افتتاحية المحرّر
عمر حسن عبدالرحمن، زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة
تظلّ أهمية الرأي العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا موضوعاً مطروحاً للنقاش وغالباً ما يُساء فهمه. ففي ظل هيمنة الأنظمة السلطوية، تبقى أدوات قياس المشاعر الشعبية محدودة وحرية التعبير والصحافة مقيّدة. ويؤكّد الإفراج عن آلاف السجناء السياسيين من سجن صيدنايا في سوريا في الأيام الأخيرة على أنّ الشارع ليس مكاناً آمناً للتعبير السياسي في المنطقة، وبالتالي، فإنّ غياب الاحتجاج لا يعني بالضرورة غياب الاعتراض.
ومع ذلك، لا تلغي الفجوة بين الرأي العام وسياسة الحكومة أهميّة الرأي العام، وتحديداً في سياق التطوّرات العميقة والمثيرة للقلق التي شهدناها على مدار الأشهر الأربعة عشر الماضية. فقد نقلت الشاشات في جميع أنحاء العالم فظائع الإبادة الجماعية التي لا تزال إسرائيل ترتكبها بحق المدنيين في غزة حتى يومنا هذا. ويشهد الشباب في المنطقة وحول العالم على أشكال العنف الأكثر تطرّفاً التي يمكن تصوّرها، في ظلّ تعذّر حكوماتهم والنظام الدولي عن إيقافها أو عدم رغبتها في ذلك، وتورّط قوى غربية لطالما حملت لواء حقوق الإنسان في ارتكابها. ونحن الآن نشهد على تشكيل فهم جديد للعالم بطرق لا يمكننا استيعابها بعد.
لا شكّ في أنّ التحوّلات في الرأي العام وتفاقم حالة الغضب والنفور هي كلّها حقيقة واقعة، حتى وإن لم تكن ردود الفعل فوريّة. وسيظهر تسييس الناس أو تطرّفهم في مرحلةٍ ما في المستقبل.
ولتسليط الضوء على هذا الموضوع، دعت أفكار عدداً من الخبراء للتعمّق في تحوّلات الرأي العام على مدى العام الماضي وما يمكن أن تعنيه بالنسبة إلى المنطقة اليوم وفي المستقبل.
عدوّ عدوّي صديقي
مايكل روبينز، مدير ومحقق رئيسي مشارك في الباروميتر العربي
على مدار العقد الماضي، برزت الصين كقوة فاعلة رئيسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيماً من خلال مبادرة الحزام والطريق، ما ولّد في البداية مواقف إيجابية للغاية لدى الرأي العام تجاهها. إلّا أنّه مع تعمّق العلاقات ووضوح نطاق المشاركة، بدأت هذه النظرة الإيجابية تجاه الصين تتراجع تدريجياً.
إلّا أنّ الأشهر الأربعة عشر الماضية شهدت تحوّلاً كبيراً، إذ تعزّزت الآراء الداعمة للصين بشكل ملحوظ في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر 2023. ولم يأتِ هذا التغيير نتيجة جهود بذلتها الصين لتحسين صورتها، بل كان إلى حدّ كبير انعكاساً لنظرة سلبية متزايدة تجاه الولايات المتحدة، ما دفع الجماهير العربية إلى البحث عن بدائل، أبرزها الصين.
وعندما أطلقت إسرائيل حملتها العسكرية على غزة عقاب هجمات حماس في السابع من أكتوبر، أعلن الرئيس جو بايدن دعمه “القوي” لإسرائيل. ومع تزايد القصف على غزة، تزايدت المواقف السلبيةفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تجاه الولايات المتحدة. وصادف أنّ الباروميتر العربي كان يجري استطلاعاً في تونس في الأسابيع الثلاثة التي سبقت أحداث السابع من أكتوبر والأسابيع الثلاثة التي تلتها. وأظهرت النتائج أنّ نسبة التفضيل للولايات المتحدة في تونس انخفضت بشكل حاد من 40 في المئة قبل السابع من أكتوبرإلى 10 في المئة فقط بحلول الـ27 من الشهر نفسه، في حين ظلّت الآراء تجاه الصين مستقرّة نسبياً.وقد أكّدت استطلاعات الرأي التي أُجريت في الأشهر التالية استمرار الانخفاض في تفضيل الولايات المتحدة، حيث تراجعت نسب التأييد في الأردن وموريتانيا ولبنان والعراق بين 23 و7 نقاط مقارنة بما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر مباشرة. في المقابل، شهدت الصين ارتفاعاً في نسبة التأييد في هذه الدول تراوح بين 6 و16 نقطة، باستثناء موريتانيا التي لم تسجّل أي زيادة.
