حتى الشهر الماضي، لم يكُن الكثير من الناس خارج إيران قد سمعوا باسم مسعود بزشكيان، الطبيب البالغ من العمر 69 عاماً، والذي كان ممثّلاً عن مدينة تبريز الشمالية الغربية في البرلمان الإيراني، ووزيراً للصحّة في حكومة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي الثانية بين 2001 و2005. والآن، هو رئيس الجمهورية، والأول منذ العام 2005 الذي ينتمي إلى الجبهة الإصلاحية التي تضمّ فصائل وأحزاباً سياسية تدعو إلى إصلاحات سياسية واجتماعية في إطار الجمهورية الإسلامية. صحيح أنّ حكومة حسن روحاني المعتدلة التي تولّت السلطة في العام 2013 حظيت بدعم الزعماء الإصلاحيين، غير أنّ روحاني لم يعتبر نفسه واحداً منهم على الإطلاق. بينما في المقابل، حظي بزشكيان بتأييد الجبهة الإصلاحية منذ البداية على الرغم من انتمائه إلى معسكرها الأكثر محافظة. وفي حين سيواجه تحدّيات وقيوداً تحدّ من سلطته، يمثّل انتخابه فرصة لإيران لاتخاذ خطوات صغيرة في اتجاه مختلف وبعث الأمل في قلوب شعب يتوق إلى التغيير.
فرصة مفاجئة
أُجريَت الانتخابات الرئاسية المُبكرة في إيران بعد وفاة الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي في حادث تحطّم مروحية في 19 مايو الماضي. وفقاً للدستور، لم يكن أمام الحكومة سوى 50 يوماً لتنظيم انتخابات تأتي بخليف له. غير أنّ الإيرانيين بغالبيّتهم قد أصبحوا غير مبالين بالمشاركة في العملية السياسية، ما تُرجم بنسَب تصويت متدنّية في الانتخابات القليلة الماضية. وتفاقم السخط الشعبي بسبب حملات القمع التي قادتها الحكومة في أعقاب الاحتجاجات التي عمّت البلاد في عامي 2022 و2023 وتقلّص المساحة السياسية إلى تنامي جوّ من الإحباط العام. وقد كان الأمر واضحاً في الجولة الأولى من الانتخابات المبكرة التي نُظّمت في 28 يونيو الماضي، فعلى الرغم من الحملات المكثّفة التي نظّمها المرشّحون الستة الذين وافق عليهم مجلس صيانة الدستور، أدلى أقل من 40 في المئة من الناخبين المؤهّلين بأصواتهم. ولكن ارتفعت نسبة المشاركة في جولة الإعادة إلى 49,4 في المئة، وفاز بزشكيان بنسبة 53,7 في المئة من الأصوات، في حين حصل خصمه المحافظ سعيد جليلي على 43,3 في المئة.
وكانت هذه الزيادة بنسبة 10 في المئة في إقبال الناخبين حاسمة لفوز بزشكيان، إذ اندفع الكثير من الناخبين بالرغبة في منع وصول سياسات جليلي المحافظة أكثر من دعمهم لزشكيان نفسه. صحيح أنّ جليلي استطاع حشد 13 مليون صوت كدليل على نفوذه، إلّا أنّ الرغبة العارمة في منع البلاد من الوقوع تحت سطوة الإيديولوجيين المحافظين ساهمت في إقناع الكثير من الناخبين بالتوجّه إلى صناديق الاقتراع – ما شكّل عاملاً محورياً في تحديد النتيجة.
وبعيداً من الدعم الذي تلقّاه بزشكيان من المعسكر الإصلاحي، كان تأييد وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف ووزير الاتصالات السابق محمد جواد آذري جهرمي أساسياً أيضاً. فقد أطلقا حملة انتخابية قوية لصالح بزشكيان، وحثّا الناخبين على التصويت له للحدّ من هيمنة المعسكر المحافظ. وقد طمأنت جهودهما بعض الناخبين المتردّدين بشأن إمكانات بزشكيان وقدراته. وكان لحضور ظريف على وجه الخصوص أهمّية رمزية، ما أعرب عن الرغبة في الابتعاد عن نهج سياسة إيران الخارجية القائم بشكلٍ كبير على المواجهة واعتماد موقف أكثر اعتدالاً. فضلاً عن ذلك، اكتسب أسلوب بزشكيان المباشر وصدقه الملحوظ في المناظرات التلفزيونية صدى جيّداً لدى الناخبين من ذوي الدخل المنخفض ومن الأرياف، ما زاد عدد مؤيّديه إلى ما هو أوسع من قاعدة الإصلاحيين الإنتخابية التقليدية.
لطالما كانت نسبة المشاركة المتدنّية في الانتخابات الإيرانية في صالح المرشحين المحافظين والمتشدّدين، الذين يعتمدون على الموالين للنظام، الذين يتعاملون بدورهم مع الانتخابات كواجب ملزم. في المقابل، لا تشارك غالبية الإيرانيين، ولا سيما الطبقة المتوسّطة، إلّا إذا التمست إمكانات حقيقية للتغيير. وبالفعل أدّى تضاؤل احتمالات التغيير على مدى السنوات القليلة الماضية إلى انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وبالتالي وصول المرشّحين المحافظين أو المتشدّدين إلى السلطة. بعبارة أخرى، وكقاعدة عامة، لطالما صبّت نسبة المشاركة التي تقل عن نحو 50 في المئة لصالح المحافظين. لكن هذه الانتخابات انحرفت عن هذا النمط، وفاز بزشكيان على الرغم من مشاركة 50 في المئة من الناخبين في جولة الإعادة. ويشير هذا التحوّل إلى قدرته على جذب قاعدة أوسع من الناخبين تتجاوز المؤيّدين الإصلاحيين النموذجيين.
