عمر كريم
على مدى نحو عقد من الزمن، كانت قطر اللاعب الأبرز في مجال الوساطة الدبلوماسية الدولية المتعلّق بأفغانستان. ومع ذلك، منذ استيلاء حركة طالبان على كابول في أغسطس 2021، قام قادة الحركة بسلسلة من الزيارات رفيعة المستوى إلى دولة خليجية أخرى ذات تأثير كبير، هي الإمارات العربية المتّحدة. ويعكس الاستقبال الحارّ الذي لقيه قادة طالبان من السلطات الإماراتية رغبة أبو ظبي في منافسة الدوحة كمركز للدبلوماسية والوساطة بين القوى العالمية وحكّام الأمر الواقع الجُدد في أفغانستان، الذين يسعون جاهدين لتحقيق الاعتراف الدولي وتوسيع نفوذهم في الساحة الدولية.
تندرج الإستراتيجية الإماراتية ضمن نهج أوسع، برزت من خلاله الإمارات العربية المتّحدة كقوّة جيوسياسية فاعلة على الصعيدين الإقليمي والدولي. ويتجلّى ذلك بوضوح من خلال تزايد انخراط أبو ظبي في المجالات السياسية والاقتصادية واللوجستية، لا سيما مع الدول الواقعة على أطراف الشرق الأوسط. وتعدّ أفغانستان نموذجاً حيّاً لهذا التوجّه.
انخرطت الإمارات العربية المتّحدة في أفغانستان في خلال فترة الجهاد الأفغاني ضدّ الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن العشرين، وكانت واحدة من ثلاث دول اعترفت دبلوماسياً بحكومة طالبان الأولى في تسعينات القرن الماضي. وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001 والغزو الأمريكي لأفغانستان، اعترفت الإمارات العربية المتّحدة بالحكومة الأفغانية الجديدة، وأرسلت قوات للمساهمة في تدريب قوّات الأمن الأفغانية. ومع ذلك، سعت أبو ظبي إلى أن تكون ساحة للمفاوضات الأخيرة التي خاضتها الولايات المتّحدة وطالبان، واستضافت بالفعل جولة من هذه المحادثات. إلّا أنّ رفضت طالبان لاحقاً استئناف المفاوضات في الإمارات العربية المتّحدة أو المملكة العربية السعودية، متذرّعة بضغوط مارستها القيادتان الخليجيّتان لعقد محادثات مباشرة مع الحكومة الأفغانية، ما أدّى فعلياً إلى إنهاء الدور المحدود لهما في عملية السلام الأفغانية.
ومنذ استيلاء طالبان على أفغانستان، اعتمدت الحكومة الإماراتية مقاربة براغماتية في التعامل مع الحكام الجُدد في البلاد، وهو النهج الذي لاقى ترحيباً من طالبان، كما يتّضح من قرار الحركة منح مجموعة “GAAC” القابضة، المرتبطة بالدولة الإماراتية، حقّ تشغيل المطارات الأفغانية الثلاثة الرئيسة وإدارتها. ومن اللافت فشل العرض المشترك بين قطر وتركيا بسبب الخلاف مع أنقرة حول إنشاء مناطق أمنية خاصة تُدار حصرياً عبر مقاولين أمنيين أتراك. وقد أتاح الخيار الإماراتي، الأكثر قبولاً سياسياً، لطالبان فرصة لتعزيز علاقاتها مع أبو ظبي، وفي الوقت نفسه موازنة نفوذ قطر داخل البلاد.
ويمثّل هذا الاتفاق أيضاً إشارة واضحة إلى أنّ الحكومة الإماراتية لم تعد تعتبر طالبان نظاماً منبوذاً. وعلى الرغم من أنّ انتقادات أبو ظبي لسياسات الإدارة الأفغانية القمعية بحقّ النساء وحرمانهنّ من حقوقهنّ في العمل والتعليم، إلًا أنّ ذلك لم يمنع تطوّر العلاقات بين الجانبين. ففي أغسطس 2024، على سبيل المثال، قبلت الإمارات العربية المتّحدة أوراق اعتماد سفير طالبان، لتصبح بذلك ثاني دولة في العالم بعد الصين التي تتّخذ هذه الخطوة.
