حكم محكمة العدل الدولية بصيص أمل للفلسطينيين

في حين أنّ الظروف على الأرض لا تزال مزرية، يوفّر حكم محكمة العدل الدولية للفلسطينيين أداةً فعّالة لحشد الضغط الدولي ضد إسرائيل - ولعلّه السبيل الوحيد للمضي قدماً.

20 يوليو، 2024
عمر حسن عبد الرحمن

في حكمٍ تاريخي، اعتبرت أعلى محكمة في العالم الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المستمر منذ 57 عاماً غير قانوني، وأمرت إسرائيلَ بإنهاء وجودها هناك، بما في ذلك جميع مستوطناتها ومستوطنيها، “بأسرع وقتٍ ممكن”. وأَجبر القرار الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي، والذي ينصّ على تسع نقاط، إسرائيل بدفع تعويضات لسكان الأراضي الفلسطينية المحتلّة ودعا الدول الثالثة والمنظّمات الدولية إلى الامتناع عن مساعدة إسرائيل في المحافظة على وجودها هناك.

جاء حكم المحكمة الصادر في 19 يوليو استجابةً لطلب تقدّمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2022 لإصدار رأي استشاري بشأن العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي المطوّل، وكذلك إنكار إسرائيل لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وسياساتها المتعلّقة بالاستيطان والضم وتشريعاتها التمييزية وجهودها الآيلة إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمناطق التي تحتلّها، لا سيما القدس الشرقية.

 

 وفي فبراير من هذه السنة، قدّمت 52 دولة وثلاث منظّمات دولية حججاً أمام المحكمة، أكثر من أي قضيّة أخرى في تاريخ محكمة العدل الدولية على مدى 78 عاماً، وكلّها تقريباً نيابةً عن فلسطين. وقد قاطعت إسرائيل الإجراءات.

 

هل من أمل بالمساءلة؟

رأت المحكمة أساساً أنّ إسرائيل تنتهك موجباتها كقوة احتلال بطرقٍ متعدّدة وأنّ احتلالها غير القانوني يحرم الفلسطينيين من حقهم الأساسي في تقرير المصير وأنّ النظام الحالي ينتهك حظر الفصل العرقي والفصل العنصري.

 

يسدّد الحكم ضربةً قوية لإسرائيل ولمؤيّديها في الوقت الذي يتعرّضون فيه بالفعل لضغوط هائلة بسبب سلوك إسرائيل العسكري في غزة، حيث قتلت في الأشهر التسعة الماضية 40 ألف شخص على الأقل- معظمهم من النساء والأطفال – وشرّدت وجوّعت الملايين ودمّرت الكثير من البنى التحتية والمنازل. وفي يناير، أصدرت محكمة العدل الدولية تحذيرها من وجود خطر “معقول” بأنّ إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية. منذ ذلك الحين، تجاهلت إسرائيل كلياً الإجراءات التي أمرت بها المحكمة لتجنّب أخطر الجرائم. وفي يونيو، طلب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت للاشتباه بارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.

 

يُعتبَر قرار محكمة العدل الدولية الأخير نصراً كبيراً للقضية الفلسطينية ومواساةً في مرحلة عصيبة من تاريخها. لطالما كافح الفلسطينيون لمحاسبة إسرائيل على إنكار حقوقهم الوطنية، بالتالي قد يشكّل رأي محكمة العدل الدولية أداة فعّالة في هذا الصدد – شرط أن يُستخدَم لتعبئة ضغط دولي فعّال وهادف.

 

صحيحٌ أنّ الحكم كناية عن رأي استشاراي غير ملزم، إنّما لا يزال له وزن داخل المنظومة الدولية بسبب مكانة المحكمة. فقد دعت محكمةُ العدل الدولية في نقطتها الأخيرة الجمعيةَ العامة للأمم المتحدة ومجلسَ الأمن إلى “النظر في الطرائق الدقيقة والإجراءات الإضافية المطلوبة” لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي بأسرع وقت ممكن.

