متظاهرون يتجمّعون بينهم رجل يحمل لافتة تطالب جنود الجيش الأمريكي بمغادرة النيجر من دون تفاوض في نيامي، 13 أبريل 2024. (وكالة الصحافة الفرنسية)

منطقة الساحل فريسة التنافسات الدولية وسط سلسلة من الانقلابات

غيّرت سلسلةٌ من الانقلابات التي اجتاحت دول منطقة الساحل المشهدَ الجيوسياسي في المنطقة، ما جعلها عرضة للمنافسة المتزايدة بين القوى العالمية.

12 يونيو، 2024
يحيى ح. زبير، عبد القادر عبد الرحمن

عندما قرّر الحكّام العسكريون في النيجر إنهاء وجود القوّات المسلّحة الأمريكية على أراضي البلاد في مايو، قوبلت هذه الخطوة بقلق شديد في واشنطن. فالنيجر، الواقعة في قلب منطقة الساحل جنوب الصحراء الكبرى، تستضيف قاعدتين رئيستين استخدمتهما الولايات المتّحدة طويلاً لإطلاق مسيّرات المراقبة وتتبّع المنظّمات المتطرّفة العنيفة في ليبيا وتشاد ومالي ونيجيريا. والآن تستعدّ القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) لإخلائهما بحلول سبتمبر 2024.

 

وليس خروج القوات الأمريكية من النيجر سوى الحلقة الأحدث في سلسلة النكسات التي تتكبّدها القوى الغربية في منطقة الساحل، وخصوصاً الولايات المتّحدة وفرنسا. لقد أطاحت المجالس العسكرية بالحكومات في مالي في العامين 2020 و2021، وفي غينيا في العام 2021، وفي بوركينا فاسو في العام 2023، كما حاولت الإطاحة بحكومة تشاد في مارس 2024، لكنها فشلت. تشاركت كلّ هذه البلدان المظالم نفسها، فقد كانت قوّاتها المسلّحة غاضبة من الهجمات المستمرّة للمنظّمات المتطرّفة ضدّ الجيش والسكّان المحليين، وتفاقم هذا الاستياء بسبب فشل القوّات الغربية في المنطقة في التعامل مع هذه المجموعات. وفي ظل زيادة الغضب الشعبي، ما كان على هذه الجيوش إلّا التدخّل للتخلّص ممّا اعتبرته مدنيين غير أكفّاء وقوى أجنبية غير قادرة على التصدّي للإرهاب.

 

وقد أعادت سلسلة الانقلابات هذه ترتيب المشهد الجيوسياسي في منطقة الساحل بشكلٍ كبير، كما وغيّرت التداعيات السياسية للانقلابات التي خاضتها المجالس العسكرية القومية المزعومة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو موازين القوى بين الجهات الفاعلة الدولية في المنطقة، بطرق تتجاوز آثارها منطقة الساحل.

 

تمتدّ المنطقة على مساحة شاسعة قاحلة من المحيط الأطلسي إلى القرن الأفريقي. وهي غنيّة بالمعادن كالذهب واليورانيوم ولكنّها تعاني ظروفاً اجتماعية واقتصادية مروّعة. فقد شهدت تدخّلات متعددة لقوى أجنبية متنافسة واضطرابات خطيرة أشعلتها الصراعات العرقية والنزوح الداخلي وتغيّر المناخ والاتجار بالمخدرات والعنف المتطرّف المتمثّل بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وبوكو حرام، وحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا المشتقّة من تنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية، وغيرها.

 

ونظراً لتفاقم هذه الأزمات وترابطها، لا تنعكس تداعيات الاضطرابات في منطقة الساحل على المغرب الكبير فحسب، بل تطال أيضاً أوروبا والخليج. فقد فرّ الكثير من سكّان المنطقة، وخاطروا بحياتهم عبر الصحراء الكبرى بحثاً عن الأمان وأوضاع اقتصادية أفضل.

 

بدأ الانسحاب القسري للقوّات الأجنبية من منطقة الساحل بعد الانقلاب الثاني في مالي في العام 2021. وبدعم شعبي، دعت السلطات الجديدةالقوى الأجنبية، ولا سيما فرنسا، إلى مغادرة البلاد، وتبعتها بعثة الأمم المتّحدة المتكاملة المتعدّدة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي. وبعد أن أُجبرت فرنسا على الخروج من مالي، وجدت حليفاً قوياً في النيجر، حيث قامت بنشر 1,500 عنصر لمواصلة عمليات مكافحة الإرهاب في الساحل ظاهرياً. لكن انقلاب يوليو 2023 واستياء النيجيريين الشديد أجبر باريس على إعادة النظر في وجودها في النيجر وفي منطقة الساحل بشكل عام. بعد أيام من الانقلاب، تظاهر الآلاف من النيجريين المؤيّدين للانقلاب أمام السفارة الفرنسية في نيامي، مندّدين بسلوك فرنسا الاستعماري الجديد المزعوم، ولوّحوا أحياناً بالأعلام الروسية (على الرغم من غياب الدليل على تورّط روسيا في الانقلاب الذي أدانه الكرملين رسمياً).

