مشهد طائرات الشحن العسكرية الأمريكية وهي تلقي من الجوّ نحو 38 ألف وجبة جاهزة للفلسطينيين المُحاصرين في قطاع غزّة والذين يعانون سوء التغذية، في حين تقف 2,000 شاحنة مساعدات في طابور طويل عند معبر رفح الحدودي مع مصر، كان مشهداً مُثِيراً لِلْعَجَب، وقد سلّط الضوء على يأس سكّان غزّة، وفشل المجتمع الدولي المتعمّد في مساعدتهم.
يشكّل الإنزال الجوّي للمساعدات فتاتاً أمام احتياجات الفلسطينيين المُحاصرين تحت القصف في قطاع غزّة، والذين يقفون على حافة مجاعة هي إلى حدّ بعيد من صنع إسرائيل. كما أنّه مثال صارخ على ضعف الولايات المتّحدة في مواجهة التعنّت الإسرائيلي، والخروقات الفظيعة لاتفاقية الإبادة الجماعية، والانتهاكات الصارخة للحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية في 26 يناير 2024. وفي الواقع، إنّ عملية إلقاء هذه المساعدات مهينة للولايات المتّحدة، وتهدف، بحسب أحد عمّال الإغاثة إلى «إراحة ضمائر» المسؤولين في واشنطن. وفي العموم، أظهرت هذه التدابير فشل الدول الأطراف الثالثة في تحمّل مسؤوليّاتها بموجب القانون الدولي.
استخدمت إسرائيل تجويع المدنيين المتعمّد وإعاقة وصول المساعدات الإنسانية – وهو أحد التكتيكات الحربية الفظيعة، إنّما المنتشرة– كسلاح لكسر المقاومة في قطاع غزّة. وهو يُستخدم أيضاً كورقة مساومة، لاسيّما في هذه المرحلة الحسّاسة من مفاوضات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل. لكن ما الذي يمكن فعله حين يصدر حظر قانوني على جريمة دولية ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وأمر قضائي بوقف الانتهاكات، إن لم يكن هناك آليات للتنفيذ؟
صُدِم العالم بحجم جرائم الحرب الإسرائيلية وخطورتها في قطاع غزّة، فاستهدافها للمدنيين الفلسطينيين يُظهر ازدراءها بقواعد النظام الدولي. يُلزِم الأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية في يناير 2024، إسرائيل بموجبات قانونية، ويلقي مسؤوليّات على الدول الأطراف الثالثة، خصوصاً الدول التي تسهّل الحملة العسكرية الإسرائيلية، التي قتلت أكثر من 30 ألف شخص – معظمهم من النساء والأطفال – وأصابت 72 ألفاً آخرين، ودمّرت قطاع غزة وهجّرت قسراً معظم سكّانه. ولم تكن هذه الفظائع مُمكنة لولا الدعم الثابت للولايات المتحدة وانخراطها العميق في الحرب.
بعد مرور أكثر من شهر على إصدار محكمة العدل الدولية، وبإجماع شبه مطلق، حكمها بخصوص التدابير المؤقتة لتطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، تستمرّ حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية بكل عناد وقساوة. لقد أمرت المحكمة إسرائيل بـ «اتخاذ إجراءات فورية وفعّالة للسماح بتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تمسّ الحاجة إليها»، ومنحتها شهراً واحداً لتقديم تقرير بشأن التدابير التي اتخدتها للامتثال لهذا القرار.
رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية، وتوعّد بأنّ إسرائيل «سوف تواصل الدفاع عن نفسها وعن مواطنيها» بالتوازي مع التزامها بالقانون الدولي. ومع رفض التراجع عن المسار العدائي، قتل الجيش الإسرائيلي ما لا يقل عن 3,500 فلسطيني، بمعدّل 120 يومياً، منذ صدور حكم محكمة العدل الدولية. وأصيب ما لا يقل عن 5,250 فلسطينياً في الهجمات الإسرائيلية. وفي مفارقة قاسية، قُتِل 115 شخصاً وجُرِح 700 آخرون أثناء تجمّعهم حول قافلة مساعدات في مدينة غزّة في 29 فبراير. وفي حين اتّهم مسؤولو الصحّة الفلسطينيون إسرائيل بإطلاق النار على الحشود، زعمت إسرائيل أنّهم ماتوا بسبب التدافع.
يوضح القانون الدولي الإنساني – وهو مجموعة القواعد القانونية التي تحكم النزاعات المسلّحة – أن التجويع المتعمّد للسكّان المدنيين من أجل تحقيق مكاسب عسكرية هو جريمة حرب. لا يزال يعيش نحو 300 ألف فلسطيني، في المحافظات الشمالية من القطاع – المعزولة عن المحافظات الجنوبية والمدمّرة بالكامل – وهؤلاء يتضورون جوعاً، ويأكلون علف الحيوانات منذ شهرين بسبب القيود التي تفرضها إسرائيل على وصول المساعدات. ووفقاً لوزارة الصحّة الفلسطينية، توفي 15 طفلاً بسبب الجوع في مستشفى واحد فقط.