 

قد يدفع هذا القرار بدول إلى تصعيد الضغط ضد المشروع الاستيطاني الإسرائيلي. لهذه الغاية، نشرت الأمم المتحدة في العام 2020 “قائمة سوداء” لأكثر من 100 شركة تعمل في المستوطنات. لكن من غير الواضح ما إذا كانت الدول ستَعتبر حكم المحكمة موجباً لقطع العلاقات مع إسرائيل بالكامل. صحيح أنّ القضاة ألمحوا بوضوح إلى وجود صلة بين إسرائيل نفسها والأراضي المحتلّة بالقول إنّ إسرائيل سبق أن ضمّت الأرض المحتلة فعلياً، إلّا أنّهم لم يقروا صراحةً بأنّ وجودها في الأراضي المحتلّة لم يعد يمكن تمييزه عن باقي الدولة.

 

 الحقائق على الأرض

قبل يومٍ من صدور الحكم، صوّت الكنيست على قرارٍ أعرب فيه عن “معارضته الشديدة لإقامة دولة فلسطينية” على أساس أنّها “ستُشكّل خطراً وجودياً على إسرائيل ومواطنيها وتُديم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتُزعزع استقرار المنطقة”. في الواقع، أعلنت الطبقة السياسية الإسرائيلية برمتها أنّها لا تنوي الخروج من الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

 

جاء التصويت، الذي مُرّر بتأييد 68 صوتاً ومعارضة تسعة – وجميعهم أعضاء عرب في الكنيست – وامتناع 43 عن التصويت، في خضم دعوات دولية متجدّدة إلى إقامة دولة فلسطينية. في الواقع، تسعى القوى الدولية لتحقيق مستقبل لغزة ما إن تنتهي الاشتباكات، وقد اعترفت دول متعدّدة بفلسطين منذ السابع من أكتوبر، بما فيها إيرلندا وبلجيكا وإسبانيا، ويُقال إنّ اليابان وكوريا الجنوبية على وشك أن تحذوا حذوهما، ما سيرفع المجموع إلى 147.

لقد قدّم مشروعَ القرار إلى الكنيست حزبُ المعارضة اليميني “الأمل الجديد – اليمين المتحد” ( New Hope-United Right) الذي قال رئيسه إنّه يهدف إلى “التعبير عن المعارضة الشاملة” في البلاد إزاء إقامة دولة فلسطينية “ويوضح للمجتمع الدولي أنّ الضغط لفرض دولة فلسطينية غير مجدٍ”. وقد صوّت الوزير السابق بيني غانتس، الذي يعتبره الكثيرون في الغرب بديل نتانياهو الأكثر أرجحية، لصالح القرار.

 

من جهته، دعا وزير المالية الإسرائيلي الشهير بتسلئيل سموتريتش نتانياهو إلى الرد على حكم محكمة العدل الدولية بضم الضفة الغربية بشكلٍ رسمي. لطالما حرص القادة الإسرائيليون على تذكير الفلسطينيين ومنتقدي إسرائيل في الخارج معاً بِمَن يُسيطر على الوضع على الأرض.

 

لقد صادرت إسرائيل في خلال هذا العام أراضٍ محتلّة أكثر من أي وقتٍ مضى منذ التوقيع على اتفاقات أوسلو في العام 1993. وبلغ عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين حدّاً لم يسبق له مثيل، وقد طُردت أكثر من اثني عشر مجموعة فلسطينية في الضفة الغربية قسراً من أراضيهم منذ السابع من أكتوبر. بالفعل، لقد استخدم الوزراء الإسرائيليون من اليمين المتطرّف الأزمةَ الحالية كغطاءٍ لأفعال غير عادية بغية إدماج الأراضي المحتلّة في الدولة ونقل السلطات من السيطرة العسكرية إلى السيطرة المدنية.

 

تغيير بنية الحوافز

بين فتوى محكمة العدل الدوليّة وقرار الكنيست وأرض غزة المحروقة، الطريق ممهّد للمرحلة التالية في المواجهة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

 

في الواقع، تخطّى الاحتلال نقطة اللاعودة منذ فترةٍ طويلة، حيث أنّ إسرائيل تمكّنت من بناء مشروعٍ استيطاني مصمّم ليكون من المستحيل التراجع عنه سياسياً. وبعد نصف قرن من الاستثمار المكثّف في مشروع الضم والإفلات شبه التام من العقاب على انتهاكات القانون الدولي، انقلبت بنية الحوافز لصناعة السلام رأساً على عقب. إنّ القوى المؤيّدة للضم قوية للغاية والمصالح الخاصة متجذّرة للغاية. وباتت الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين تعتقد أنّ الدولة الفلسطينية ستشكّل تهديداً ملازماً لأمنهم. ولعلّ أحدث دليل على ذلك عدم تصويت أي عضو يهودي في الكنيست لصالح حل الدولتين.

