تختمر الحرب بين إثيوبيا والصومال منذ أشهر. ارتفعت التوتّرات في منطقة القرن الأفريقي، بعد أن وقّع إقليم أرض الصومال الانفصالية اتفاقاً مع أديس أبابا في يناير الماضي لتقاسم المنافذ البحرية، مقابل اعتراف ديبلوماسي مُحتمل بها. وفي حين شهدت الأسابيع الأخيرة هدوءاً حذراً، لا تزال قضايا ساخنة أخرى، مثل تبدّل التحالفات وسدّ النهضة الإثيوبي العظيم على الرافد الرئيس لنهر النيل، تهدّد بدفع المنطقة نحو صراع مفتوح.
قد يبدو في بعض الأحيان أنّه لا مفرّ من اندلاع الحرب، لكن تجنّبها أمر مُمكن أيضاً. تاريخ الصراعات بين إثيوبيا والصومال طويل وتمتدّ جذوره لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية. وقد تطوّرت هذه الصراعات على مدى عقود، انخرط فيها الكثير من الأطراف وتداخلت المصالح بحيث انعكست بشدّة على استقرار القرن الأفريقي. وسيدمّر الصراع المفتوح، في حال تجدّد، البلدين الغارقَين بمشاكل داخلية مُستعصية، ولن تكون المنطقة بأكملها بمنأى عنه. بدلاً من ذلك، يتعيّن على الجانبين التراجع عن حافة الهاوية، وتبنّي مساراً يبدأ بجهود وساطة مُتعدّدة الأطراف لمعالجة مصادر التوتّر المتداخلة والعميقة الجذور.
تاريخ طويل من الصراع
رسَمت القوى الاستعمارية حدود إثيوبيا والصومال كما نعرفها اليوم، ما أشعل شرارة نزاعات على الأراضي تفجّرت بعد نيل كلا البلدين استقلالهما. وقع الصراع الكبير الأول بين البلدين في العام 1964 بعد فترة وجيزة من نيل الصومال استقلاله. وتركّز النزاع حول منطقة أوغادين، التي طالب بها الصومال على أساس إثني، وغزتها في العام 1977. استعادت القوات الإثيوبية أوغادين في العام 1978، لكن لم تنتهِ التوتّرات بين البلدين. فقد دعم كلاهما مجموعات متمرّدة داخل حدود الآخر، ما زعزع المنطقة أكثر.
أدّى سقوط نظام الحزب الواحد السلطوي للرئيس الصومالي سياد بري، في العام 1991، إلى انهيار الدولة، وأفرز حرباً أهلية واضطرابات دامت لفترة طويلة. وهو ما منح إثيوبيا الذريعة للتدخّل في شؤون الصومال الداخلية بحجّة حماية أمنها القومي. في العام 2006، تدخّلت إثيوبيا عسكرياً للقضاء على اتحاد المحاكم الإسلامية، وهو تحالف للمحاكم الشرعية سيطر على جزء كبير من جنوب الصومال. دعمت الولايات المتّحدة هذا التدخّل الذي استثار مقاومة شديدة من مختلف الفصائل الصومالية. وقد نتج عن التدخّل العسكري الإثيوبي ظهور مجموعة الشباب الإسلامية المُسلّحة القوية، ما أدّى بدوره إلى تعقيد الصراع بعد أن اجتذب الأطراف الفاعلة الدولية، وإطلاق العمليات العسكرية المستمرّة لليوم لبعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميسوم) وقوات أخرى. وقد نفّذت إثيوبيا الكثير من العمليات العسكرية ضدّ حركة الشباب بشكل مستقلّ وكجزء من أميسوم.
أفرز الصراع تداعيات إنسانية خطيرة حيث نزح الملايين من الناس وصبحوا بحاجة إلى المساعدات.
