشرق الأوسط. وهذا الواقع يدفع الكثير من الدول الأضعف إلى اعتبار التحالفات العسكرية وسيلة ضرورية لضمان أمنها، بينما تفضّل الصين تسوية النزاعات عبر القانون الدولي وآليّات متعدّدة الأطراف مثل الأمم المتّحدة. فضلاً عن ذلك، تعتبر بكين التحالفات العسكرية أدوات عدائية بطبيعتها، تعزّز أمن أعضائها على حساب إفساد علاقاتهم مع الأطراف الأخرى.
أظهرت حالة عدم الاستقرار المتفاقم في الشرق الأوسط حدود التحالفات العسكرية في تحقيق الأمن القومي والاستقرار الإقليمي. ومع ذلك، إذا استمرّت دول المنطقة في اعتبار هذه الترتيبات ضرورية، فمن المرجّح أنّ تبقى معتمدة على الولايات المتّحدة. وحتى إذا قرّرت واشنطن تقليص هذا الدور أو التخلّي عنه، تشير مبادئ الصين المعلنة إلى أنّها لن تسارع إلى تولي دور المزوّد المباشر للأمن.
أمّا العائق الثالث أمام الانخراط الأمني الصيني، فهو التوجّه المتنامي لدى دول الشرق الأوسط نحو تحقيق قدر أكبر من الاستقلال الإستراتيجي والاقتصادي. فعلى سبيل المثال، أطلقت المملكة العربية السعودية في العام 2022 حملة سريعة لملء 40 في المئة من الوظائف المهنية في بعض القطاعات بمواطنين سعوديين. وبالإضافة إلى هدف تعزيز التوظيف المحلّي، تسعى الرياض أيضاً إلى تقليص الاعتماد على الخبرات الأجنبية في القطاعات الإستراتيجية، موجّهة أكثر من 50 في المئة من الإنفاق الدفاعي نحو الشركات المحلّية بحلول العام 2030.
وعلى الرغم من أنّ هذه الجهود لا تُعلَن صراحةً، إلّا أنّها تعكس رغبة أوسع لدى الدول الخليجية بالحدّ من نفوذ القوى الاستعمارية السابقة، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي وصلت سمعتها بين العرب إلى أدنى مستوياتها تاريخياً بسبب دعمها لإسرائيل في غزّة ومناطق أخرى. غير أنّ هذه الطموحات نحو قدر أكبر من الاستقلال في الإستراتيجية الوطنية والتطوير العسكري والتكنولوجي والدبلوماسي، تنطوي أيضاً السعي على رغبة في تقليص الاعتماد على أي قوى خارجية، بما في ذلك الصين.
إستراتيجيات بديلة للانخراط الأمني
تشير هذه العوامل إلى أنّ دور الصين في أمن الشرق الأوسط لا يزال محدوداً للغاية. فعلى الرغم من سعي دول المنطقة إلى تنويع شراكاتها وتقليص اعتمادها على القوى الغربية، من غير المرجح أنّ تتحالف بالكامل مع الصين، بل تفضّل الحفاظ على التوازن في علاقاتها مع مختلف الفاعلين الدوليين مع التمشّك باستقلاليتها الإستراتيجية. ومع أنّ بكين لم تنخرط بشكل مباشر في عمليات عسكرية أو تشكيل تحالفات، إلّا أنّها اعتمدت إستراتيجيات بديلة للانخراط الأمني في المنطقة، شملت إنشاء قواعد دعم والتوسّط في حلّ الصراعات والسعي إلى تأسيس «بنية أمنية شاملة» في المنطقة.
أنشأت الصين أول قاعدة دعم خارجية لها في جيبوتي لدعم عمليات مكافحة القرصنة وحماية مصالحها الاقتصادية. واليوم، تدرس إمكانية إنشاء قاعدة مماثلة في الإمارات العربية المتّحدة. وغالباً ما يُنظر إلى الموانئ المدنية الصينية في الخارج على أنّها ذات استخدام مزدوج، أو بمثابة قواعد عسكرية بحكم الأمر الواقع، ما أثار اعتراضات أمريكية على منشآت تديرها الصين مثل ميناء حيفا في إسرائيل وميناء الإسكندرية في مصر.
