في خلال انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، حقّق حزب التجمّع الوطني اليميني المتطرّف(RN) بقيادة مارين لوبان انتصاراً مدوّياً. وفي ردّ مفاجئ، حلّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون البرلمان ودعا إلى إجراء انتخابات فورية. لكن على الرغم من النتائج القوية التي حقّقها التجمّع الوطني في الجولة الأولى، حلّ في المركز الثالث في جولة الإعادة فيما ضَمَنَ ائتلافٌ يساري يُدعى الجبهة الشعبية الجديدة (NPF) معظم المقاعد، تَلَته كتلةُ ماكرون الوسطية. في ظلّ عدم نيل أي حزب الأغلبية، يلفّ الغموض قدرة الحكومة الائتلافية المقبلة على العمل في خضم الانقسامات بشأن الحرب على غزة ومشاكل الهجرة وغيرها من المسائل المتعلّقة بالسياسات. في هذه المقابلة ضمن سلسلة “مقابلات أفكار”، يناقش جوزيف باحوط، مدير معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، تداعيات الانتخابات الفرنسية المحتملة على سياسات البلاد إزاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
1. ماذا تعني نتائج الانتخابات بالنسبة إلى سياسة فرنسا الداخلية؟ ما تركيبة الحكومة الجديدة المرجّحة، وكيف ستؤثّر في قدرة الرئيس ماكرون على قيادة السياسة الفرنسية الداخلية والخارجية؟
شكّل قرارُ الرئيس ماكرون بحلّ البرلمان الفرنسي ودعوته إلى انتخابات مبكرة بعد ساعات قليلة على نتائج الانتخابات الأوروبية مفاجأةً بالفعل، واعتبره الكثيرون قراراً محفوفاً بالمخاطر. وفيما كان الرئيس يدفع باتّجاه “توضيح” للمشهد السياسي الفرنسي ويتوقّعه، أتت النتيجة التي حصل عليها هو والبلاد معاكسةً تماماً: لا أغلبية واضحة وكتل مكوّنة من أحزاب صغيرة متباينة وعاجزة عن الذهاب أبعد من الاتفاقات السطحية جداً. في ظل برلمان مماثل، من شبه المستحيل تشكيل حكومة مستقرّة، ناهيك عن حكومة قادرة على العمل بتناغم مع رئيسٍ يمنحه الدستور سلطات هائلة. وفي ظلّ الشلل والعجز الذي تعانيه فرنسا أصلاً في معالجة التحديات الداخلية الأكثر إلحاحاً (سنّ التقاعد والحد الأدنى للأجور وقانون الهجرة، وما إلى ذلك)، من شبه المؤكّد أن تؤدّي التركيبة النيابية الجديدة إلى تآكلٍ تدريجي لمكانة فرنسا ولفعاليّتها على الساحة الدولية. وسيكون نفوذ فرنسا القوي في القرارات الأوروبية، لا سيّما بشأن أوكرانيا، موضع نزاع بشكلٍ متزايد وستُقلَّص مبادراتها في الشرق الأوسط وخاصة في لبنان إلى حدّ بعيد. في نهاية المطاف، ستبدأ الحياة السياسية في فرنسا اعتباراً من الآن بالتوجّه نحو الانتخابات الرئاسية المقبلة في العام 2027، وبالتالي تلقائياً نحو خلافة ماكرون، التي تدور معركةٌ محتدمة بشأنها حتى داخل معسكره، ما يزيد من تآكل مكانة الرئيس وسلطته المعنوية.
2. في خضم تصاعد التوتّر بين إسرائيل وحزب الله منذ السابع من أكتوبر، حاولت وزارة الخارجية الفرنسية بنشاط التوسّط للتوصّل إلى التهدئة وإلى هدنةٍ بين الطرفين. كيف يمكن أن تنعكس الانتخابات الأخيرة على دور فرنسا في الشرق الأوسط، لا سيّما في ما يتعلّق بهذه الجهود الرامية إلى وقف إطلاق النار وبالحرب الإسرائيلية المستمرّة على غزة؟
تميّزت فرنسا بنشاطها الكثيف على الساحة اللبنانية في عهد ماكرون، حيث أطلقت مبادرات سياسية مختلفة بدأت وسط الاضطرابات المدنية في العام 2019 والأزمات السياسية اللاحقة، واستمرّت بعد انفجار مرفأ بيروت في العام 2020 ومن ثمّ في ظلّ الفراغ الرئاسي المستمر منذ العام 2022. بيد أنّ هذه المبادرات لم تكن دائماً متماسكة، إذ تأرجحت بين محاولة المحافظة على الوضع الراهن ومساندة قوى التغيير.
