إلى أين تتّجه سوريا الجديدة؟

بعد الانهيار المفاجئ لنظام الأسد، تحتاج الدولة الفاشلة والاقتصاد المنهار إلى إعادة بناء من الصفر.

7 يناير، 2025
ناصر السعيدي

ترافقت كتابة التاريخ في سوريا على مدى الشهر الماضي مع تردّد أصداء صدمات زلزالية في جميع أنحاء المنطقة. بداية، شهد العالم الانهيار الأخير لاتفاقية سايكس-بيكو المنبثقة عن الحرب العالمية الأولى، والتي وصفها أحد المؤرّخين ساخراً بأنّها «سلام لإنهاء كلّ السلامات». والمفارقة الأبرز أنّ الطرفين الموقّعَين على تلك الاتفاقية القديمة، أي بريطانيا العظمى وفرنسا، حضرا اجتماعاً في 14 ديسمبر الماضي مع تركيا – وريثة الإمبراطورية العثمانية التي مزّقتها اتفاقية سايكس-بيكو – إلى جانب الولايات المتّحدة وألمانيا ودول عربية، للتداول بشأن مستقبل سوريا والخريطة الجديدة للمنطقة.

 

المسألة التالية المُقلقة هي انهيار «محور المقاومة» وطموحات إيران الجيوإستراتيجية ومحاولاتها توسيع قوّتها إقليمياً. وهذا ما أدّى إلى انهيارات اقتصادية ومالية في جميع البلدان المعنية، من ضمنها العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، فضلاً عن إيران نفسها.

 

ثالثاً، ينهي انهيار نظام الأسد آخر الاقتصادات الاشتراكية الموجّهة في المنطقة العربية، والتي فشلت في الوصول إلى نمو اقتصادي مستدام وتحقيق التنمية، بل خلقت بلداناً هشّة وضعيفة. مع بداية الربيع العربي، قمع نظام الأسد الاستبدادي الإصلاحات السياسية بعنف، ما أدّى إلى دورة من العنف، ودمّر الاقتصاد والمؤسّسات، وأشاع الفساد والتطرّف، وقسّم البلاد. والآن، انضمّت دولة جديدة إلى مصافي الدول الفاشلة في حوض البحر الأبيض المتوسّط إلى جانب ليبيا ولبنان.

 

هل يمكن لسوريا جديدة أن تنبثق من رماد الانهيار العسكري والاقتصادي والمالي والسياسي؟ التحدّيات كبيرة.

 

بين عامي 2010 و2023، انكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لسوريا بنسبة 84 في المئة في جميع القطاعات بحسب البنك الدولي. وكان هذا الانهيار بسبب العنف العسكري، وتدمير البنية التحتية، والجفاف، ونزوح السكان، وعدم استقرار الاقتصاد الكلّي، وانهيار الاستثمارات والتجارة. فقد انخفضت الصادرات إلى مليار دولار في العام 2023 بالمقارنة مع 8,8 مليار دولار في العام 2010، وسط عزلة دولية مُتزايدة. بحلول العام 2023، انهارت الليرة السورية بأكثر من 300 في المئة، ووصلت إلى 14,122 ليرة سورية مقابل الدولار بالمقارنة مع 47 ليرة سورية في العام 2011. وتسارع الانكماش الحادّ في الناتج المحلّي الإجمالي في خلال الحرب الأهلية بعد فرض قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين في العام 2019، وهو نظام عقوبات أمريكي يستهدف الذين يتعاملون مع حكومة الأسد، وقد تسبّب، إلى جانب العقوبات الدولية التي فرضها الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، في ارتفاع التضخّم إلى 115 في المئة في العام 2023. ومع العزلة المُتزايدة وغياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية، أصبحت سوريا تعتمد بشكل متزايد على إيران. وتوسّع الاقتصاد غير الرسمي مدفوعاً بالتهريب وتجارة المخدّرات، ولا سيما الكبتاغون، التي درّت نحو 10 مليارات دولار سنوياً، وسيطرت عليها في الغالب أجهزة الأمن والجيش وحلفاء الأسد.

