شكّل إعلان 6 مارس عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران لحظة مهمّة للشرق الأوسط. يمكن للاتفاق الذي توسّطت الصين في تحقيقه إنهاء الصراع المدمّر المستمرّ منذ ثماني سنوات في اليمن، ومعالجة التوتّرات الجيوسياسية في بلدان أخرى. من وجهة نظر السعودية، قد ينهي هذا الاتفاق الهجمات الإيرانية بالوكالة على منشآت النفط السعودية، ومن ضمنها غارات الطائرات بدون طيار التي يشنّها من اليمن الحوثيون المدعومون من إيران. وبالنسبة للإيرانيين، يمكن للاتفاق أن يخفّف الضغوط الخارجية على الجمهورية الإسلامية وحكّامها الذين يقارعون انتفاضة وجودية غير مسبوقة.
مع ذلك، لن يجلب هذا الاتفاق السلام إلى منطقة الشرق الأوسط الأوسع في الوقت القريب. فقد انغمست المملكة العربية السعودية وإيران لعقدين من الزمن في حروبٍ بالوكالة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، كجزءٍ من صراع إقليمي شرس على النفوذ الجيوسياسي. وقد دعمت إيران وخصومها العرب عشرات المجموعات المتنافسة لتعزيز تطلعاتها الإقليمية، وصبغت الصراعات الأهلية بطابع إقليمي وكثّفتها، ممّا أودى بحياة مئات الآلاف وشرّد الملايين. وفي غضون ذلك، ظهرت جهات مسلّحة غير حكومية كأطراف فاعلة قويّة تمتلك القدرة ولديها أجنداتها الخاصّة. حتى لو عادت المياه إلى مجاريها بين الرياض وطهران، سيكون من الصعب جداً عليهما كبح جماح هذه القوّات التي أطلقتا عنانها، وسيكون لوكلائهما رأي حاسم في مستقبل المنطقة.
الاستفادة من الصراع
لقد ضخّت قوى من الشرق الأوسط والغرب، بما فيها المملكة العربية السعودية وإيران، في خلال العقد الماضي موارد هائلة لتغذية الصراعات بالوكالة. وقد أدّى ذلك إلى تنامي المجموعات المسلّحة التي استفادت من الصراع وانهيار الدولة ودعم الرعاة الخارجيين للتحوّل من ميليشيات غير منظّمة إلى جهات فاعلة اجتماعية وسياسية منظّمة وقويّة وغنية بالموارد.
اليوم، مئات الآلاف من المقاتلين المنتمين إلى مجموعات مسلّحة موزّعون في جميع أنحاء سوريا والعراق واليمن وليبيا. وقد شكّل اشتداد الصراعات التي أجّجها داعمون خارجيون الظروف المؤاتية لنموّ هذه المجموعات وانتشارها، كما وأنّ إراقة الدماء منذ الثورات العربية في العام 2011، قد خلقت فرصة للمجموعات الأكثر رسوخاً وتنظيماً، مثل حزب الله في لبنان وعصائب أهل الحقّ في العراق والحوثيين في اليمن، لرفد صفوفها بعناصر يعانون أوضاعاً إقتصادية مريرة ويشعرون بالظلم السياسي، ما يعزّز قبضة هذه المجموعات على الدولة والمجتمع.
وقد أضعفت ثورات الربيع العربي والصراعات الأهلية التي تلتها وتحوّلت إلى حروب بالوكالة مؤسّسات الدولة وأشعلت فتيل الاضطرابات، الأمر الذي مهَّد الطريق للمجموعات المُسلّحة لإعادة تشكيل هيكليات الدولة والأنظمة السياسية المحلّية. وقد حقّق بعض المجموعات ذلك، مثل الحشد الشعبي في العراق، من خلال فوزه بمقاعد برلمانية وسيطرته على بعض الوزارات، فيما أقامت مجموعات أخرى حكماً محلياً حلَّ مكان الدولة المركزية الضعيفة. على سبيل المثال، لا تزال وحدات حماية الشعب تحكم فبضتها على مقاطعة كردية مستقلّة في شمال شرق سوريا، فيما تبسط هيئة تحرير الشام سيطرتها في مقاطعة إدلب كمزوّد رئيسيّ للأمن. وفي العراق، تسيطر عصائب أهل الحق، التي تهدِّد السعودية بانتظام على 15 مقعداً في البرلمان العراقي، فيما يحكم الحوثيون المناطق التي يسيطرون عليها في اليمن.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلّ ذلك يحدث في ظلّ أوضاع إنسانية صعبة. فقد دفعت الحرب في سوريا أكثر من 14 مليون شخص إلى النزوح، ووفقاً للتقديرات الرسمية قُتِل ما لا يقل عن 300 ألف شخص أي حوالي نسبة 1,5 في المئة من سكّان سوريا قبل الحرب. وقد يكون الرقم الحقيقي أعلى بكثير. وتشير الأرقام إلى أنّ حوالي 15 مليون شخص في سوريا و21 مليوناً في اليمن وأكثر من 2,4 مليون في ليبيا هم بحاجة إلى مساعدات إنسانية، مع العلم أنّ ليبيا تنعم بثروات نفطية هائلة. وإن دلّت هذه الأزمات على شيء، فهي تدلّ على أنّ هذه المجتمعات ستعاني على الأرجح فقراً مدقعاً لوقت طويل. وفيما يشكّل ذلك أرضاً خصبة لمستقبل المجموعات المسلّحة، إلّا أنّه يعرقل الجهود المبذولة لمنع العودة إلى الصراع وبالتالي لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