وتشير نتائج الاستطلاع إلى أنّ هذه الزيادة المفاجئة في تفضيل الصين لا تبدو مرتبطة مباشرة باستجابتها للصراع في غزّة. فقد تضمّنت الاستطلاعات التي أجراها الباروميتر العربي بعد السابع من أكتوبر، سؤالاً حول الدول التي يعتبرها المشاركون الأكثر التزاماً بالدفاع عن حقوق إسرائيل أو الفلسطينيين. وأظهرت النتائج أنّ ما لا يقل عن 60 في المئة من المشاركين في الدول المشمولة بالاستطلاع يعتبرون أنّ الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن حقوق إسرائيل، في حين لم تتجاوز نسبة من يعتبرون أنّ الصين ملتزمة بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين 14 في المئة كحدّ أقصى، في حين لم يعتبر أكثر من 13 في المئة أنّها ملتزمة بالدفاع عن حقوق إسرائيل. وعليه، اعتُبِرت الولايات المتحدة متحيّزة للغاية في هذا الصراع، في حين اعتُبِرت الصين فعلياً طرفاً محايداً.
ونظراً لتراجع وجهات النظر بشأن الصين بين العامين 2019 و2022، يتّضح أنّ الزيادة المفاجئة في الدعم لها يعود بشكل رئيسي إلى كونها المنافس الأبرز للولايات المتحدة. بعبارة أخرى، يتبنّى الجمهور العربي منطق “عدوّ عدوّي صديقي”. ومع مواصلة الصين تعزيز وجودها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من المتوقّع أن تحظى بترحيب شعبي أكبر. وعلى الرغم من انتشار الأنظمة السلطوية في المنطقة، تبقى آراء الجمهور العربي مؤثّرة في هذه المنافسة العالمية. وقد ينظر عدد من القادة إلى هذا الترحيب الشعبي باعتباره فرصة لا لتعزيز الاستثمار الأجنبي من الصين فحسب، بل أيضاً لتلبية تطلّعات مواطنيهم على هذا الصعيد. على سبيل المثال، شكّلت الزيارة الرسمية الأخيرة للرئيس شي جين بينغ إلى المغرب، الحليف التقليدي للولايات المتحدة، خطوة تاريخية باعتبارها الأولى من نوعها يقوم بها زعيم صيني، وجاءت في سياق تعزيز العلاقات بين البلدين. وتستفيد بكين من هذه المشاعر الشعبية الإيجابية في مختلف أنحاء المنطقة، وتسعى إلى استثمارها لتعزيز موقعها في إطار منافستها العالمية مع واشنطن.
المحور لا يزال يواجه المعارضة
حميد رضا عزيزي ، زميل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة
أودت الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة بحياة عشرات الآلاف، معظمهم من المدنيين، وتسبّبت في نزوح ملايين آخرين. وقد تركت هذه الأزمة تأثيراً عميقاً في الرأي العام العربي والإسلامي، ما أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الإقليمي. ومن هذا المنطلق، حاول قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الذين أعلنوا منذ الثورة الإسلامية في العام 1979 عن دعمهم الراسخ للقضية الفلسطينية وقيادتهم لـ”محور المقاومة” ضدّ إسرائيل، استغلال هذا التحوّل لتعزيز صورتهم ونفوذهم في المنطقة. ومع ذلك، ورغم مرور أكثر من عام على اندلاع الحرب، لا يزال الرأي العام الإقليمي تجاه إيران متفاوتاً وغير ثابت.
وكشف استطلاع أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في يناير 2024، شمل 8 آلاف مستجيب في 16 دولة عربية، أنّ 48 في المئة من المشاركين اعتبروا موقف إيران من الحرب الإسرائيلية على غزة إيجابياً، فيما رأى 37 في المئة منهم أنّه سلبيّ. ويُعدّ ذلك تحوّلاً عن الاتجاهات السائدة بعد الربيع العربي، حيث كانت الآراء تجاه إيران سلبية في الغالب. وفي السياق نفسه، أبرز الاستطلاع تراجعاً ملحوظاً في صورة الولايات المتحدة لدى الجمهور العربي.