تطوّرات مُتسارعة
الحرب التي تلوح في الأفق بين إثيوبيا والصومال هي نتيجة إصرار رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد على حصول بلاده – الدولة الحبيسة التي خسرت ساحلها لصالح أريتريا بعد استقلالها في العام 1993 – على منفذاً بحرياً على البحر الأحمر. في يناير الماضي، وقّع أحمد مذكّرة تفاهم مع رئيس إقليم أرض الصومال الإنفصالية (صومالايلاند) موسي بيهي عبدي – وهي جمهورية مُستقلّة ذاتياً وغير مُعترف بها في شمال غرب الصومال. وفي مقابل الاعتراف رسمياً بإقليم أرض الصومال الانفصالية، ستؤمّن إثيوبيا الحبيسة قاعدة بحرية بطول 20 كيلومتراً على خليج عدن، تمكّنها من النفاذ إلى البحر. من الواضح أنّ الصومال يرى في هذه الخطوة توسّعاً إثيوبياً وانتهاكاً لسلامة أراضيها وسيادتها، وهي وجهة نظر يدعمها المجتمع الدولي. ويبدو الصومال على استعداد لخوض الحرب لمنع إثيوبيا من الاعتراف بإقليم أرض الصومال الإنفصالية وبناء القاعدة البحرية.
لا شكّ أنّ مواجهة عسكرية بين الدولتين ستفاقم الوضع المتفجّر أساساً في القرن الأفريقي، لا سيّما في ضوء الحرب الأهلية الجارية في السودان. والصومال الذي يتعافى ببطء من عقود من الاضطرابات والتطرّف هو عرضة بشكل خاص للعوامل المؤجّجة للاضطرابات. أمّا إثيوبيا، فهي غارقة في مشاكل اقتصادية نزاعات خطيرة بين الحكومة المركزية والمجموعات الإثنية من تيغاري وأمهرة وأوروميا والصومال. والواقع أنّ الحكومة قد استخدمت أساليب عنفية وانتهكت حقوق الإنسان في محاولاتها إحكام السيطرة على المجموعات الإثنية المتنوّعة.
لقد أثار إصرار أحمد على استعادة منفذ على البحر كمسألة وجودية القلقَ في جميع أنحاء شرق أفريقيا وخارجها، وأدّى إلى تشكيل تحالفات مع قوى خارجية لدعم أحد الطرفين، ما فاقم بالتالي الوضع المتوتّر بالأساس. وقد تخلق مذكّرة التفاهم الأخيرة بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال الإنفصالية خلافات بين الكتل الناشئة وحلفائها على طول البحر الأحمر. على سبيل المثال، ينظر البعض إلى مزاعم أحمد كتهديد بغزو أريتريا أو احتلال جزء من الأراضي الصومالية.
لم تؤدّ سياسة رئيس الوزراء الإثيوبي إلى خلق توتّرات مع الصومال فحسب، بل فاقمت نقاط الخلاف الإقليمية الأخرى، خصوصاً في حوض النيل مع امتلاء خزّان سدّ النهضة الإثيوبي العظيم. ونظراً لاعتماد مصر الكبير على نهر النيل، الذي يؤمّن 98 في المئة من مصادر مياهها العذبة، تنظر القاهرة إلى المسألة كقضية وجودية.
يُعتبر التقارب بين مصر والصومال أحد أهم نتائج النزاع بين إثيوبيا والصومال، خصوصاً بعد إرسال القاهرة الأسلحة إلى مقديشو والتخطيط لنشر 10 آلاف جندي في البلاد في خلال الأشهر المقبلة. وتعتبر إثيوبيا هذه الخطوة والتحالفات الأوسع محاولةً مصرية لتصفية الحسابات.
قبل اندلاع الحرب الأهلية في السودان في ربيع العام 2023، اعتمدت مصر على جارتها الجنوبية لمساعدتها في مواجهة إثيوبيا، حتّى أنّها نشرت طائرات مقاتلة في السودان منذ العام 2020 للضغط على إثيوبيا من أجل التوصّل إلى اتفاق. وفي هذا الصدد، برز الصومال حليفاً واعداً لمصر.
ولصبّ الزيت على النار، من المقرّر أن تبدأ تركيا استكشاف الموارد الهيدروكربونية قبالة الساحل الصومالي، وقد يتحوّل أي اكتشاف إلى مصدر خلاف بين الأطراف. أخيراً، يقول الصومال إنّه سيعارض أي مشاركة مستقبلية لإثيوبيا في مهمّات حفظ السلام الأفريقية إلى حين انسحاب الأخيرة من مذكرة التفاهم مع إقليم أرض الصومال الإنفصالية. ولكن في ظلّ وجود الكثير من القضايا الخلافية المطروحة على الطاولة، لا يمكن التنبؤ أي منها سيكون الشرارة التالية.
