مقاتلون من المعارضة السورية يحتفلون عند برج الساعة في قلب مدينة حمص بوسط البلاد في وقت مبكر من يوم 8 ديسمبر 2024 (وكالة الصحافة الفرنسية)

سوريا: اليوم للاحتفال والغد للعمل الحقيقي

كانت الإطاحة الدرامية بنظام الأسد مُفاجئة وغير معقّدة، لكنّ الطريق إلى إعادة بناء سوريا لن يكون كذلك.

12 ديسمبر، 2024
نادر القباني

في الثامن من ديسمبر 2024، استيقظ العالم على أخبار مُذهلة. بين ليلة وضحاها، استولى الثوار بقيادة هيئة تحرير الشام على دمشق من دون مقاومة تذكر. وترك معظم عناصر القوات الأمنية والمُسلّحة مواقعهم وهربوا. وفي لحظة مُباغتة، طُوِيت صفحة نظام الأسد القمعي الذي استمرّ قرابة 54 عاماً.

 

على الرغم من أنّ انهيار الدولة المُفاجئ كان مُذهلاً بكل المقاييس، إلّا أنّ الطريق نحو مستقبل مستقرّ وآمن لن يكون كذلك.

 

 

الإطاحة بالنظام

في 27 نوفمبر 2024، شنّت هيئة تحرير الشام عملية واسعة النطاق في غرب حلب بالتنسيق مع فصائل أخرى من الثوار. وفي غضون ثلاثة أيام، سيطرت على ثاني أكبر مدينة في سوريا لتواصل تقدّمها جنوباً. توالت الانهيارات بسقوط القرى والمدن واحدة تلو الأخرى، حتى وصلت إلى دمشق التي سقطت بعدها بثمانية أيام فقط.

 

في البداية، غادر الكثيرون منازلهم خوفاً من الفوضى التي قد تنجم عن سيطرة الثوّار على قراهم، وكذلك خشية التكتيكات القاسية التي قد يستخدمها الجيش السوري في محاولته استعادة المناطق والمدن التي فقدها. لا يزال الدمار حاضراً والندوب النفسية عالقة في الأذهان نتيجة البراميل المتفجّرة التي أسقطها الجيش السوري على المدن السورية التي سيطر عليها الثوّار قبل بضع سنوات.

 

ولكن في النهاية، تبدّدت هذه المخاوف. ومع تقدّم هيئة تحرير الشام وفصائل الثوار الأخرى، واجهوا بعض جيوب المقاومة، لكن معظم الجنود تركوا مواقعهم وانسحبوا بدلاً من القتال. ويعكس هذا المشهد، الذي تكرّر في مختلف أنحاء البلاد، مدى الضعف والهشاشة اللذين حلّا بالمؤسّسات العامة على مدار العقد الماضي.

 

واللافت كذلك هو انضباط مقاتلي هيئة تحرير الشام ونضجهم في التعامل مع المناطق المُحرّرة. لقد حافظوا على النظام والأمن وبثوا الطمأنينة في نفوس الأقلّيات من خلال رسائل التسامح والتعايش السلمي. وعندما وصل مقاتلو هيئة تحرير الشام إلى حمص ودمشق، استقبلهم السكّان كمحرّرين واحتفلوا بحرّيتهم.

 

 

الدولة الهشّة

كان الانهيار السريع للجيش السوري صادماً، لكنه لم يكن مُفاجئاً. فقد جاء نتيجة عقد من التدهور السياسي والاقتصادي. في العام 2017، بعد أن استعاد النظام السيطرة على جزء كبير من البلاد بدعم من إيران وروسيا وحزب الله، فشل في إدخال الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الضرورية. بدلاً من ذلك، استنزف القطاع الخاص لصالح المقرّبين ودفع رواتب أكثر من 1,5 مليون موظّف حكومي. بالنتيجة، أغلقت الشركات الخاصّة واختفت الوظائف وجفّت الإيرادات.

 

لجأ النظام إلى طباعة النقود. وفقدت الليرة السورية أكثر من 99 في المئة من قيمتها بين عامي 2011 و2024، حيث انخفضت من 46 ليرة مقابل الدولار الأمريكي إلى حوالي 15 ألف ليرة مقابل الدولار. وعلى الرغم من التعديلات، لم يتجاوز متوسّط ​​رواتب المسؤولين الحكوميين في العام 2024 أكثر من 15 إلى 20 دولاراً شهرياً، وهو بالكاد يكفي لشراء الخبز. في حين كانت رواتب المجندين في الجيش أقل بكثير.

 

من الضروري التأكيد على مدى تدهور المؤسّسات السورية وضعفها في خلال هذه الفترة. في القطاع العام، بات التغيّب عن العمل ظاهرة شائعة. ولجأ معظم العاملين إلى وظائف إضافية أو تورّطوا في الفساد لتأمين لقمة العيش. بالكاد تأمّنت الخدمات العامّة مثل التعليم والصحّة والكهرباء في المدن، فيما غابت كلّياً في الكثير من المناطق الريفية. نُهِبَت موارد الدولة وأصولها تدريجياً، ما أضعف قدرة المؤسّسات على أداء مهامها. ومع تقييد القطاع الخاص، تفشّت البطالة، وركدت الأجور، وبلغ معدّل الفقر نحو 70 في المئة.