وعلى الرغم من هذه التحوّلات الأولية، تشير الاستطلاعات اللاحقة إلى أنّ التغييرات في التصوّر العام لدور إيران الإقليمي لم تكن كبيرة ولا دائمة كما كانت طهران تأمل. وكشف تقرير الباروميتر العربي الصادر في يوليو 2024 أنّ الآراء الإيجابية تجاه إيران في الكويت والأردن وفلسطين ولبنان ظلّت منخفضة، حيث تراوحت نسبتها بين 15 و36 في المئة. علاوة على ذلك، اعتبرت الأغلبية في هذه البلدان أنّ نفوذ إيران السياسي وبرنامجها النووي تهديدان كبيران للأمن القومي.
وحتى في صفوف الفلسطينيّين، باتت وجهات النظر حول إيران متقلّبة. إذ أظهر استطلاع للرأي أجري في سبتمبر 2024 بين سكان من الضفة الغربيّة وغزّة انخفاضاً بنسبة 16 نقطة في مستوى الرضا عن أداء إيران. ويُعزى هذا الانخفاض بشكلٍ كبير إلى فشل إيران في الردّ على اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على الأراضي الإيرانية في أواخر يوليو. وحتى بعدما شنّت إيران لاحقاً غارة على إسرائيل في الأوّل من أكتوبر ردّاً على مقتل هنية وأمين عام حزب الله حسن نصر الله، ظلّ الرأي العام الفلسطيني منقسماً. فقد رأت نسبة 49 في المئة من الفلسطينيين أنّ الهجوم سيدعم قضيّتهم، بينما توقّع 47 في المئة منهم عواقب سلبيّة.
وتشير هذه النتائج إلى أنّ جهود إيران لدعم “محور المقاومة” وتصريحاتها العلنية المؤيّدة للقضية الفلسطينية لم تودِّ إلى تحسّن ملموس أو ثابت في مكانتها لدى الرأي العام العربي. ويُعزى ذلك إلى عوامل مثل الاختلافات الطائفية والتصوّر السائد بأنّ إيران تستخدم دعمها لفلسطين كغطاء لتعزيز طموحاتها الإقليمية، ما يزيد من الشكوك حول نواياها ودورها في المنطقة.
وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في تضليل الرأي العام
مارك أوين جونز، زميل أول غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة
لا تعدّ وسائل التواصل الاجتماعي مؤشّراً دقيقاً لاتجاهات الرأي العام. وينبع هذا المفهوم الخاطئ جزئياً من سهولة الوصول إليها، حيث يمكن لأي شخص متّصل بالإنترنت إنشاء حساب ومشاركة آرائه. ومع ذلك، عوامل مهمّة متعدّدة تجعل من الصعب الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي كمقياس موثوق للمشاعر العامة.
ولعلّ الأهم من ذلك أنّ منصات التواصل الاجتماعي ليست متساوية. فلكلّ منصّة خصائص تقنية فريدة توثّر في طريقة تفاعل المستخدمين وتعبيرهم عن آرائهم. مثلاً، يشجّع الحدّ الأقصى لعدد الأحرف في منصة “إكس” (تويتر سابقاً) على نشر عبارات موجزة قد تكون غير دقيقة، بينما يركّز تطبيق “إنستغرام” على المحتوى البصري، الأمر الذي لا يشجّع بالضرورة على مناقشات معمّقة في قسم التعليقات. وتساهم هذه الاختلافات البنيوية في إنتاج تفاعلات خاصة بكل منصة، ما يجعل من الصعب استخدامها لجمع بيانات تمثيلية حول قضايا محدّدة.
وتساهم ديناميّات القوة داخل شبكات التواصل الاجتماعي في تشويه التمثيل بشكل كبير، حيث يتراكم التأثير حول شخصيّات معيّنة، سواء من المشاهير أو السياسيين أو المؤثّرين، ما يؤدّي إلى إنشاء غرف صدى تضخّم وجهات نظر معيّنة وتهمّش أخرى. ويزداد تركيز الانتباه هذا تعقيداً بسبب خوارزميات المُلكية التي تحدّد مدى رؤية المحتوى، والتي غالباً ما تعطي الأولوية للتفاعل والمحتوى العاطفي على الدقة الواقعية. فاستحواذ إيلون ماسك على منصة “إكس”، وتعزيز تغريداته وتغريدات المستخدمين الذين يتّفق مع آرائهم، خير دليلٍ على ذلك، كما هو الحال مع الرقابة التي تفرضها “ميتا” على المحتوى المؤيّد للفلسطينيين.
