تكثِّف المملكة العربيّة السعوديّة جهودها الدبلوماسيّة من أجل الانضمام إلى برنامج القتال الجوّي العالمي، وهو مسعى مُشترك بين اليابان وبريطانيا وإيطاليا من أجل بناء طائرات مُقاتِلة من الجيل التالي. عندما زار رئيس الوزراء اليابان فوميو كيشيدا المملكة العربيّة السعوديّة في يوليو الماضي، طلب منه ولي العهد الأمير السعوي محمد بن سلمان مباشرة الانضمام إلى التحالف. ولكن فيما ترحّب بريطانيا وإيطاليا بالعرض السعودي، قال تقرير في صحيفة فايننشال تايمز إنّ اليابان “تعارضه بشدّة”. ويدمج المشروع، الذي أُعلِن عنه في ديسمبر 2022، بين مشروعين لتطوير طائرات مُقاتلة من الجيل التالي، هما Mitsubishi FX اليابانية وTempest البريطانية، وذلك لتقاسم تكاليف التطوير. وفيما تتعاون اليابان وبريطانيا على تطوير تكنولوجيا المُحرّكات منذ العام 2021، لم تقم السعوديّة بأي مشروعٍ مماثلٍ، وتحاول حالياً الانضمام إلى البرنامج كخطوة نحو تطوير صناعة الأسلحة الخاصّة بها.
لقد شكَّل قرار اليابان في العام الماضي بإنتاج طائرات مُقاتلة مع بريطانيا وإيطاليا نقطة تحوُّل رئيسة في سياستها الدفاعيّة التي لطالما اعتمدت حصراً على الأسلحة الأمريكيّة أو المحلّية الصنع. قد يكون العمل مع السعوديّة بمثابة تحوّل كبير آخر، وإنّما أيضاً فرصة ذهبيّة نادرة لليابان لزيادة نفوذها العالمي والاستحواذ على أسواق جديدة.
التردُّد الياباني
ذكرت صحيفة فايننشال تايمز سببين لمعارضة اليابان مشاركة السعوديّة في برنامج القتال الجوّي العالمي. أولاً، لأنَّ هذه المشاركة ستعقِّد النقاشات بشأن الدول التي يمكن لليابان أن تبيعها أسلحتها؛ وثانياً، لأنَّها قد تؤخِّر تسليم المقاتلات.
يبدو السبب الأول مُضلِّلاً بعض الشيء. بطبيعة الحال، قد يكون في بال الدول المشاركة لائحة مختلفة من العملاء لبيعهم الطائرات المُقاتلة الجديدة، ونظرياً يمكن لكلِّ دولة أن تضع فيتو على بيع المُقاتلات الحربيّة إلى دولة مُعيّنة. ولكن لا ينطبق أيٌّ من ذلك على موقف المسؤولين اليابانيين، بل ربّما تعتبر طوكيو أنَّ السعوديَّة ليست حليفة موثوقة لكي تبيعها طائرات مُقاتلة من الجيل التالي، لا سيَّما أنَّها لم ترفع الحظر على تصدير الأسلحة اليابانيَّة المفروض منذ الحرب العالميَّة الثانية إلّا في العام 2014. لكن بريطانيا وإيطاليا، اللتين صدّرتا الأسلحة بكثافة إلى السعوديَّة على الرغم من الجدل الداخلي بشأن كيفيّة استخدام تلك الأسلحة في أماكن مثل اليمن، لا تشاركان اليابان المخاوف نفسها. وبالنظر إلى الخطوات الأخيرة من أجل توطيد العلاقات بين المملكة العربيَّة السعوديَّة والصين – منافِسة اليابان – على طوكيو أن تحسم موقفها ممّا إذا الرياض شريكة جديرة بالثقة. وفي حين، من المرجَّح أن تصدِّر اليابان الطائرات إلى دول جنوب شرق آسيا والهند، لم تعتمد السعوديّة كوجهة لصادراتها، أقلّه في البداية.
