شكّلت مصافحة الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والمصري عبد الفتاح السيسي في 20 نوفمبر الماضي، نقطة تحوّل في علاقة البلدين التي انقطعت لأكثر من عقد بسبب الاختلافات العميقة حول حركات احتجاج الربيع العربي. وفي اليوم نفسه، شنّت تركيا ضربات جوّية ضدّ مقاتلين أكراد في شمال سوريا وسط تهديدات متزايدة بشنّ عملية برّية كبيرة. فلماذا تتحرّك أنقرة لإصلاح العلاقات مع بعض ألدّ منافسيها الإقليميين فيما تصعّد تجاه الآخرين؟
هذان الاتجاهان المتناقضان في الظاهر هما في الواقع أجزاء متكاملة ضمن استراتيجية أنقرة الإقليمية لاجتياز حقبة ما بعد الربيع العربي، وهي سياسة تقضي بإعادة ضبط العلاقات مع بعض الأطراف والتصعيد ضدّ آخرين. تحرّكت تركيا في الأشهر الأخيرة لرأب الصدع في علاقاتها مع عدد من منافسيها الإقليميين، لا سيّما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة ومصر وإسرائيل، وهذا ما يُظهِر عزمها على تحييد هذه الصراعات الهامشية من أجل التركيز على عدد من الأهداف الأساسية في سياستها الخارجية، وأبرزها عرقلة التطلّعات القومية والجيوسياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يُهيمن عليه الأكراد السوريون، ووحدات حماية الشعب المرتبطة به، فضلاً عن مواجهة خصمين رئيسيين وهما إيران واليونان.
يشكّل استمرار تفاقم الأزمة الاقتصادية مصدر قلق كبير لتركيا مع اقتراب موعد انتخابات 2023. تأمل أنقرة أن يساعدها تقريب العلاقات مع الدول الخليجية في تأمين استثمارات مالية. وبالفعل، هي في صدد إجراء مفاوضات للحصول على قرض بقيمة 5 مليارات دولار من الرياض، بالإضافة إلى مناقشات منفصلة مع الإمارات العربية المتّحدة بشأن اتفاقية التجارة الحرّة. مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرّر إجراؤها في يونيو المقبل، سيكون توقيت أي خطّة إنقاذ مالية خليجية، بأهميّة الاستثمار نفسه، مهمّاً وحافزاً آخر لتسريع التقارب.
في ذروة الربيع العربي، وضع أردوغان معارضته للسيسي، والرئيس السوري بشّار الأسد، والرئيس الإماراتي محمد بن زايد، ولاحقاً ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في قلب الهوية السياسية لحزبه في الداخل وهوية تركيا الجيوسياسية في المنطقة، متبنّياً بذلك ديناميكية مؤيّدة للثورة في مقابل أخرى رجعية، ساعدت في رسم معالم المنطقة لعقد من الزمن. أمّا الآن، فقد ولّت تلك الأيام، إذ يمكن اعتبار المصافحة بين أردوغان والسيسي بمثابة خاتمة رمزية للسياسة الإقليمية التركية التي شكّلها الربيع العربي واستمرّت لنحو عقد من الزمن.
على الجانب الآخر، تصعِّد تركيا ضدّ أعدائها وخصومها في جوارها المباشر. تكثّف أنقرة عمليّاتها العسكرية في شمال العراق وسوريا ضدّ حزب العمّال الكردستاني، وفروعه الكردية السورية أي حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب. كذلك صعّدت لهجتها ضدّ طهران (التي ردّت بالمثل)، وامتدّ التنافس التركي الإيراني إلى جنوب القوقاز والعراق وسوريا وما وراءها. أخيراً، على الرغم من أنّ أزمة شرق المتوسّط، التي حرَضت تركيا ضدّ مجموعة من الدول من ضمنها اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل والإمارات العربية المتّحدة وفرنسا بسبب مصادر الهيدروكربون والخلافات الحدودية والمطالب السيادية، أصبحت أقل توتراً مؤخّراً، إلّا أنّ العلاقات التركية اليونانية لا تزال متوتّرة أكثر من أي وقت مضى.