وتُعدّ الخصائص الديموغرافية لمنصات التواصل الاجتماعي نوعاً آخر من التشويه. ويختلف الاستخدام بشكل كبير بحسب العمر ومستوى التعليم والوضع الاجتماعي والاقتصادي. تبدو الفئات السكانية الأصغر سناً والأكثر حضرية والأكثر تعليماً ممثّلة تمثيلاً زائداً بين المستخدمين، في حين قد تكون فئات معيّنة، وخاصة كبار السن والسكان الريفيّين، ممثّلة تمثيلاً ناقصاً إلى حدّ كبير. وتنطبق هذه الخصائص على تفضيلات المنصات، حيث تتواجد الفئات الأكبر سناً على “فيسبوك” أكثر فيما يفضّل مستخدمون في بلدان مختلفة منصّات أخرى.
ولعلّ الأمر الأكثر إثارة للقلق هو التلاعب بهذه الأنظمة من خلال الروبوتات وشبكات التصيّد وحملات التأثير المنسّقة التي تقوم بها الدول أو الجهات الفاعلة الأخرى. على سبيل المثال، تشير دراسة أُجريت في العام 2020 أنّ ربع التغريدات حول أزمة المناخ تمّ نشرها بواسطة الروبوتات بمعدّل يومي. فسهولة إنشاء حسابات مجهولة الهوية والافتقار إلى أنظمة التحقّق القوية تصعّب عمليّة التمييز بين الخطاب العام الحقيقي والتضخيم الاصطناعي. كما أنّ تحقيق الربح عبر المنصات يشجّع المؤثّرين على قبول أموالاً مظلمة للترويج لسياسات معيّنة.
وتضيف طبيعة منصّات التواصل الاجتماعي العالمية مزيداً من التعقيد إلى علاقتها بالرأي العام، حيث غالباً ما تتجاوز الآراء المعبّر عنها على هذه المنصّات الحدود المحلّية، ما يجعل من الصعب فصل الرأي العام المحلّي عن التأثير العالمي. ويعتبر فهم هذه القيود ضرورياً لواضعي السياسات والباحثين والمواطنين الذين يسعون إلى قياس المشاعر العامة. وفي حين قد تقدّم وسائل التواصل الاجتماعي رؤى قيّمة حول بعض جوانب الخطاب العام، إلّا أنّه يجب النظر إليها كعنصر واحد ضمن منظومة أوسع تشمل مؤشّرات اخرى، مثل استطلاعات الرأي التقليدية ومجموعات التركيز والمشاركة المجتمعية.
لماذا تراجع التأثير الأوروبي في الجنوب العالمي
دالية غانم، زميلة أولة ومديرة برنامج في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة
تعيد القوى الصاعدة، مثل الصين والتي تتحدّى الهيمنة الغربية التقليدية، تشكيل المشهد الجيوسياسي العالمي. ويظهر هذا التحوّل بشكل خاص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يجد الاتحاد الأوروبي صعوبة في الحفاظ على مكانته، وخاصة بين شركائه العرب التقليديين. ويُعزى هذا التراجع إلى عوامل متعدّدة، أهمّها التصوّر السائد بضعف سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجيّة وافتقارها إلى التماسك الإستراتيجي.
ويعود هذا التصوّر بالضعف إلى ما قبل الحرب الإسرائيلية المستمرّة على غزة. فقد كشف استطلاع للرأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) وجامعة أكسفورد في العام 2023 أنّ العالم يرى أنّ الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى القوة الصارمة وأنّ قدرته على إظهار القوة غير مؤثّرة. ويتفاقم ذلك بسبب الجمود البيروقراطي والتفرّد باتخاذ القرارات، ما يعوّق قدرة الاتحاد الأوروبي على الاستجابة للأحداث العالمية بشكلٍ سريع وحاسم.