 

ومنذ ذلك الحين، وقعت النيجر في أزمة معقّدة تترتّب عنها تداعيات خطيرة على المنطقة. فقد أعطى حكّام نيامي الجدد 600 جندي أمريكي مهلة حتى 14 سبتمبر 2024 لمغادرة البلاد، وألغوا صفقة قالوا إنّها «ليست غير عادلة فحسب، بل لا تلبّي تطلّعات الشعب النيجيري ومصالحه». وهذا ينهي وجوداً أمريكياً دام خمس سنوات في قاعدة النيجر الجوّية 201، وهي مركز حيوي إستراتيجياً للمسيّرات في شمال البلاد. ويشير طلب المجلس العسكري النيجيري بانسحاب القوّات الأمريكية كذلك إلى احتمال اعتماده على داعمين أجانب جُدد مثل روسيا أو الصين أو تركيا، ما يخلق واقعاً جيوسياسياً جديداً ويعكس ضعف الهيمنة الغربية في المنطقة.

 

وتهدّد الآثار الجانبية بالتوسّع شرقاً إلى تشاد المجاورة، حليفة باريس بامتياز لعقود من الزمن. في أبريل 2024، قرّرت القوات الجوّية التشادية إنهاء جميع العمليات مع الجيش الأمريكي الذي نشر 100 جندي في نجامينا، وفي يناير التقى رئيسها محمد إدريس ديبي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن في الكرملين.

 

ومع تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، أصبحت جهات فاعلة رئيسة مثل روسيا والصين وتركيا وإيران والإمارات العربية المتّحدة تؤدّي أدواراً أكبر وتعزّز مصالحها الأمنية والاقتصادية من خلال بناء علاقات مع قادة المنطقة الجُدد. وبالتالي، أصبحت أفريقيا مسرحاً لمنافسات مُتجدّدة بين القوى العظمى بما يذكّرنا بالحرب الباردة. وقد اضطلعت روسيا بدور أكبر في القضايا الأمنية، وإنْ كانت مدفوعة بالمصالح الاقتصادية. فمنطقة الساحل توفّر لموسكو فرصة لإعادة وجودها وهيبتها التي كان يتمتّع بها الاتحاد السوفياتي ذات يوم. منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عزّزت موسكو حضورها في أفريقيا، ووقّعت عدداً من الاتفاقيات مع الدول الأفريقية، وحاولت تأمين قواعد عسكرية. وفي منطقة الساحل، اعتمدت موسكو على مجموعة فاغنر المرتزقة – أعيد تشكيلها الآن باسم فيلق أفريقيا الروسي – التي انتشرت في بوركينا فاسو بعد الانقلاب، وهي موجودة في مالي وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى لمساعدة الأنظمة القائمة في مكافحة المتشدّدين.

 

وقد بنت الصين وجوداً اقتصادياً كبيراً لها في أفريقيا منذ أواخر الثمانينيات. وعلى الرغم من تركيز سياستها إفي أفريقيا على التعاون الإنمائي، إلّا أنّها مدفوعة أيضاً بالحاجة إلى تأمين المواد الخام لنموّها الاقتصادي. استثمرت الصين في اليورانيوم في النيجر، وتحدّت احتكار فرنسا للقطاع الذي يمثل حوالي 7 في المئة من إنتاج اليورانيوم في العالم. كما تسعى إيران وروسيا إلى إبرام صفقات مع النيجر لتعزيز قدراتهما على تخصيب اليورانيوم. أظهرت النيجر وإيران علامات تقارب منذ انقلاب يوليو 2023، وتبدو نيامي مستعدّة لبيع مئات الأطنان من اليورانيوم المُكرّر أو «الكعكة الصفراء» إلى طهران.

 

وعلى غرار مالي، تمتلك النيجر أيضاً مناجم ذهب كبيرة. وبشكل عام، تهتمّ الصين بالوصول إلى المعادن والموارد المعدنية الأخرى، وقد استثمرت بكثافة في النيجر، لا سيما في النفط واليورانيوم على مدى العقدين الماضيين.

 

كما عزّزت الإمارات العربية المتّحدة نشاطها في المنطقة. وبينما ينظر البعض إلى وجودها بريبة بسبب نشرها للقوات وإمداداتها من الأسلحة القوية والمسيّرات، تصرّ أبو ظبي على أنّ سياستها تهدف إلى «تعزيز الأمن والاستقرار في دول الساحل، فضلاً عن تعزيز جهود التنمية والأعمال الإنسانية في المنطقة».