في ما يتعلّق بانخراط فرنسا في سياسة لبنان الداخلية، أصبح نطاق عملها محدوداً للغاية بفعل مشاركتها في الجهود الجماعية التي بذلتها اللجنة الخماسية، إلى جانب الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر. وحين اندلعت حرب غزة، حاولت فرنسا قيادة جهود التهدئة في جنوب لبنان بهدف تجنّب نشوب حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله. لكن هنا أيضاً، اضطرّت إلى المواجهة ومن ثم التعايش مع الجهود الأكثر حزماً التي باشر بها المبعوث الأمريكي الخاص آموس هوكشتاين، ومن بعدها مع وساطةٍ سرية للغاية قادَها جهاز الاستخبارات الألماني. وفي حين أنّ فرنسا تبقى جهةً فاعلة مهمّة على هذا المستوى– ما يُعزى بشكلٍ رئيسي إلى الكتيبة الفرنسية الكبيرة في قوة حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية “اليونيفيل“، وبالتالي إلى الدعم التقني الفرنسي للجيش اللبناني – ينبغي عليها الآن التنسيق مع الوسطاء الآخرين، ما لا يحدث دائماً بسلاسة. وما يزيد الأمر تعقيداً هو أنّ غالباً ما يكون ملف جنوب لبنان مرتبطاً، بحكم الواقع أو عن قصد، بالقضايا الداخلية اللبنانية، لا سيما العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية منذ العام 2022، ما يشكّل أحد جوانب التوتّر المتجدّد بين باريس وواشنطن وكذلك الرياض.
أما بالنسبة إلى غزة، فقد حاول الرئيس ماكرون في الأسابيع الأولى من الصراع تأدية دور الوسيط. غير أنّ جهوده سرعان ما تعرّضت للتشويه وللشلل إلى حد بعيد حين اقترح على التحالف الدولي محاربة حماس كما كانت الحال مع داعش، وهي فكرة لم يرحّب بها أي طرف من دون استثناء. ومع ذلك، أصبحت حرب غزة جزءاً لا يتجزأ من الانقسام الداخلي الفرنسي، لا سيما منذ اتّهام اليسار – وبشكلٍ خاص أحد مكوّناته المتطرّف، حزب فرنسا الأبيّة (La France Insoumise) بدعم حماس علناً، لا بل ذهب بعض المعارضين السياسيين إلى حدّ وصفه بـ”المعادي للسامية”. في حال شكّل ائتلافٌ يساري الحكومةَ، سبق أن قيل إنّه سيدفع باتجاه الاعتراف بدولةٍ فلسطينية، وهي خطوة لا يزال ماكرون متردّداً في تأييدها.
3. تختلف آراء التجمّع الوطني اليميني المتطرّف والجبهة الشعبية الجديدة اليسارية كلياً بشأن علاقات فرنسا مع الدول في مختلف أنحاء القارة الأفريقية، لا سيما في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل. بما أنّ القادة الفرنسيين مضطرون الآن إلى تشكيل حكومة ائتلافية، ما تداعيات ذلك على علاقات فرنسا مع شمال أفريقيا وسياساتها المتعلّقة بالهجرة والمساعدات؟
من المرجّح ألّا يجمع أي ائتلاف حكومي محتمل بين اليمين المتطرّف (RN) واليسار المتطرّف (فرنسا الأبيّة (LFI)، أو حتى الجبهة الشعبية الجديدة)؛ بل سيكون أحدهما. لكن بأي حال، تشكّل السياسةُ الخارجية الفرنسية، بتقاليدها العرفية وإنّما أيضاً من خلال التمعّن ببعض مواد الدستور – الذي اشتهر به الرئيس شارل ديغول – مجالَ اختصاص رئيس الجمهورية. هذا يعني أنّ استمراريةً معيّنة متوقّعة. إلّا أنّ المشهد السياسي الجديد والغريب في البلاد يثير تساؤلاً مذهلاً: ماذا لو قرّر رئيس الوزراء، المستفيد من غالبيةٍ نسبية، تحدّي الرئيس بشأن قرارٍ متعلّق بالسياسة الخارجية؟ لا يزال ذلك نظرياً نوعاً ما لكنه قد يصبح حقيقةً، وستكون نتيجته رهناً بتوازن القوى بين شخصيّتين وبقدرة ماكرون، أم لا، على الاحتفاظ بقدرٍ معيّن من الرصيد السياسي على الساحتين الداخلية والخارجية. في موضوع الهجرة تحديداً – وهي مسألة محليّة – من المرجّح جداً أن يحاول أيّ ائتلاف بين اليسار ويسار الوسط الذي سيشكّل حكومةً أن يُلغي بعض أحكام القانون التي تمكّنت الأغلبية السابقة من تمريرها في الشتاء الماضي، والتي اعتُبرت، حتى بنظر البعض في معسكر ماكرون، غير مقبولة من ناحية حقوق الإنسان والقانون الإنساني. بيد أنّ الجو العام السائد في صفوف الشعب يوحي بوجود نوع من الإجماع الضمني المجتمعي حول ضرورة الحدّ من الهجرة، ومن شأن أي قوة سياسية تتحدّى ذلك بشدة أن تفقد قدراً من رصيدها السياسي.