لقد سلّطت الأزمة السياسيّة الليبيّة الأخيرة التي تمحورت هذه المرّة حول من يجب أن يترأس المصرف المركزي الليبي، الضوءَ مجدداً على الخلل المزمن الذي تتخبّط فيه البلاد منذ الإطاحة بمعمر القذافي في العام 2011. في الواقع، تشهد ليبيا اقتصاداً سياسياً معطّلاً خاضعاً للعسكرة ويرزح تحت وطأة التدخّل الأجنبي: اقتصاد غير مناسب حتى للقادة المتخاصمين في ليبيا وغير قادر على كبح جماحهم وعاجز بشكل دائم -من حيث بنيته- على تلبية احتياجات المواطنين الليبيين.
يتجلّى فشل النظام في الاضطرابات المتكرّرة، لا سيما إغلاق حقول النفط والاشتباكات العسكرية والإعلان عن عدم اعتراف السياسيين ببعضهم البعض. صحيح أنّها غالباً ما تُعتبر أحداث مستقلّة، غير أنّها في الواقع سمات طبيعية لنظامٍ ناتج عن سلسلةٍ من الاتّفاقات السياسية المتداخلة والوثائق شبه الدستورية المصمّمة لإدارة ليبيا وتقسيم السيطرة على ثروتها.
بيد أنّ المجتمع الدولي مصمّم على إعادة تشغيل النظام نفسه كلّما تعطّل، في محاولةٍ يائسة لتجنّب كلفة بناء نظامٍ جديد، على غرار تقني مستعجل يضغط باستمرار على زر إعادة تشغيل الكمبيوتر، في محاولةٍ للاستفادة قدر المستطاع من آلةٍ من الواضح أنّها معطّلة. هذا هو السبب وراء فشل ليبيا المستمرّ وأسباب انهيارها التي تكشف كلّ منها عن مشكلةٍ أعمق.
اندلعت الأزمة الأخيرة في 5 أغسطس، حين أغلق صدام حفتر، النجل الحاد الطباع الشهير لديكتاتور شرق ليبيا خليفة حفتر، أكبر حقل نفط جاري التشغيل في ليبيا. كانت هذه الخطوة ترمي إلى معاقبة أوروبا بعد اعتقال صدام، وهو أحد كبار القادة في القوات المسلّحة بقيادة والده والمعروفة بالقوات المسلّحة العربية الليبية، في نابولي في إطار تحقيقٍ إسباني في تهريب الأسلحة. وتتعاون في تشغيل الحقل الذي أغلقه مجموعةٌ من الشركات الأوروبية تضم شركة “توتال إنرجيز” (TotalEnergies) الفرنسية وشركة OMV النمساوية و”إكينور” Equinor النرويجية و”ربسول” Repsol الإسبانية.
أثبتت هذه الخطوة تصميم حفتر الإبن على الاستمرار في نهج الإفلات من العقاب الذي اعتمده منذ فترة طويلة، لا سيّما بالنظر إلى طموحه المزعوم لخلافة والده. وأظهرت اتّجاهاً يترسّخ لدى أفراد عائلة حفتر إلى استخدام موارد ليبيا وبنيتها التحتية كممتلكاتهم الشخصية. لم تكن هذه المرة الأولى التي يوقفون فيها صادرات النفط الليبية لأهداف سياسية، لكنهم لم يفعلوا ذلك أبداً من قبل من أجل أمرٍ بهذا القدر من التفاهة. كان واضحاً أنّ صدام حاول إلقاء اللوم في الإقفال على المتظاهرين المحلّيين، ما يُظهر اهتمامه بالرأي العام، كون الحصار سيتسبّب بانقطاع الكهرباء ويؤجّج النقص القائم في الوقود.