سعي طالبان إلى الشرعية
يُعزى هذا التطوّر الفريد في العلاقات الثنائية إلى مزيج من الدوافع الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية لدى لطرفين. فبعد ثلاث سنوات من عودة حركة طالبان إلى كابول، لا تزال معزولة دبلوماسياً وتسعى للتواصل مع مختلف الجهات الخارجية لاكتساب الشرعية السياسية، وتتجنّب إظهار العداء لأي طرف دولي باستثناء باكستان. ومن شأن إقامة علاقة ثنائية قوية مع الإمارات العربية المتّحدة أن تحقّق لها مكاسب سياسية واقتصادية كبيرة.
إلى ذلك، تستضيف الإمارات العربية المتّحدة جالية أفغانية كبيرة تشكّل مصدراً رئيساً للتحويلات المالية التي تمثّل شريان حياة لاقتصاد أفغانستان. وينحدر الكثير من أفراد هذه الجالية من معاقل طالبان في جنوب أفغانستان وجنوب شرقها. وبعد أن أوقفت الإمارات العربية المتّحدة إصدار التأشيرات الجديدة للأفغان، أُبرِم اتفاق في يونيو 2024 لاستئناف إصدارها، ما يشير إلى أنّ جهود طالبان في التواصل مع الإمارات العربية المتّحدة بدأت تؤتي ثمارها. كما أنّ تحسّن العلاقات قد يفتح الباب أمام مجتمع رجال الأعمال الأفغان الكبير في الإمارات العربية المتّحدة، الذي يملك أصولاً بمليارات الدولارات، للاستثمار في وطنهم. ومن الجدير بالذكر أنّ هذا يتناقض بشكل واضح مع قطر، التي تستضيف عدداً محدوداً من الأفغان ولا تربطها روابط اقتصادية تُذكر بأفغانستان.
تساهم العلاقات بين طالبان والإمارات العربية المتّحدة بتعقيد الصراع على النفوذ داخل الحركة. فزعيم طالبان الأعلى، الملا هبة الله أخوند زاده، المقيم في قندهار، يواجه صراعاً مع خصومه في كابول، وعلى رأسهم وزير الداخلية سراج الدين حقاني، الذي يقود أيضاً الفصيل شبه المستقلّ المعروف داخل طالبان بـ «شبكة حقاني». وتجلّت هذه التوترات في تعيين أحد الموالين لأخوند زاده حاكماً لولاية خوست، التي تُعدّ معقلاً لشبكة حقاني. وفي هذا السياق، تعكس زيارات حقاني المتكرّرة للقاء كبار المسؤولين الإماراتيين – على الرغم من العقوبات المفروضة عليه من مجلس الأمن الدولي – سعيه الحثيث لتعزيز مكانته السياسية داخلياً ولبحث عن دعم خارجي. وتجدر الإشارة إلى أنّ الكثير من الأفغان المقيمين في الإمارات ينحدرون من المناطق الجنوبية الشرقية الريفية، حيث تتمتّع شبكة حقاني بنفوذ قوي.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ القيادة الإماراتية كانت قد تواصلت مع جلال الدين حقاني، مؤسّس الشبكة والد سراج الدين، في فترة الجهاد الأفغاني. وعلى مرّ السنوات، طوّرت الشبكة تدرّجياً منظومة لجمع التبرّعات في الإمارات العربية المتّحدة، إلّا أنّ هذه الأنشطة تراجعت بشكل ملحوظ بعد هجمات 11 سبتمبر، وفي العام 2014 أدرجت السلطات الإماراتية الشبكة على قائمتها السوداء. ومع ذلك، فإنّ السفير الحالي لطالبان لدى الإمارات العربية المتّحدة ينتمي إلى شبكة حقاني، ما يعكس الطابع الشخصي لهذه العلاقات.