والسبب الثاني مفهوم أيضاً. فالمملكة العربيّة السعوديّة، التي تهدف إلى توطين 50 في المئة من مشترياتها الدفاعيّة بحلول العام 2030، ستطالب حتماً بإنتاج أجزاء كثيرة من المُقاتلات على أراضيها. وهذا قد يؤدّي إلى تأخيرات في التسليم، حيث سيتعيَّن على اليابان وبريطانيا وإيطاليا المُساعدة في تأسيس قطاع الدفاع الناشئ في الدولة الخليجيّة، في حين لا يمكن لليابان أن تتحمّل أي تأخير في التسليم خصوصاً أنَّها تُخطِّط لاستخدام الطائرات المُقاتلة كبديلٍ عن الطائرة الأمريكيّة اليابانية من طراز ميتسوبيشي إف-2، التي من المقرَّر أن تخرج من الخدمة في العام 2035.
الأسلحة والاقتصاد والنفوذ
على الرغم من هذه المخاوف، قد يعزِّز ضمّ المملكة العربيّة السعوديّة إلى تحالف برنامج القتال الجوِّي العالمي المصالح الوطنيّة لليابان ونفوذها الدولي. فعلاقات اليابان القويّة تقليدياً مع المملكة هي علاقات اقتصاديّة بالأساس. وبالتالي، إذا أرادت اليابان بناء «علاقة خاصّة» مع المملكة العربيّة السعوديّة من خلال تطوير طائرات مُقاتلة من الجيل التالي، فسوف يعزِّز ذلك علاقتها مع المملكة التي تُعدُّ أكبر مورِّد طاقة لليابان، والقوّة الإقليميّة المُتزايدة الحزم.
ثانياً، قد يعزِّز ضمّ المملكة إلى التحالف مكانة اليابان على المستوى الدولي. لقد امتنعت اليابان عن تصدير الأسلحة منذ الحرب العالميّة الثانية، ممّا حدَّ من قدرتها على التأثير في مستورِدي الأسلحة. صحيحٌ أنَّ عدداً من البلدان، بما فيها المملكة العربيّة السعودية، قد نوَّعت في الآونة الأخيرة مصادر أسلحتها، وهذا ما حدَّ أكثر وأكثر من اكتساب نفوذٍ مماثلٍ. لكن لا تزال صادرات الأسلحة من الأدوات المفيدة من أجل التأثير في سياسات أي بلد. ومن المؤكَّد أيضاً أنّ السعوديّة، التي تتمتَّع بواحدة من أكبر الميزانيَّات العسكريَّة في العالم، سوف تشتري الكثير من طائرات برنامج القتال الجوِّي العالمي إذا انضمَّت إلى التحالف، وسوف تساعد في تأمين الأسواق بين حلفائها في جميع أنحاء المنطقة. لقد أصبحت المملكة العربيَّة السعوديَّة جهة فاعلة رئيسة في الجنوب العالمي، ومن المقرَّر أن تنضمَّ إلى مجموعة البريكس في العام المقبل، وهذا ما يُعظِّم، أكثر من أي وقتٍ مضى، أهمِّية إبقائها ضمن التحالف الأوسع الذي تقوده اليابان والدول الغربيَّة.
ثالثاً، قد يساعد انضمام السعوديّة أيضاً في منع الصين وروسيا من بيع طائرات مُقاتلة للمملكة. وعلى الرغم من أنَّ المملكة العربيّة السعوديّة تعزّز في الآونة الأخيرة علاقاتها الاقتصاديّة مع الصين، فإنّ أسلحتها العسكريّة بمعظمها مصنوعة في الولايات المتّحدة وبريطانيا ودول أوروبيَّة أخرى. وهذا من الأسباب التي دفعت المملكة العربيّة السعوديّة إلى تحويل اهتمامها إلى برنامج القتال الجوّي العالمي الذي يشمل بريطانيا وإيطاليا. يمكن لليابان الاستفادة من مشاركة السعوديّة لكي تتحوَّل من جهة هامشيّة في سوق تصدير الأسلحة إلى جهة رئيسة، وهذه فرصة كبيرة. فقد حظرت الحكومات اليابانيّة تصدير الأسلحة منذ فترة طويلة، ويعتقد كثيرون في اليابان أنَّ التوسُّع العسكري قد يؤدِّي إلى مأساة أخرى شبيهة بالحرب العالميَّة الثانية. مع ذلك، ونظراً لصعود الصين والدعوات المُتزايدة محلّياً لكي تصبح اليابان «دولة طبيعيّة» قادرة على تصدير الأسلحة، رفعت الحكومة اليابانيّة الحظر في العام 2014، ولكنها لا تزال تفرض معايير صارمة تحدُّ من الأسلحة التي يمكن تصديرها والدول التي يمكنها الحصول عليها. وإذا أضيفت السعوديّة إلى تحالف برنامج القتال الجوّي العالمي، فقد تُستَخدَم الأسلحة اليابانية الصنع في السعوديّة، التي تُعدُّ واحدة من أكبر أسواق الأسلحة في العالم، وسوف تتمكَّن اليابان بسرعة من اللحاق بمصدِّري الأسلحة الآخرين.