بُعيد ذلك، أرسل صدام – الذي يرغب أسوةً بوالده في السيطرة على العاصمة طرابلس – قوةً كبيرة غرباً في محاولةٍ للاستيلاء على المنطقة الأخيرة المنتجة للنفط في ليبيا التي لا تزال خارج سيطرته، ألا وهي حوض غدامس. كما كان يأمل بالاستيلاء على المعابر الحدودية الرئيسية مع الجزائر وتونس، وبشكلٍ مثالي على قطعة من الأراضي غرب العاصمة. كانت الخطة تقضي بفرض أمرٍ واقع بين ليلة وضحاها من خلال استخدام حليف محلّي يُقنع سرّاً مجموعات مسلّحة في المنطقة بالانضمام إلى قوات حفتر، ما يسمح لصدام بالتحرّك بكل بساطة بطريقةٍ تُثني منافسيه عن مهاجمة مواقعه الجديدة. وهي إستراتيجية كان يلجأ إليها والده بانتظام.
غير أنّ وكيله فشل في إقناع عدد كافٍ من القوّات المحلّية، وقد وضعت المسيرة الكبرى غرباً، التي بثّتها وسائل التواصل الاجتماعي على نطاقٍ واسع، القوات الموالية لحكومة طرابلس في حالة تأهّب قصوى. عندئذ غيّر صدام سرديّته، مدّعياً أنّ العمليّة لطالما كانت مُهمّةً منسّقة مع الجزائر بغية ضمان الحدود الليبية في أعقاب أعمال العنف الأخيرة في مالي – علماً أنّ أقرب حدود لمالي تقع على بعد حوالي ألف كيلومتر (أي 600 ميل) من ليبيا وأنّ الجزائر ندّدت علناً بتحركات القوات المسلّحة العربية الليبية.
القوة مصدر الشرعية
في هذا الوقت، كان خصوم عشيرة حفتر، بقيادة رئيس الوزراء بالوكالة المتمركز في طرابلس عبد الحميد الدبيبة، يتآمرون كذلك. في خلال هذا العام، اضطرّ الدبيبة إلى تقليص نفقاته بشكلٍ كبير في أعقاب نزاعٍ مع محافظ المصرف المركزي الليبي الصديق الكبير، ما خدم مصلحة آل حفتر، إذ أرسل الكبير الأموال إليهم. وعلاوة على ذلك، كانوا يجنون عائدات نفطيّة من خلال استنزاف المؤسّسة الوطنيّة للنفط في ليبيا عبر نظام الوقود مقابل النفط الخام. ردّاً على ذلك، بدأ الدبيبة بالبحث عن طرق للإطاحة بمحافظ مصرف ليبيا المركزي، مستغلّاً سيطرته على المؤسّسات السياسيّة الليبيّة.
في محاولةٍ استباقية لإحباط خطة الدبيبة، أصدر البرلمان الليبي – الذي يسيطر عليه آل حفتر وأنصارهم- حكماً قانونياً في 13 أغسطس يهدف إلى نزع الشرعية عن حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسيالذي يتولّى مهام رئيس الدولة الليبية والمؤلّف من ثلاثة مقاعد. وقد اعتبر البرلمان أنّ ولاية الهيئتين قد انتهت- مع العلم وليس من باب السخرية أنّ هذا صادر عن الهيئة التشريعية نفسها التي انتُخبت في العام 2014 والتي لم يكتمل نصابها القانوني منذ سنوات.
لكن في 19 أغسطس، أصدر المجلس الرئاسي مرسوماً بإقالة الكبير. مرة جديدة، كان هذا القرار غير متماسك من الناحية القانونية بما أنّ المجلس الرئاسي لا يملك هذا الحق فعليّاً بما أنّ مرسومه استند إلى قانون العام 2018 الذي أُلغي منذ ذلك الحين. لكن عندما تنتهي صلاحية هيئات الدولة كافة ولا يبقى من الاتّفاقات السياسيّة سوى الثغرات، تصبح القوّة مصدر الشرعيّة الوحيد.
احتمى الكبير في المصرف إذ كان يعلم أنّه إذا غادر، لن تسمح الميليشيات له بالعودة. في هذه الأثناء، ضيّق الدبيبة الخناق واستبدل رئيس الهيئة الوطنية التي تشتري الوقود الذي يجني حفتر أموال طائلة من تهريبه.