 

سيكون للتغييرات الجارية في منطقة الساحل تداعيات خطيرة على المغرب الكبير والمنطقة الأبعد. وفي ما يتعلّق بالجزائر، فإنّ استقرار حدودها الجنوبية مع النيجر الممتدة على 951 كيلومتراً أمر أساسي، ليس بسبب تهديدات الإرهاب العابر للحدود والجريمة المنظّمة فحسب، بل أيضاً بسبب التأثير المحتمل في استثماراتها الضخمة في مختلف المشروعات الإقليمية. تشمل تلك المشروعات خط أنابيب الغاز العابر للصحراء بطول 4,100 كيلومتر لتصدير الغاز الطبيعي النيجيري إلى أوروبا عبر النيجر والجزائر، والطريق السريع العابر للصحراء بطول 4,800 كيلومتر تقريباً الرابط بين الجزائر العاصمة ولاغوس عبر النيجر أيضاً. ومن شأن الصراع أو استمرار الاضطرابات أن يعرّض للخطر هذه المشروعات والعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية التي بنتها الجزائر على مرّ السنين مع جيرانها في منطقة الساحل، فضلاً عن تسريع وتيرة تدفّق المهاجرين على أراضيها في محاولاتهم للوصول إلى أوروبا.

 

لا تنبع الاضطرابات في منطقة الساحل من الظروف الاجتماعية والاقتصادية وتغيّر المناخ والصراع فحسب، بل أيضاً من طبيعة الأنظمة العسكرية الجديدة نفسها. فعلى الرغم من شعاراتها القومية والشعبوية، لا تزال فتيّة سياسياً وتفتقر إلى أي رؤية على المدى الطويل. وفي مالي، ظهرت توترات بين المجلس العسكري ورئيس الوزراء شوغويل مايغا ومعاونيه المدنيين من معارضي إبقاء الضباط في السلطة لسنوات أخرى وترقيتهم إلى جنرالات. أمّا عن تأسيس تحالف دول الساحل على يد مجالس بوركينا فاسو ومالي والنيجر في سبتمبر 2023 ليكون أساساً لاتحاد كونفدرالي أكبر، ومحاولة تلك المجالس في فبراير 2024 طرح عملة مشتركة من أجل «إنهاء الاستعمار»، فإنّها على الأرجح مجرّد مساعٍ مثالية. علاوة على ذلك، قد تكون المناورات العسكرية المشتركة بين الدول الثلاثة، إلى جانب تشاد وتوغو، والمموّلة من ألمانيا لمحاربة الجهاديين في منطقة الساحل – كما يُزعَم – غير مجدية وتزيد من تعقيد الوضع الأمني.

 

يكمن الخطر الأكبر لإعادة رسم معالم المشهد الجيوسياسي في منطقة الساحل في إمكانية تحوّل هذه المجالس العسكرية إلى مجرد بيادق بدلاً من جهات فاعلة بإرادة حقيقية. فهي تفتقر إلى إستراتيجية واضحة ورؤية إستراتيجية قادرة على ضمان الأمن اللازم للتنمية الاقتصادية والاستقرار في المنطقة. وهذا من شأنه ترك الباب مفتوحاً أمام تدافعٍ جديد إلى أفريقيا، يكون الساحل مدخله الرئيس.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاحتجاجات والثورات، الحرب الأهلية، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، السياسة الأمريكية الخارجية
البلد: إيران، الإمارات العربية المتحدة، تركيا

المؤلّفون

زميل أوّل غير مقيم
يحيى ح. زبير هو زميل أول غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية وبروفيسور في الدراسات الدولية والجغرافيا السياسية في عدد من الجامعات وكليات الأعمال في فرنسا والولايات المتحدة والصين، بالإضافة إلى أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وغيرها. وكان في العام 2020 زميلاً زائراً في مركز بروكنجز الدوحة. وهو متخصّص في سياسات شمال أفريقيا… Continue reading منطقة الساحل فريسة التنافسات الدولية وسط سلسلة من الانقلابات
باحث في الشؤون الجيوسياسية ومستشار
عبد القادر عبد الرحمن هو باحث في الشؤون الجيوسياسية ومستشار دولي في قضايا السلام والأمن في أفريقيا ومنطقة الساحل. وهو عضو  في المجلس الاستشاري لشركة بريهون الاستشارية (Brehon Advisory Ltd). كان في السابق باحثاً أول في معهد الدراسات الأمنية في أديس أبابا، إثيوبيا وداكار، السنغال.