وقد كثّفت بكين أيضاً جهودها في الوساطة بعد نجاحها في رعاية استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والمملكة العربية السعودية في العام 2023. وفي يوليو 2024، توسّطت الصين في اتفاق مصالحة بين 14 فصيلاً فلسطينياً. ومع تصاعد الصراعات في غزّة ولبنان وتهديدها بإشعال حرب إقليمية واسعة، أجرى وزير الخارجية الصيني وانغ يي اتصالات مع مصر والأردن لمنع التصعيد والدفع باتجاه وقف إطلاق النار. ومع ذلك، وعلى الرغم من أنّ جهود الوساطة الصينية قد استقطبت اهتماماً واسعاً، يرى بعض المراقبين أنّ هذه الجهود لم تُحدث بعد أثراً ملموساً في الديناميات الجيوسياسية للمنطقة، نظراً لمحدودية لخبرة الصين الإقليمية ونفوذها الفعليّ فيها.
حقّق نهج الصين القديم القائم على «السلام من خلال التنمية» تقدّماً أكبر، عبر استغلال التجارة والاستثمار والتعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع دول الجنوب العالمي. وبحلول يوليو 2024، كانت أكثر من 80 دولة قد انضمّت إلى «مبادرة التنمية العالمية» التي تقودها وتموّلها الصين، فيما وقّع نحو نصف هذه الدول مذكرات تفاهم مع بكين. وتُعتبر الدول التي تتعاون مع الصين اقتصادياً مرشّحة للانخراط معها أمنياً أيضاً، كما حدث مع ليبيا. ومن خلال تعزيز الاستقرار وحماية المصالح الاقتصادية الصينية، تهدف هذه الشراكات إلى حلّ الصراعات عبر التعاون الاقتصادي والمصالح المتبادلة، وتخفيف حدّة التوترات الإقليمية، والسعي في نهاية المطاف إلى تحقيق الأمن الجماعي.
ومع ذلك، ينظر كثيرون في الغرب إلى هذه الإستراتيجية بعين الريبة، معتبرين أنّ الصين تستخدم نفوذها الاقتصادي لزرع الانقسامات بين الولايات المتّحدة وحلفائها. وتستند هذه الرؤية إلى أنّ الصين تمارس «الإكراه الاقتصادي» ضدّ الدول الأوروبية وأستراليا ودول شرق آسيا المتحالفة مع واشنطن، كما تستخدم نفوذها الاقتصادي والتكنولوجي لتحدّي المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
وقد شاركت الصين أيضاً في تبادلات عسكرية محدودة وتعاون بحثي مع دول في الشرق الأوسط، إلى جانب جهود مشتركة في مكافحة الإرهاب والإتجار بالأسلحة. وتمثّل هذه الجهود محاولات أوّلية من جانب الصين للانخراط في الشؤون الأمنية الإقليمية.
دفع الغرب إلى الخارج؟
أصبح قادة الصين ينشطون في الدفاع عن مصالح العرب والسلام والأمن كلّما اندلع صراع في الشرق الأوسط. وقد دعت الصين مراراً إلى عقد منتدى دولي للسلام بشأن القضية الفلسطينية. ومع ذلك، تبقى مبادرات السلام التي تطلقها القوى الخارجية الكبرى رمزية إذا لم تحظَ بدعم من داخل المنطقة نفسها. وتؤكّد الصين أنّ قضايا الأمن في الشرق الأوسط يجب أنّ تُعالج من الفاعلين الإقليميين أنفسهم.
وعلى الرغم من أنّ بكين قد لا تعدّل عقيدتها القائمة على عدم الانحياز استجابة لضغوط بعض الفاعلين الإقليميين لدفعها إلى تأدية دور أكبر، ستواصل الصين على الأرجح توسيع نفوذها في الشرق الأوسط من خلال التعاون الاقتصادي. يرى القادة الصينيون أنّ الاقتصاد هو مصدر قوة بلادهم الأساسي. يوفّر التعاون الاقتصادي فوائد مالية ويدعم التصنيع في دول الجنوب العالمي، ما يعزّز بدوره نفوذ الصين. وبالتالي، لا تملك بكين حافزاً كبيراً للانخراط في تدخّلات عسكرية قد تورّطها في صراعات مستعصية، فضلاً عن استفزاز الولايات المتّحدة وحكومات المنطقة.
ومع ذلك، فإنّ الانخراط العميق للصين في دول الجنوب العالمي سيدفع حتماً الولايات المتّحدة وغيرها من القوى التقليدية إلى الانسحاب تدريجياً من الشرق الأوسط. ومع تفوّق الصين في مجالات التكنولوجيا والإنتاج والقدرات الصناعية، بات هذا التوجّه واضحاً بالفعل، ومن المرجّح أنّه يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة بشكل لا رجعة فيه.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.