مع ذلك، لا يخلو دخول المملكة العربيّة السعوديّة إلى التحالف من المخاطر. يتوقّع مُخطِّطو الدفاع اليابانيون استلام الطائرات المُقاتلة الجديدة بحلول العام 2035، وهم حريصون على تجنُّب حدوث أي تأخير في الجدول الزمني. وقد ذكرت وكالة رويترز أنّ الأعضاء الحاليين في البرنامج اتفقوا في مارس الماضي على بروتوكول من أجل تقاسم تكاليف الإنتاج، لكن إذا انضمّت السعوديّة إلى البرنامج فسوف تُستأنَف هذه المناقشات من الصفر. بالإضافة إلى ذلك، تتعاون السعوديّة مع الصين في عدد من المجالات، بما فيها الطائرات العسكريَّة من دون طيَّار والصواريخ الباليستيّة وشبكة اتصالات الجيل الخامس، لذلك يجب على أعضاء التحالف التشدُّد في حفظ الأسرار المُتعلِّقة بالطائرات الجديدة. فضلاً عن ذلك، قد يكون الرأي العام الياباني متردّداً حيال ضمِّ المملكة العربيَّة السعوديَّة، بسبب سجّلها من العمليّات العسكريّة في اليمن. وهذا يعني أنّ المملكة سوف تحتاج إلى مواصلة جهودها الدبلوماسيّة الحالية من أجل تخفيف التوتّرات مع جيرانها.
القلق البريطاني
على اليابان أن تضع أيضاً في اعتبارها أنّ معارضتها المستمرّة لانضمام السعوديّة إلى برنامج القتال الجوّي العالمي، قد تؤدّي إلى تدهور علاقتها، لا مع السعوديّة فحسب، ولكن مع بريطانيا أيضاً. لطالما كانت المملكة من أهمّ مستوردي صناعة الدفاع في بريطانيا، وتريد الأخيرة تأمين حصَّتها في السوق المستقبليّة. وفقاً لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، كانت السعوديّة أكبر مستورد للأسلحة البريطانيَّة بين العامين 2013 و2022، وقد استحوذت على نسبة 32 في المئة من مجمل الصادرات. وفي حال رَبَطَ السعوديون وارداتهم المستقبليّة من الأسلحة بإدراجهم في برنامج القتال الجوّي العالمي، فلن تنظر بريطانيا بتفهُّمٍ إلى المعارضة اليابانيّة. بالإضافة إلى ذلك، من المؤكَّد أنَّ بريطانيا تتوقّع مساهمة سعوديَّة ماليّة في المشروع، والتي قد تكون أكثر جاذبيّة من مساهمة اليابان التقنية والماليّة. ومن المرجّح أن يُدرج المشروع على جدول أعمال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في خلال زيارته إلى بريطانيا في وقتٍ لاحقٍ من هذا العام.
تحتاج اليابان إلى إعادة النظر في معارضتها لمشاركة المملكة العربيّة السعوديّة في برنامج القتال الجوّي العالمي من أجل زيادة نفوذها الدولي، وتأمين أسواق أسلحة جديدة، وإرضاء حلفائها لا سيَّما بريطانيا. ومن شأن إقصاء السعوديّة، وهي جهة فاعلة رئيسة في الشرق الأوسط والجنوب العالمي، أن يقرِّب الرياض من الصين وروسيا. ولكن من أجل إنجاح هذه الشراكة، لا بدّ من معالجة التحدّيات التي تعترضها كالالتزام بجداول التسليم وحماية أسرار الدفاع.