غير أنّ مناورة دبيبة السيّئة التنفيذ باءت بالفشل. صحيح أنّ الكبير سيُستبدَل على الأرجح، إلّا أنّ هذا سيتطلّب مفاوضات شاقة وليس أمراً واقعاً. وينكبّ الزعماء السياسيون والقادة العسكريون في النظام الليبي المعطّل على إنشاء مجلس إدارة جديد لمصرف ليبيا المركزي، في تكرارٍ للتسوية الأخيرة المتفاوَض عليها قبل عامَين لاستبدال رئيس المؤسّسة الوطنيّة للنفط الليبيّة.
من المرجّح ألّا يكون تقسيم المصرف المركزي الليبي، الذي أُعيد توحيده العام الماضي فقط بعد عقدٍ من الانقسام، أقل ضرّراً لليبيا نظراً إلى المنافسة على الاعتمادات ومخصّصات التمويل التي سترافق المساومة على المناصب في المجلس. وعلاوة على ذلك، يعرّض البلاد لخطر التداعيات الطويلة الأمد الناجمة عن عزل ليبيا عن الأنظمة المالية الدولية.
دوّامات الانهيار
طوال الأزمة الأخيرة، اكتفى مهندسو النظام بإطلاق دعوات إلى الهدوء ومناشدات للعودة إلى الوضع الراهن، عوضاً عن القيام بالوساطة الصعبة التي قد تدفع ليبيا نحو حلّ حقيقي. في نهاية المطاف، سيجتمعون، مثل ما حصل مع غيرهم، حيثما ينشأ وضع جديد في الميدان للانتقال بشكلٍ سلس إلى وضعٍ أكثر قبولاً وأقل تهديداً.
لم يتّضح بعد ما إذا كانت المفاوضات بشأن مجلس إدارة جديد لمصرف ليبيا المركزي يمكن أن توقف الانهيار العنيف وتكون كافية لإعادة تشغيل النظام في ليبيا بطريقةٍ سلسة. من المؤكّد أنّ أيّاً من النتيجتين ستكون مدمّرة. ما لم يُستبدل النظام الليبي، ستشتعل في نهاية المطاف حرباً أهلية أخرى. في غضون ذلك ومع مرور الوقت الكافي، ستُدمّر وتُفلس الدولة الليبية التي كانت ذات يوم غنيّة.
لا شكّ في أنّ النظام معطّلٌ. عندما يعمل بسلاسة، ينقضّ السياسيون الجشعون ورجال العصابات على الدولة وخزانتها ويتخلّون عن أي حوكمة فعليّة. وحين ينهار هذا النظام، تَحول الحروب والانقسامات التي يسبّبها الانهيار دون أي مصالحة أو إعادة إعمار محتملة. وحين يُستأنف العمل بالنظام ذاته، لا توجد آلية للمساءلة ولا فرصة لتحويل البنى التي تحفّز المنافسة والفساد إلى بنى تولّد التعاون والتسوية والحوكمة الرشيدة.
تتجلّى التداعيات الوخيمة لنظام الدوّامات المستمرّ هذا في كارثة العام الماضي في درنة، حيث تسبّبت أعوام من الإهمال بانهيار سدّ بشكلٍ كارثي، ما أسفر عن مقتل الآلاف وتشريد الكثيرين. وتنعكس في تغلّب اقتصاد الظلّ على الاقتصاد الرسمي، ما حوّل اقتصاداً هادئاً من النفط وموظفي الخدمة المدنية والمهنيين المتعلّمين إلى ملاذاً للمهرّبين.
في الوقت الذي تعود فيه ليبيا إلى الواجهة في الأخبار وتتصدّر قائمة الأولويّات الدبلوماسيّة، تطرح الأوضاع الحالية سؤالين أساسيين: هل بات النظام على أعتاب انهيار جديد؟ وإلى متى تستطيع البلاد تحمل المزيد من الأزمات المتكرّرة؟
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.