وقد قوّض موقف الاتحاد الأوروبي المتناقض بشأن الحرب مصداقيته. ففي حين أدان عدد من الدول الأعضاء تصرّفات إسرائيل، تردّدت دول أخرى ولا تزال متردّدة في إدانتها على الرغم من حملة الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل، ما كشف عن الخلافات الداخلية. وعلى الرغم من استجابة الاتحاد الأوروبي القوية والموحّدة للحرب في أوكرانيا، إلّا أنّ معاييره المزدوجة بشأن غزّة أضرّت بسمعته في العالم العربي وخارجه. وقد يكون الضرر طويل الأمد وربما لا يمكن إصلاحه، حتى ولو كان البعض في بروكسل يعتقد أنّ العلاقات مع الشركاء العرب ستعود ببساطة إلى “الوضع الطبيعي” بعد الحرب. وتهدّد الفجوة بين الإجراءات التي يتّخذها الاتحاد الأوروبي وتوقّعاته تجاه شركائه في الجنوب العالمي باستقصاء حلفائه الرئيسيين وتقليص نفوذه على الساحة العالمية أكثر فأكثر.
ويُضاف إلى التحدّيات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي بروز جهات فاعلة جيوسياسية جديدة، وتحديداً الصين، التي حقّقت نجاحات كبيرة في الشرق الأوسط من خلال استثماراتها الإستراتيجية ودبلوماسيتها الحازمة. ويتناقض نجاح بكين في التوسّط في اتفاق التقارب بين إيران والسعودية في العام 2023 ودعمها الصريح لوقف إطلاق النار في غزّة بشكل كبير مع الغموض الملحوظ والانقسامات الداخلية في الاتحاد الأوروبي. ونتيجة لذلك، يعتبر الكثيرون في الجنوب العالمي أنّ الصين شريك أكثر موثوقية ونفوذاً.
ولا بدّ أن يعالج الاتحاد الأوروبي انقساماته الداخلية ويعتمد سياسة خارجية أكثر تماسكاً وحزماً، في حال أراد استعادة مصداقيته ومكانته. ولبلوغ هذا الهدف، لا بدّ من إعطاء الأولوية للعمل الجماعي على المصالح الوطنية والتعامل مع دول الجنوب العالمي بشروطها الخاصة، والاعتراف بآراء شركائه وأولوياتهم المختلفة. وسؤدّي فشله في ذلك أكثر فأكثر إلى تهميشه على الساحة العالمية والتقليل من قدرته على تشكيل نظام عالمي يعكس قيمه ومصالحه.
الرأي العام بشأن غزة يشير إلى نقطة تحوّل إقليميّة
ياسمينة أبو الزهور، زميلة غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة
لا تزال الحرب على غزة تهيمن على الخطاب العام في أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد مرور أكثر من عام على اندلاعها. تكشف بيانات الاستطلاعات التي جمعها الباروميتر العربي من الأردن والكويت ولبنان وموريتانيا والمغرب وفلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية) وتونس بين العامين 2023 و2024 عن مخاوف مشتركة تجاه وضع الفلسطينيين، وتشاؤم بشأن آفاق السلام، وتراجع الثقة في جهود الوساطة القائمة.
ما هي آراء المواطنين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيال الأحداث الجارية؟ يرى 81 في المئة من المشاركين أنّ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يشكّل تهديداً لمصالح الأمن القومي. ويعتبر 64 في المئة من المشاركين أنّ الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ العام 2007 هو عمل إرهابيّ، ويرى أكثر من 78 في المئة من المشاركين أنّ حملات القصف الإسرائيلية على غزة هي عمل إرهابي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى 73 في المئة من الشماركين بشأن قطع إسرائيل لإمدادات الكهرباء والمياه، و63 في المئة بشأن تهجيرها القسري لأكثر من مليون مدني.
ولكن ما هي آفاق تحقيق السلام؟ تسود في جميع أنحاء المنطقة حالةٌ من الشكّ حول جدوى حلّ الدولتين، حيث يشكّك 71 في المئة من المشاركين في التزام الحكومة الإسرائيلية بهذا القرار، بينما يشكّك 32 في المئة منهم في التزام القيادة الفلسطينية به. وتتفاقم حالة الشكّ هذه بسبب الاستياء الشديد من القيادة الفلسطينية، إذ يعتبر 60 في المئة من الفلسطينيين السلطة الفلسطينية عبئاً، فيما يؤيّد 78 في المئة استقالة الرئيس محمود عباس.