الطموحات الإماراتية
من المنظور الإماراتي، يعدّ هذا الانخراط البراغماتي مع طالبان أمراً بالغ الأهمّية لأسباب متعدّدة. تمكّنت الإمارات العربية المتّحدة، من خلال استغلال نفوذها الاقتصادي وعلاقاتها التاريخية، من تحقيق مكاسب سياسية كبيرة في أفغانستان. وتوفّر لها علاقاتها بشبكة حقّاني، بالإضافة إلى انتقادات الشبكة لزعيم طالبان المتشدّد، قناة اتّصال جوهرية مع كيان براغماتي وقوي داخل الحكومة الأفغانية. فضلاً عن ذلك، لم تكن شبكة حقاني ضمن دائرة اهتمام قطر، التي سهّلت المفاوضات بين الولايات المتّحدة وطالبان لتمهيد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. ومن هذا المنطلق، تعكس المقاربة الإماراتية محاولة لبناء روابط سياسية واقتصادية إستراتيجية تُترجَم إلى نفوذ دبلوماسي. وقد يتيح ذلك للإمارات العربية المتّحدة الاستفادة من علاقاتها مع الأطراف المحلّية لتصبح وسيطاً رئيساً لشركائها الغربيين.
وتتماشى علاقات الإمارات العربية المتّحدة مع طالبان كذلك مع مقاربتها القائمة على بناء شبكة دبلوماسية واسعة، إذ تسعى إلى تطوير علاقات مع مختلف الجهات الفاعلة في الدول الأخرى بغض النظر عن الفروقات السياسية والأيديولوجية. وتظلّ أفغانستان نقطة محورية للارتباط بآسيا الوسطى، فأيّ طموح إماراتي لتعزيز النفوذ في هذه المنطقة لن يكتمل من دون موطئ قدم في البلاد. وفي هذا الإطار، أبرمت شركة موانئ دبي العالمية العملاقة للخدمات اللوجستية شراكة مع المؤسّسة الوطنية للخدمات اللوجستية الباكستانية المملوكة للدولة لنقل البضائع التجارية من مدينة كراتشي الساحلية إلى آسيا الوسطى. وهو مشروع يمكن أنّ تستفيد منه الإمارات عبر تعزيز علاقاتها مع مسؤولي طالبان لضمان سلاسة تدفّق التجارة عبر هذا الممرّ الحيوي.
كما رسّخت الإمارات العربية المتّحدة مكانتها كوسيط أساسي في التفاعلات السياسية لجنوب آسيا مع طالبان. وقد تجلّى ذلك عندما اختار وزير الخارجية الأفغاني دبي لعقد اجتماع مع نظيره الهندي في يناير 2025، وهو لقاء يُعتقد أنّ السلطات الإماراتية قامت بتسهيله. وتشير تقارير أخرى إلى أنّ الإمارات العربية المتّحدة تسعى للتوسّط بين طالبان وباكستان، التي تشهد علاقتها مع الحركة توتّراً مستمرّاً بسبب وجود مقاتلي «تحريك طالبان باكستان» في أفغانستان، وتصاعد هجماتهم على قوات الأمن الباكستانية.
يسهم انخراط الإمارات العربية المتّحدة مع مسؤولي طالبان في تعزيز مكانتها الإستراتيجية، في وقت تقتصر فيه قلّة من الأطراف الدولية على النفوذ داخل أفغانستان. وقد يكون لهذا الأمر أهمّية خاصّة بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية، إذا رغبت في فتح قنوات اتصال منفصلة مع شبكة حقاني. ومع ذلك، لا يزال زعيم طالبان الأعلى يتمتّع بقضبة قوية على السلطة، ولم يتمكّن معارضوه بعد من تشكيل تهديد جدّي لحكمه أو سياساته. وهو ما قد يحدّ من قدرة الإمارات العربية المتّحدة على التأثير في المشهد الأفغاني.