المنافذ الدبلوماسية
إذاً، ما هو السبيل للخروج من الأزمة؟ أولاً وقبل كلّ شيء، يتعيّن على رئيس الوزراء أحمد أن يتخلّى عن صفقة الموانئ والإعلان بوضوح أنّه لا يعترف بإقليم أرض الصومال الإنفصالية كدولة مستقلّة. يمكن لإثيوبيا أن تستخدم مرافق ساحلية في الدول المجاورة من دون أن تمتلك قاعدة بحرية.
ولتهدئة التوتّرات، عرضت جيبوتي على إثيوبيا خيار استخدام أحد موانئها، على الرغم من إحجام أديس أبابا عن التنازل عن المزيد من النفوذ الاقتصادي لجارتها التي تعتمد عليها في معظم وارداتها وبسبب «التأخيرات غير الضرورية» الناجمة عن أنظمة جيبوتي وإجراءاتها المتعلّقة بالشحن.
وبالمثل، وافقت إريتريا، بموجب إعلان السلام والصداقة المشترك في العام 2018، على أن تستخدم إثيوبيا مينائي عصب ومصوع مع حصولها على إعفاءات ضريبية. وفي حين لم تتحقّق هذه الخطط بسبب الصراع الذي اندلع في المنطقة الشمالية من إثيوبيا، قد يحيي الحوار بين البلدين هذا الخيار.
تبرز طرق أخرى بديلة للوصول إلى الموانئ التجارية. يمكن لإثيوبيا أن تصل إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي من خلال بوّابات بحرية مختلفة على طول شواطئ كينيا والصومال وجيبوتي وإريتريا والسودان. ومن الخيارات المهمّة والأقل استفزازاً ممرّ النقل بين ميناء لامو وجنوب السودان وإثيوبيا، الذي يمكن أن يربط إثيوبيا بساحل كينيا.
ثانياً، يتعيّن على إثيوبيا والصومال وإقليم أرض الصومال الإنفصالية أن تجلس إلى طاولة الحوار، بينما تتجنّب المزيد من الخطاب الاستفزازي أو العدواني. ولا بدّ من إعطاء الأولوية إلى الوساطة المُنسّقة من القوى المُحايدة والمؤسّسات الإقليمية والدولية لنزع فتيل التوتّرات. كما ينبغي أن تستمرّ جهود الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد)، بالتنسيق مع الوساطة الدولية، لحلّ الصراع بين إثيوبيا والصومال. فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من رفض الصومال أي وساطة بشأن هذه القضية، ينبغي أن يستمرّ الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة في حثّ الأطراف على تهدئة التوتّرات، ولا ينبغي أن يعني فشل محاولات تركيا في الصيف الماضي التخلّي عن جهود الوساطة.
أخيراً، لا بدّ كذلك من أن تستأنف مصر وإثيوبيا المفاوضات من أجل التوصّل إلى تسوية سلمية للتوتّرات بشأن سدّ النهضة. ويتعيّن على إثيوبيا أن تشارك في نقاشات مشتركة مفيدة مع الدول المجاورة لها والتي يجب أن تدرك أنّ تلبية احتياجات إثيوبيا المشروعة تصبّ في مصلحة جميع الأطراف.
إن الصراع بين إثيوبيا والصومال هو قضية مُتجذرة ومُتعدّدة الأوجه تعود جذورها إلى الحقبة الاستعمارية وتتطلّب جهوداً شاملة ومُستدامة لحلّها. إنّ معالجة الأسباب الأساسية للصراع، مثل النزاعات على الأراضي والتوتّرات الإثنية والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، خطوة حاسمة لتحقيق السلام الدائم. وتشكّل مبادرات بناء السلام الشاملة التي تُشرك جميع الأطراف، ومن ضمنهم المجتمعات المحلّية، ضرورة أساسية لضمان الاستقرار الإقليمي المستدام. وإذا لم تُحلّ هذه القضايا العالقة في وقت قريب، ستبقى سبباً للصراع والحرب، وهذا ما لا يريده أحد.