من هي الجهة القادرة على حلّ الصراع؟ تنخفض الثقة في جهود الوساطة على المستويات كافة. إذ يعتقد 5 في المئة فقط من المشاركين أنّ الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن حقوق الفلسطينيّين. ولا يتجاوز هذا الرقم الـ6 في المئة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وتبدو خيبة الأمل العامة إزاء الجهود الدبلوماسية السابقة واضحة، إذ اعتبر أقلّ من 17 في المئة من المشاركين أنّ أطرافاً مختلفة قد تشكّل وسيطاً مناسباً لحلّ سياسي عادل. وتوحي قطر (27 في المئة) والأمم المتحدة (22 في المئة) بثقة أكبر، ربما بسبب جهودهما الإنسانية ودفاعهما الصريح عن حقوق الفلسطينيّين.
ترسم هذه النتائج صورة واضحة: في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يفاقم الصراع في غزة خيبة الأمل في الدبلوماسية ويزيد من انعدام الثقة في الوسطاء. ومع ارتفاع الخسائر الإنسانية، تتعالى الدعوات من أجل وساطة فعّالة. والسؤال المطروح هو من هي الجهة التي ستؤدّي هذا الدور في وقت تشتدّ الحاجة فيه إلى مقاربة جديدة لإيجاد حلّ لهذه الأزمة.
مصر بين الدعم الشعبي والمصالح الاقتصادية
أحمد مرسي، زميل زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة
مع استمرار الإبادة الجماعية في غزة على الحدود المصرية والتهديد بنزوح جماعي للفلسطينيين إلى سيناء، يبدو أنّ مصر تعيش وطأة الحرب على غزّة أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة.
وعلى الرغم من غياب استطلاعات رأي موثوقة في مصر، إلّا أنّه من غير المرجح أن يتضاءل الدعم الشعبي لفلسطين في ظلّ الجرائم الوحشية التي ترتكبها إسرائيل وتُبثّ يومياً، خاصة وأنّ المصريين لم يرحّبوا يوماً بمعاهدة السلام التي وقّعتها مصر مع إسرائيل في العام 1979. لطالما شكّلت القضية الفلسطينية محور إجماع شعبيّ على مرّ السنين، ما يجعل النظام مدركاً أنّ السماح بأي تجمّع لدعم فلسطين، مهما صغر حجمه، قد يتصاعد ويهدّد سيطرته. على سبيل المثال، عندما دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي المصريين للخروج للتعبير عن دعمهم للموقف المصري إزاء الحرب، تمّ بعدها تفريق بعض الاحتجاجات بعنف حين خرجت الهتافات عن مسارها. وبالتالي، ليس مستغرباً أنّه منذ بداية حرب إسرائيل على غزّة، تمّ توقيف 150 شخصاّ على الأقل والتحقيق معهم أمام نيابة أمن الدولة العليا لمشاركتهم في وقفات سلمية ضدّ العدوان الإسرائيلي، بحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (EIPR). وتبرز أشكال أخرى من التضامن في مقالات الرأي وتقارير تنشرها وسائل إعلام مستقلّة، مثل مدى مصر والمنصة، فضلاً عن الحالات التي قام فيها جنود مصريون على حدود غزة بتحدّي الأوامر والاشتباك مع جنود إسرائيليين.
وفي الوقت الذي تدرك فيه الحكومة عمق الغضب الشعبي، تجد نفسها أمام ضرورةً الموازنة بين الاستياء الشعبي العام والتزاماتها الأمنية، لا سيّما في ظلّ الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تواجهها الدولة. علاوة على ذلك، لا تقتصر معاناة مصر على الإبادة الجماعية الجارية على حدودها مع غزة فحسب، بل تمتدّ كذلك إلى حدودها الأخرى مع السودان وليبيا حيث يستمر العنف والاقتتال الأهلي بدرجات متفاوتة. كل هذه الظروف والضغوط المختلفة التي ترزح تحتها مصر أعطت الحكومة فرصة لتعزيز أهميتها الدبلوماسية واستخدام الوضع المضطرب للحصول على مساعدات اقتصادية عاجلة. وقد نجحت، حتى الآن، في حشد الدعم من بعض شركائها الغربيين للتصدّي للخطط الإسرائيلية المعلنة لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وفي الحصول على دعم مالي من الإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي للحد من أثار الحرب والتخفيف من تبعات الديون وسياسات الدولة الاقتصادية.
ويبقى الرأي العام وتأثيره متأرجحاً بين تعاطف المصريين، عقلاً وقلباً، مع الفلسطينيين وسعي الحكومة الحثيث لحماية مصالح الدولة بالطريقة التي تراها مناسبة.