وذكر تقرير للأمم المتّحدة صادر في 18 مارس عن عدد من الوكالات المكلّفة بمراقبة المجاعة، أنّ 677 ألف شخص في قطاع غزّة يواجهون «أعلى مستوى من الجوع الكارثي». وحتى في مدينة رفح، التي يُفترض أنّها منطقة آمنة وتؤوي الآن نحو 1,5 مليون فلسطيني نزحت غالبيتهم في وقت سابق من الحرب، تسبّبت إسرائيل في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بين المدنيين. ولا يزال نتنياهو يصرّ على مواصلة إسرائيل خططها لغزو المدينة الجنوبية. ببساطة، لا مكان آمناً في قطاع غزّة.
بموجب القانون الدولي، تتحمّل إسرائيل، باعتبارها قوّة احتلال، مسؤوليّات وواجبات قانونية محدّدة تجاه السكّان المدنيين في قطاع غزّة. فهي ليست مُلزَمة بعدم الإضرار بهم فحسب، بل بحمايتهم أيضاً. وباعتبارها دولة موقّعة على اتفاقيات جنيف، فإنّ إسرائيل مُلزَمة دولياً بحماية السكّان المدنيين الواقعين تحت احتلالها وضمان رفاهيتهم وحقوق الإنسان الخاصّة بهم. وتنصّ المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة على حظر العقاب الجماعي، وتلزم المادة 59 المحتل بتسهيل جهود وخطط الإغاثة في حال عدم توفّر إمدادات كافية في المناطق الواقعة تحت سيطرته. لم تتقيّد إسرائيل بأي من هذه الالتزامات.
إنّ الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية في 26 يناير واضح: على إسرائيل وقف أعمال الإبادة الجماعية، والحفاظ على الأدلّة التي تثبت وقوعها، ومنع التحريض على أعمال الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وفي ضوء الأزمة الإنسانية المتفاقمة في القطاع، عادت جنوب أفريقيا إلى المحكمة في 6 مارس، لطلب اتّخاذ إجراءات طارئة إضافية ضدّ إسرائيل من أجل تجنّب «التجويع الجماعي» في قطاع غزّة، وقالت بريتوريا إنّ إسرائيل تنتهك الحكم الأولي الصادر عن المحكمة، وتهدّد الفلسطينيين في قطاع غزّة بمجاعة جماعية.
التزامات الدول الأطراف الثالثة
مع ذلك، إنّ الالتزام بمنع الإبادة الجماعية لا تتحمّله إسرائيل وحدها، إنّه مبدأ أساسي منصوص عليه في اتفاقية الإبادة الجماعية، ويفرض موجبات قانونية على الدول من أجل منع أعمال الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها وحماية الأفراد والمجموعات من فظائع مماثلة. وينطبق هذا الواجب القانوني المستند إلى المعاهدات على جميع الدول المتورّطة في الحرب الحالية على قطاع غزّة.
وبالنظر إلى الخروقات الإسرائيلية المستمرّة لاتفاقية الإبادة الجماعية، والانتهاكات الواضحة والمستمرّة للإجراءات المؤقّتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية في 26 يناير، يتعيّن على الدول الأطراف الثالثة ممارسة نفوذها لضمان امتثال إسرائيل. والدول التي تدعم إسرائيل سياسياً ومالياً أو عسكرياً مسؤولة أيضاً، إمّا عن الفشل في منع الإبادة الجماعية (المادة الأولى) أو عن التواطؤ في الإبادة الجماعية (المادة الثالثة، البند هاء).
الولايات المتّحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على وقف حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين. مع ذلك، أكّد الرئيس جو بايدن، في خطاب حالة الاتحاد الأخير، على حاجة الفلسطينيين إلى المساعدات الإنسانية وحلّ الدولتين، لكنّه لم يعطِ أي إشارة إلى تدخّله لمنع إسرائيل من مواصلة حربها ضدّ الفلسطينيين.
إنّ دعوة إسرائيل للسماح بوصول المساعدات إلى الفلسطينيين لا تعفي الولايات المتّحدة، أو حلفاءها الأوروبيين، من تواطئهم في سياسات الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل. وبوصفهم موقّعين على اتفاقية الإبادة الجماعية، لا تعفيهم من واجبهم بممارسة كل نفوذهم، بما فيه فرض العقوبات، وقطع العلاقات الدبلوماسية، وحظر توريد الأسلحة، لضمان امتثال إسرائيل وتنفيذ وقف فوري ودائم ومستدام لإطلاق النار.
لم يعد الصمت خياراً أمام الحكومات الغربية. لقد حان الوقت لترجمة الأقوال إلى أفعال من أجل إنقاذ الفلسطينيين في قطاع غزّة وحمايتهم بموجب القانون الدولي، من أجل أن يستعيدوا كرامتهم.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفة حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.