 

سيتطلّب تغيير هذه الدينامية تحوّلاً جذرياً في المقارنة الحالية التي يجريها ساسة إسرائيل وشعبها بين التكاليف والفوائد، ولا يمكن أن يحدث هذا التغيير إلّا من خلال ممارسة ضغوط عقابية كبيرة على إسرائيل.

 

بيد أنّ مسارات المساءلة والضغط والتغيير ليست مباشرة ولا مضمونة على الإطلاق. فإسرائيل تتمتّع بحماية أقوى دولة في العالم ودول نافذة أخرى وبدعمها. وعلى الرغم من أنّ خبراء ومجموعات حقوق الإنسان قد قدّموا تقارير مسهبة عن الطبيعة الإجرامية لنظام الاحتلال على مدى عقود، إلّا أنّ إسرائيل حافظت على قناعٍ من اللياقة والشرعية لإرضاء شركائها.

 

على الرغم من حكم محكمة العدل الدولية، إلّا أنّ الدول القوية محافظة بشكلٍ عام في ما يتعلّق بالمحاكم والقانون الدولي، خشية استخدامها ضدها يوماً ما. أصدرت محكمة العدل الدولية هذا الشهر قراراً يقضي بأنّ الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية غير قانوني ويجب هدمه، غير أنّ إسرائيل لم تواجه أي ضغط يُذكر أو أي ضغط على الإطلاق للامتثال.

 

بيد أنّ هذا القناع استمّر بالسقوط واتّضحت نوايا تل أبيب الحقيقية في خلال الأعوام الفائتة. فقد أوضحت الحكومات اليمينية المتعاقبة أنّ الاحتلال ليس مؤقّتاً وأنّ إسرائيل تنوي ضمّ الضفة الغربية بشكلٍ كامل أو جزئي. بالتالي، يبدو أنّ حكمَ إسرائيل غير الديمقراطي على الفلسطينيين باقٍ. وقد دفع ذلك الكثير من المراقبين- بمن فيهم مجموعات حقوق الإنسان التي تحظى باحترامٍ عالمي- إلى الاستنتاج أنّ إسرائيل ترتكب جريمة “الفصل العنصري”، فارضةً نظاماً للتمييز العنصري لصالح مجموعةٍ ما على حساب أخرى.

 

في الواقع، قدّمت حوالي نصف الدول التي مثلت أمام محكمة العدل الدولية في فبراير الماضي حججاً متعلّقة بالفصل العنصري، وأعلنت المحكمة في حكمها الصادر في يوليو أنّ إسرائيل تنتهك حظر الفصل العنصري المنصوص عليه في الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.

 

لقد تشوّهت صورة إسرائيل على الساحة الدولية منذ السابع من أكتوبر. من أحرام الجامعات في الولايات المتحدة إلى المدن في المعمورة قاطبةً، يعرب الناس عن استيائهم سياسات إسرائيل في غزة والأراضي المحتلة بشكل عام. ولعلّ فرص المساءلة تتجلّى للمرة الأولى. فعلى الرغم من الكارثة المستمرّة في غزة وأزمة القيادة في السياسة الفلسطينية، يُعطي الحكمُ التاريخي الصادر عن محكمة العدل الدولية الفلسطينيين بصيص أمل بإمكانية تحقيق السبيل إلى التحرير ونيل حقوقهم.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عدوان إسرائيل على غزة
البلد: فلسطين

المؤلف

عمر حسن عبد الرحمن هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، حيث يركّز على فلسطين وجيوسياسيات الشرق الأوسط  والسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة. وهو محرّر أفكار، المدونة الالكترونية الصادرة عن المجلس لمعالجة التطورات الإقليمية وأهم القضايا التي تهمّ المنطقة.   كان سابقاً زميلاً غير مقيم في معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة رايس في هيوستن.… Continue reading حكم محكمة العدل الدولية بصيص أمل للفلسطينيين