سُجِّلت أول محاولة انقلاب عسكري لعام 2024 في بوليفيا في 26 يونيو الماضي، عندما اقتحمت مدرّعات عسكرية القصر الرئاسي وحاصر جنود من الجيش البوليفي الساحة الرئيسة في لاباز. تجدر الإشارة إلى أنّ الانقلابات العسكرية ليست جديدة على بوليفيا التي تتصدّر قائمة الانقلابات العسكرية عالمياً منذ العام 1950، وهي حالياً الدولة الأحدث ضمن لائحة طويلة من البلدان التي سعت القوّات العسكرية فيها إلى الإطاحة بالأنظمة الحاكمة.
يُعرَّف الانقلاب بأنَه استيلاء مفاجئ على السلطة، وغالباً ما يقوده الجيش. بين العامين 2019 و2023، حدثت انقلابات في جميع أنحاء أفريقيا، بما فيها النيجر وبوركينا فاسو وغينيا وغينيا بيساو ومالي والغابون وتشاد وساو تومي وبرينسيبي والسودان، وفي ميانمار عام 2021. وجدّدت هذه الموجة العالمية من الانقلابات الاهتمامَ بدور القوات المسلّحة في السياسة والتداعيات الناجمة عن محاولاتها الاستيلاء على السلطة.
ما هي دوافع هذه الموجة وتداعياتها؟ غالباً ما تؤدّي الانقلابات المُتزايدة إلى تراجع في الديمقراطية وتكون مؤشّراً على عدم الاستقرار. ونظراً للضعف السياسي المستمرّ في البلدان التي تشهد انقلابات، تثير الموجة الأخيرة تساؤلات بشأن مستقبل التقدّم الديمقراطي فيها. لكن على الرغم من توسّع خيبة الأمل السياسية وتنامي الشعبية العسكرية، لا تزال الديمقراطية تحظى بدعم شعبي وازن، بما في ذلك بين مواطني البلدان التي عصفت بها الانقلابات.
قادة الانقلابات يستهدفون الحكّام الضعفاء
لماذا تحدث الانقلابات؟ أثبتت السنوات أنّ الدول المستقلّة حديثاً والحكّام الجُدد والأنظمة الانتقالية عرضة لمحاولات الانقلاب بسبب الاضطرابات السياسية وضعف الأسس المؤسّسية والعقبات الاقتصادية، بالإضافة إلى التدخّلات الخارجية. على سبيل المثال، في خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وصل قادة عسكريون إلى السلطة في الجزائر ومصر وسوريا ونيجيريا وأوغندا بعد سنوات قليلة من حصولها على استقلالها. خرجت هذه الدول من حكم استعماري بأطر سياسية هشّة ومؤسّسات ناشئة، ما جعلها ضعيفة أمام الاضطرابات. وقد أدّت الصراعات الداخلية على السلطة بين الفصائل العسكرية والسياسية إلى إضعافها أكثر. في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أُسقِط عدد من الحكّام الجُدد في مختلف المناطق في انقلابات للاستيلاء على السلطة. وفي خلال هذه الفترة، واجهت الأنظمة في غانا وأوغندا وتشيلي وليبيا وسوريا والجزائر تحدّيات سياسية واقتصادية، فضلاً عن تدخّلات خارجية هدفت إلى التأثير في الديناميات الإقليمية. وفي خضم هذه الظروف، حاول قادة الانقلابات الاستفادة من مكامن الضعف المتصوَّرة لبسط سيطرتهم ورسم معالم هذه الأنظمة الناشئة.
وتتشارك الانقلابات الأخيرة في بوليفيا وميانمار وفي مختلف أنحاء أفريقيا الدوافع نفسها؛ فهي بلدان ترزح تحت وطأة إضطرابات داخلية وفوضى سياسية ومظالم إجتماعية واقتصادية. في بوركينا فاسو، مع انتشار التمرّد الإسلامي في المناطق الشمالية والشرقية، أطاح الكابتن إبراهيم تراوري بالرئيس المؤقّت بول هنري سانداوغو داميبا في العام 2022 وسط استياء عارم من مقاربته للقضايا الأمنية والاقتصادية. وداميبا نفسه وصل إلى السلطة بانقلاب في العام نفسه. وفي تايلاند، بعد ستة أشهر من الجمود السياسي والاحتجاجات، أطاحت القوات المسلّحة الملكية التايلاندية بقيادة الجنرال برايوت تشان أوتشا بالحكومة المؤقّتة في العام 2014، وأنشأت مجلساً عسكرياً لحكم البلاد. وفي العام 2021، ألقت القوات المسلّحة الغينية القبض على الرئيس ألفا كوندي، وحلّت الدستور والحكومة، وعيّنت ضابطاً عسكرياً رئيساً مؤقّتاً للبلاد. وفقد كوندي شعبّيته بسبب المظالم الاقتصادية العامّة، ومحاولته الترشّح لولاية ثالثة، ورفع الضرائب، وزيادة قمع المتظاهرين.