وأدّت الانقسامات الداخلية داخل المعسكر المحافظ دوراً حاسماً أيضاً. في الواقع، برزت الخلافات بين جليلي ورئيس البرلمان محمد باقر قاليباف المرشّح المحافظ الآخر، كسبب في انقسام أصوات المحافظين بينهما، بعدما رفض كلاهما الانسحاب لدعم الآخر في الجولة الأولى. وبالإضافة إلى الانقسامات بين مؤيّديهما، أضعف الدعم الفاتر الذي أبداه قاليباف لجليلي في الجولة الثانية حملة الأخير. وفي النهاية صوّت الكثير من أنصار قاليباف، المتحفّظين على موقف جليلي المحافظ، لصالح بزشكيان، مرجّحين كفّة الميزان لدفته.
وحضرت أيضاً عوامل مؤسّسية. وعلى الأرجح أنّ محمد مخبر، النائب الأول لرئيسي والرئيس المؤقّت للبلاد، قد منع أعضاء إدارة رئيسي من التلاعب بالنتائج لصالح جليلي، لا سيما أنّ عدداً منهم ينتمي إلى جبهة الاستقرار، الفصيل المحافظ الداعم لجليلي. وعلى قدر متساوٍ من الأهمية، اختار قادة الحرس الثوري، الذين دعموا قاليباف في الجولة الأولى – ولو ضمنياً ، البقاء على الحياد بعد هزيمته، ما ساعد على وصول بزشكيان.
التحدّيات والفرص المستقبلية
يطرح فوز بزشكيان فرصاً وتحدّيات في الوقت نفسه. صحيح أنّ رئيس الجمهورية يتمتّع بسلطة محدودة لتغيير السياسات الإستراتيجية الرئيسة التي يضعها المرشد الأعلى علي خامنئي، لكنّه يستطيع التأثير في تنفيذها. وبصفته رئيساً للسلطة التنفيذية، يستطيع الرئيس إجراء تغييرات وتحسينات في طريقة تطبيق هذه السياسات. وقد ينعكس ذلك على السياسات الاجتماعية، مثل فرض الحجاب والقيود على الإنترنت، وكذلك على السياسات الاقتصادية. ويتولّى الرئيس أيضاً منصب رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي، ما يعني قدرته على التأثير في عملية صنع السياستين الخارجية والأمنية.
مع ذلك، وبمعزل عن القيود الناجمة عن دور المرشد الأعلى، فإنّ التعامل مع برلمان تهيمن عليه فصائل متنافسة، وخصوصاً ممثّلي جبهة الاستقرار، سيشكل تحدّياً كبيراً آخر لبزشكيان. ومن المتوقَّع أن يواجه صعوبة في الحصول على موافقة البرلمان على تشكيلة حكومته.
وستكون علاقة بزشكيان بالحرس الثوري الإيراني حاسمة أيضاً لنجاح برنامجه، فالموازنة بين أجندته الإصلاحية ومصالح الحرس الثوري الإيراني أساسية لتنفيذه بفعالية. وهذا ما يتطلّب نهجاً براغماتياً لتجنّب مقاومة المؤسّسة العسكرية التي تتمتّع بنفوذ كبير في شؤون إيران السياسية والاقتصادية.
وستوضع كذلك مقاربة بزشكيان إزاء السياسة الخارجية تحت المجهر. يهدف بزشكيان، بدعم من الفريق الذي وجّه السياسة الخارجية لحسن روحاني، إلى التعامل بدبلوماسية مع الغرب. ومع ذلك، قد تتعقّد هذه الجهود بفعل التحديات المتمثّلة ببرنامج إيران النووي المتقدّم، ودعم روسيا في حربها على أوكرانيا، والمواجهة المتصاعدة مع إسرائيل. سيحتاج بزشكيان إلى التعامل مع هذه القضايا برويّة، والموازنة بين الحاجة إلى المشاركة الدولية والديناميات السياسية الداخلية.
أمّا في ما يتعلّق السياسات الإقليمية، فمن المرجّح أن يستمرّ النهج نفسه. من المتعارف عليه أنّ الحرس الثوري يمسك بسياسة إيران الإقليمية، ولا سيما دعمها للمجموعات المسلّحة غير الحكومية. ولكن بعيداً من ذلك، يبدو أنّ الفصائل المختلفة في الجمهورية الإسلامية تُجمع على أنّ تحسين العلاقات مع الجيران العرب يصبّ في مصلحة طهران. ومن جانبهم، سارع الزعماء العرب إلى تهنئة بزشكيان بفوزهـ معبّرين عن توقّعاتهم لعلاقات مستقرّة.
وفي النهاية، سيعتمد نجاح بزشكيان في تحقيق أهدافه في السياستين الداخلية والخارجية على نهج براغماتي للتوفيق بين الأهداف الإصلاحية ومصالح الفصائل المحافظة والعسكرية القوية. وفي الوقت نفسه، سيكون من الصعب عليه استعادة ثقة غالبية السكان الإيرانيين الذين قاطعوا الانتخابات. وفي حين ينبغي أن تكون التوقّعات معتدلة نظراً للقيود المفروضة على السلطة الرئاسية، يمثّل فوز بزشكيان فرصة لتحقيق تقدّم تدريجي في بلد يتوق إلى التغيير.