 

هذا هو الواقع الصعب الذي يواجه هيئة تحرير الشام أو أي حكومة انتقالية تسعى لإدارة مرحلة ما بعد الأسد. ويضاف إليها، تأثيرات العقوبات الدولية التي شلّت الاقتصاد، وتورّط جهات أجنبية – تركيا وروسيا وإيران والولايات المتحدة وإسرائيل – فضلاً عن انتشار ميليشيات مسلّحة بمختلف توجّهاتها. زد على ذلك احتمال تحوّل قوّات النظام إلى عصابات مسلّحة، واستمرار النزوح الداخلي لأكثر من 7 ملايين شخص، واحتمالية عودة الكثير من اللاجئين الذي يزيد عددهم عن 5 ملايين.

 

 

تفاؤل حذر

على الرغم من التحدّيات المقبلة، يوجد ما يستحقّ الاحتفال والتقدير. فقد تحرّر شعب سوريا من نير نظام سلطوي قمعي دام أكثر من نصف قرن. كان المجتمع الدولي قد بدأ يقدّم مبادرات لتطبيع العلاقات مع الأسد على اعتبار أن حكمه سيستمرّ. وبعد عقود من الاستبداد والقمع وهدر الدماء، لم يتوقّع أحد أن يزول النظام بهذه السرعة ومن دون سفك المزيد من الدماء.

 

حدث انتقال السلطة بسرعة ومن دون خلافات تُذكر. فقد أذعنت فصائل الثوار الأخرى لهيئة تحرير الشام، وانسحبت من مواقع إستراتيجية في العاصمة لتجنّب الصراع. وعقدت الحكومة الانتقالية بقيادة محمد البشير، الرئيس السابق لحكومة الإنقاذ في إدلب، اجتماعات مع الحكومة السابقة لتنظيم نقل المهام العامة بشكل سلمي ومنظّم. مُنحت الحكومة الانتقالية تفويضاً حتى مارس 2025، ما يوفّر فرصة لإجراء مناقشات من أجل تشكيل حكومة أكثر شمولاً في الأشهر المقبلة. وقد أبدى المجتمع الدولي استعداده لقبول شرعية الحكومة التي ستنبثق من هذا المسار التوافقي.

 

هذه المؤشّرات تبعث على الأمل، لكن من الضروري أن ندرك أنّ الطريق السياسي ما زال غامضاً. وفي حين جدّت هيئة تحرير الشام لتجاوز جذورها الجهادية، إلّا أنّها تبقى حركة إسلامية ولديها مفهومها الخاص لما تعتبره حكومة توافقية. ورغم التزام هيئة تحرير الشام بالحكم الرشيد وحماية الأقلّيات، لكن لا يمكن للمجتمع الدولي أن يتوقّع منها الإشراف على عملية إنشاء دولة علمانية تضمّ الجميع. بالتالي، يعتمد مستقبل سوريا على إيجاد أرضية وسطية مقبولة والتركيز على الهدف الأهم، وهو بناء سوريا مستقرّة وحرّة.

 

بعد نصف قرن من الحكم السلطوي القمعي الذي حدّ عقول الناس وقوّض شعورهم بالذات والمجتمع، وبعد حرب أهلية استمرت ثلاثة عشر عاماً أودت بحياة نصف مليون شخص، وشرّدت نصف السكّان، ودمّرت سبل عيش ملايين الأسر، وأنتجت جيلاً لا يعرف سوى الصراع والمعاناة، يستحقّ السوريون الآن فترة راحة. كما يستحقّون فرصة لإعادة بناء حياتهم وسبل عيشهم واستعادة كرامتهم الإنسانية. وأكثر من أي شيء، يريد السوريون نهاية لهذا الصراع ويستحقّونها فعلاً.

 

ما زال أمامنا الكثير من العمل لإتمامه وإعادة بناء ما دُمّر. نحن في مرحلة حساسة، ورغم أنّها ليست مثالية، إلّا أنّها تشكّل نقطة انطلاق واعدة. الآن، حان الوقت لنعمل معاً على إيجاد الطريق الذي يقودنا نحو مستقبل أفضل سلوريا وشعبها.

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفَين حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاحتجاجات والثورات، الحرب الأهلية، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
البلد: سوريا

المؤلف

زميل أوّل ومدير البحوث
نادر القباني هو زميل أول ومدير البحوث في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية وهو أيضاً زميل بحوث في منتدى البحوث الاقتصادية في القاهرة.   يحمل القباني خبرة تزيد عن 20 سنة في مجال البحوث والممارسات التنموية. وكان سابقاً مدير البحوث في مركز بروكنجز الدوحة وزميلاً أولاً في برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية وزميلاً أولاً غير مقيم… Continue reading سوريا: اليوم للاحتفال والغد للعمل الحقيقي