الانقلابات الحديثة تقوّض التقدّم الديمقراطي
لماذا تثير الانقلابات القلق؟ أولاً، لقد أدّت الانقلابات بمعظمها إلى تراجع الديمقراطية إلى حدّ ما. في الواقع، شكّل عدد من حالات الاستيلاء العسكري على السلطة تهديداً مباشراً للديمقراطيات الجديدة. في العام 2013، أطاحت القيادة العسكرية بمحمد مرسي، أوّل رئيس مُنتخَب ديمقراطياً في مصر، وذلك بعد عام واحد من انتخابه في أوّل انتخابات حرّة للبلاد. وكان ذلك بمثابة عودة إلى النظام السلطوي المدعوم من الجيش في مصر.
وتهدّد الانقلابات كذلك الحكومات الانتقالية. شهدت مالي انقلابات متتالية في أقل من عام، وقد بلغت ذروتها باستيلاء العقيد أسيمي غويتا على السلطة من القادة المدنيين الانتقاليين في العام 2021، وإطالة الحكم العسكري في البلاد حتى العام 2022. وفي السودان، حلّ الجنرال عبد الفتاح البرهان الحكومة الانتقالية واعتقل القادة المدنيين في العام 2021، ما أشعل قتالاً مسلّحاً مستمرّاً حتى اليوم.
تهدّد بعض الانقلابات التقدّم الديمقراطي من خلال قلب نتائج الانتخابات. ومؤخّراً في ميانمار، استولى الجيش على السلطة في العام 2021، بعد عزل أعضاء الحزب الحاكم، وإبطال الانتخابات العامة لعام 2020 التي هُزم فيها الحزب المدعوم من الجيش. وقد خلق هذا الانقلاب حلقة من الاضطرابات والقمع، تسبّبت باشتباكات دامية بين المجلس العسكري والمحتجّين المناهضين للانقلاب.
لم تكن الانقلابات الأخيرة وحدها هي التي عرقلت الحكم الديمقراطي. فقد تسبّبت أحداث مماثلة شهدتها العقود السابقة لهذه الموجة، بنتائج مشابهة. يذكّرنا انقلاب ميانمار بانقلاب وقع في الجزائر في العام 1992، عندما ألغت قيادة الجيش انتخابات كان سيفوز بها حزب إسلامي، ما أدّى إلى حرب أهلية دامية استمرّت عقداً من الزمان. وفي أعقاب الانقلاب العسكري على السلطة في تشيلي في العام 1973، والذي أنهى أربعين عاماً من الحكم الديمقراطي، قُتل آلاف المدنيين واختفوا وعُذبوا وسقطت البلاد تحت السلطوية. وفي العام 1949، أطاح أول انقلاب في سوريا الحديثة بحكومة منتخبة ديمقراطياً، ما مهّد الطريق أمام سلسلة من الانقلابات وحكم عسكري.
حتى الانقلابات الفاشلة يمكن أن تعيق التقدّم الديمقراطي أو أن تفتح المجال للسلطوية. في تركيا مثلاً، أشعلت محاولة الانقلاب ضدّ الرئيس رجب طيب أردوغان في العام 2016 حملة شديدة على من اعتبرهم النظام معارضين. وأفرزت الانقلابات الفاشلة في المغرب في عامي 1971 و1972 أكثر سنوات حكم الملك الحسن الثاني قمعاً.
عودة الانقلابات تدقّ جرس الإنذار، لكن دعم الديمقراطية مستمرّ
تُظهر الأحداث الأخيرة وعبر السنين أنّ الانقلابات، سواء نجحت أو فشلت، تهدّد المؤسّسات الديمقراطية. عندما تنجح الانقلابات فإنها تنذر بدكتاتوريات عسكرية واضطرابات مجتمعية وصراعات. وعندما تفشل، فإنها تؤدّي غالباً إلى زيادة القمع والاضطرابات لفترات طويلة.
عندما ينظر المرء إلى النتائج المتعلّقة بالإحباط العام والنظرة الإيجابية تجاه الجيش وتراجع الثقة في المؤسّسات السياسية، قد يتساءل ما إذا كانت الشعوب تحبّذ التدخّل العسكري كطريقة للتغيير السياسي. لكن على الرغم من تكرّرها، الانقلابات ليست محبّذة شعبياً. على سبيل المثال، أظهرت إستطلاعات للرأي في مناطق مختلفة في أفريقيا أنّ الناس ينظرون إلى التطوّرات السياسية والاقتصادية بعد الانقلابات بشكل سلبي، بما في ذلك في البلدان التي شهدت دعماً شعبياً أوّلياً للانقلابات. وعلاوة على ذلك، تعتبر غالبية الشعوب في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية – أي المناطق التي شهدت محاولات انقلاب متكرّرة، وحيث أعربت أكثريّة الذين شملهم الاستطلاع عن ثقتهم الكبيرة في القوّات المسلّحة – أنّ الديمقراطية هي أفضل نظام للحكم. وهذا لا يسلّط الضوء على جاذبية الحكم الديمقراطي فحسب، بل أيضاً على ضرورة حمايته من القوى المزعزِعة للاستقرار الناجمة عن التدخّلات العسكرية.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفتها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.