محادثات سلام همّشت المجموعات المسلّحة غير الحكومية
يرتكز الاتفاق بين السعودية وإيران على تحقيق الاستقرار في المنطقة. مع ذلك، تعدُّ عملية السلام إشكالية بين هذه الدول التي تهدف إلى إنهاء حروبها بالوكالة لأنها تُهمِّش الأطراف المُتصارعة على الأرض. فضلاً عن ذلك، فشل الاتفاق في تعليل الخلافات المحلّية التي شكّلت التنافس بين الرياض وطهران. إنّ الصراع في الشرق الأوسط مُتجذّر أيضاً في عوامل محلية ومنافسات داخلية تتجاوز تأثير القوى الإقليمية. إذ انبثقت الحروب في سوريا وليبيا واليمن من مظالم السكّان المحلّيين في سياق الربيع العربي. بعبارة أخرى، السلام بين المملكة العربية السعودية وإيران، وفي منطقة الشرق الأوسط ككلّ، سوف تحدّده السياسات والاعتبارات المحلّية داخل دول الصراع ذاتها.
وفي هذه الدول، ستحدّد مجموعات مثل حزب الله والحوثيين وهيئة تحرير الشام ميزان القوى على الأرض. ومن غير المرجّح أنها ستقدّم تنازلات من شأنها أن تقوِّض مكانتها، خصوصاً أنّها مرنة ومستقلّة بما فيه الكفاية للعمل والازدهار في غياب الرعاية الخارجية. لا شكّ في أنّ هذه المجموعات المسلّحة اعتمدت على جهات خارجية لتقوية مواقفها وترسيخ نفوذها، ولكنّها في الوقت نفسه لديها موارد محلّية هائلة، وتمتلك طرقاً لتأمين موارد إضافية من خارج حدودها. وتتدفّق إيراداتها من مصادر مُتعدّدة، ومن ضمنها التجارة غير المشروعة عبر الحدود، والرعاية الأجنبية، والموارد الطبيعية، والابتزاز والاستحواذ بالقوّة.
فضلاً عن ذلك، من الصعب التصوّر أن تتخلّى إيران عن وكلائها أو كبح جماحهم، خصوصاً أنّها قد بدّلت طريقة عرض الجمهورية الإسلامية قوّتها وإبرازها. فقد نما نفوذ إيران في المنطقة بشكل كبير منذ غزو العراق في العام 2003، وتنامى أكثر منذ اندلاع الحروب الأهلية في سوريا واليمن، بالتوازي مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية. في سوريا وحدها، حشدت إيران عشرات الآلاف من مقاتلي حزب الله والميليشيات الشيعية من العراق وباكستان وأفغانستان للقتال إلى جانب النظام السوري، وما زالت تشرف عليهم.
وقد حوّلت هذه الميليشيات مساحات شاسعة من الأراضي في سوريا إلى ممرّات تسيطر عليها إيران، ومنصّات لشنّ الهجمات على خصومها. حزب الله والميليشيات العراقية مثل منظّمة بدر وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وحركة النجباء، بتوجيه من الحرس الثوري الإيراني وتحت رعايته، تعيد تشكيل سوريا ومجتمعها وفق مصالح إيران وأيديولوجيّتها، وبالطريقة نفسها التي اعتمدتها في العراق. تواصل المجموعات الوكيلة لإيران ترسيخ مواقفها وتوطيدها، ولديها خططها ورؤاها الخاصّة التي ستحدّد بدورها ملامح السلام والأمن الإقليميين.
لا تفتقر الصراعات في الشرق الأوسط إلى اتفاقيات السلام المزعومة. في سوريا، فشلت معظم تلك الاتفاقات لأنّ المفاوضين لم يتصرّفوا بحسن نية، واستخدموا المحادثات كستائر من دخان للإلهاء عن الفظائع التي يرتكبونها. اتّسمت المحادثات أيضاً بغياب ممثّلين عن الأطراف المتحاربة الرئيسية. وستظلّ هكذا محادثات عقيمة طالما أنّها لا تضمّ هذه المجموعات. على الصين والوسطاء الآخرين أن يدركوا أنّ السلام في الشرق الأوسط يعتمد في نهاية المطاف على إعادة تأهيل المؤسّسات التي دمّرها الصراع وبناء مؤسّسات يمكنها تطبيق حكم القانون وتحقيق المحاسبة والتخلّي عن المجموعات المسلّحة غير الحكومية.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.