 

 

خريطة طريق لسوريا جديدة

 

إذاً، ما هي الركائز الأساسية لسوريا جديدة؟ في ظل هذا العدد الكبير من التحدّيات، يتطلّب الأمر انتقالاً مُتكاملاً إلى حكم ديمقراطي يرتكز على إصلاحات هيكلية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبداية، لابدّ من وقف العنف واستعادة الأمن لضمان وحدة أراضي سوريا، فضلاً عن إعطاء الأولوية للتعدّدية السياسية لإشراك المجموعات العرقية والدينية المتنوّعة في سوريا. وهذا يتطلّب صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرّة، وتشكيل حكومة إصلاحية تعمل على تفكيك ركائز مؤسّسات حزب البعث، وإرساء سيادة القانون، وتضميد الجراح العميقة للشعب السوري عبر إنشاء هيئة «الحقيقة والمصالحة»، بهدف تحقيق المساءلة.

 

في البداية، يجب وقف العنف واستعادة الأمن لضمان وحدة أراضي سوريا، بالإضافة إلى إعطاء الأولوية للتعددية السياسية التي تشمل المجموعات العرقية والدينية المتنوعة في البلاد. وهذا يتطلب صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة، وتشكيل حكومة إصلاحية تعمل على تفكيك ركائز مؤسسات حزب البعث، وتأسيس سيادة القانون، وكذلك تضميد الجراح العميقة للشعب السوري من خلال إنشاء هيئة للمصالحة والحقيقة، بهدف تحقيق المساءلة.

 

ثانياً، يشكّل تأمين المساعدات الإنسانية أولوية، إلى جانب إنشاء صندوق لتمكين عودة وإعادة توطين نحو 7,2 مليون نازح داخلي وأكثر من 6 ملايين لاجئ.

 

ثالثاً، تتراوح تقديرات تكلفة إعادة إعمار سوريا وتنميتها بين 400 و600 مليار دولار، وهي ضرورية لإعادة بناء البنية التحتية بعد تدمير الكثير من أنظمة الصحّة والتعليم والمياه والنقل والطاقة في سوريا، إلى جانب القطاعات الإنتاجية. لقد تعرّضت مدن سوريا – من ضمنها حلب وحمص وحماة وداريا ودير الزور – لعمليات إبادة حضرية منهجية، ما أدّى إلى نزوح سكاني وانهيار اقتصادي واجتماعي. وستبرز الحاجة إلى مساعدات دولية ومنح وحزم مالية لإعادة الإعمار والتنمية، كما يجب إلغاء الديون الكثيرة التي راكمها نظام الأسد، فضلاً عن رفع العقوبات الدولية. وكذلك يمكن تسخير الموارد الطبيعية الكبيرة في سوريا، من ضمنها النفط والغاز والفوسفات، لدعم تمويل إعادة الإعمار، مع إنشاء بنية تحتية لخطوط أنابيب الطاقة تربط سوريا بدول مجلس التعاون الخليجي.

 

رابعاً، يتطلّب بناء اقتصاد سوري حديث تفكيكاً جذرياً للاقتصاد الموجّه وكذلك للمؤسّسات المملوكة للدولة والمؤسّسات الحكومية الفاسدة والخاضعة للسيطرة السياسية، ما يسمح بعودة القطاع الخاص. بدورها، تتطلّب إعادة بناء الاقتصاد السوري وتنميته إعادة هيكلة المؤسّسات، مع إصلاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية والنقدية والمالية والضريبية والتجارة الخارجية والاستثمار من أجل جذب رأس المال المحلّي والأجنبي، بما فيه أموال المغتربين، نحو إعادة الإعمار والتنمية.

 

خامساً، تتطلّب إعادة بناء الاقتصاد السوري وتنميته إعادة دمج البلاد سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً ومالياً في الاقتصاد الإقليمي والدولي، وتعميق الروابط مع دول مجلس التعاون الخليجي.

 

لا بدّ من إعادة بناء سوريا جديدة من الصفر لإبطال 61 عاماً من الدمار والانكماش والحكم الاستبدادي والفساد المستشري وسوء الإدارة. إنّ الفشل في ضمان انتقال مُتكامل يشمل الأبعاد السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية لسوريا الجديدة قد ينعكس على المنطقة بأسرها ويزعزع استقرارها. لقد فشلت عمليات بناء الدولة في أفغانستان والعراق وليبيا والسودان، والمنطقة بأكملها على المحكّ ولا تتحمّل فشلاً آخر.

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاقتصاد السياسي، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
البلد: سوريا

المؤلف

رئيس شركة ناصر السعيدي وشركاه، وزير سابق للاقتصاد والتجارة والصناعة في لبنان