إجهاض النظام الجديد
أتى الاضطراب في علاقات تركيا مع مصر بعد الانقلاب، ومع الدول الخليجية، ولا سيّما الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية، نتيجة لموقفها من الربيع العربي. فقد عارضت هذه الحكومات دعم أنقرة للثورات ووصول الإسلام السياسي إلى الحكم في المنطقة، ورأت أنّ هذه الظواهر تهدّد وجودها. وتجلّى هذا التنافس أولاً في الخلاف السياسي والأيديولوجي، وثمّ في شكل المنافسة بين القوى الجيوسياسية في مناطق الصراع المختلفة في المنطقة.
كانت الثورات العربية سلمية وبقيادة مدنية عند اندلاعها، وركّزت على المطالب السياسية أكثر منها على هوية المتظاهرين، وتمّ تأطير المناقشات الدولية والإقليمية حول هذه الثورات بلغة الدمقرطة والإصلاح السياسي وتغيير النظام. افترضت هذه السردية ظهور نظام سياسي محلّي جديد داخل كلّ دولة، ونظام آخر إقليمي عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إلى ذلك، رأت تركيا أنّ لا مفرّ من هذا المسار فتحرّكت بسرعة لمناصرته. كان أردوغان أول زعيم دولي يدعو الرئيس المصري حسني مبارك للتنحّي في مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية.
اعتقدت الحكومة التركية أنّ هذا الموقف يخدم مصلحة البلاد الوطنية وصورتها، وأملت في أن يؤدّي التحوّل السياسي في المنطقة، الذي تهيمن عليه المجموعات الإسلامية، إلى ظهور حكومات موالية لتركيا ونظام إقليمي جديد تؤدّي فيه أنقرة دوراً قيادياً. عدا أنّ بروز الإسلام السياسي في الثورات العربية والسياسة الإقليمية في حينها استقطب أيضاً نخب أنقرة الذين ينحدرون من خلفيات إسلامية محافظة.
لكن أدّى هذا إلى مواجهة سياسية وأيديولوجية بين تركيا ومصر والإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية. وعندما عُسْكِرت الثورات وتحوّلت إلى حروب أهلية، اكتسبت هذه الصراعات أهمّية جيوسياسية، بحيث لجأت تركيا نفسها إلى الوسائل العسكرية. منذ النصف الثاني من العام 2016، شنّت أنقرة عدداً من العمليات العسكرية في سوريا والعراق، وانخرطت في دبلوماسية قسرية في مناطق أخرى، لا سيما في ليبيا وشرق المتوسط، في منافسة مع خصومها العرب وكذلك مع اليونان وفرنسا.
مع ذلك، بدءاً من أواخر عام 2020، بدأت تركيا مساعيها لإعادة ضبط علاقاتها السابقة مع خصومها العرب. وجاء هذا التحوّل نتيجة عوامل متعدّدة، مثل تغيّر طبيعة وجود الولايات المتّحدة في المنطقة، ووصول الصراعات الإقليمية إلى طريق مسدود، وظهور مرحلة ما بعد الربيع العربي التي يؤدّي فيها الإسلام السياسي دوراً محدوداً، فضلاً عن نشوء تحالف مناهض لتركيا في شرق المتوسط حول قضايا الطاقة والأمن ضمّ اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة وفرنسا. وكان كذلك للانكماش الاقتصادي المستمرّ في تركيا في خلال هذه الفترة تأثير كبير.
على نقيض تقاربها من الدول الخليجية ومصر، يبدو أنّ أنقرة تعتمد مقاربة التصعيد ضدّ خصومها الأساسيين التقليديين. التناقض واضح في حالة دمشق، عدو أنقرة من حقبة الربيع العربي، إذ يحرص أردوغان على التقارب مع النظام السوري، وحتى إجراء لقاء مُحتمل مع الأسد نفسه. ومن ناحية أخرى، يبدو أنّ أنقرة مصمّمة على عرقلة مشروع الحكم الذاتي الكردي السوري الذي يهيمن عليه حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، وتتّجه بخطى مدروسة نحو عملية عسكرية جديدة لتحقيق هذه الغاية.
وتعتبر تركيا أنّ هاتين السياستين متكاملتان لا متناقضتين، وتظنّ أنّ دمشق لن تعترض على فرض مزيدٍ من الضغوط على الحركة الكردية لأنّها قد تُضعِف الأخيرة في مواجهة النظام السوري، بما يخدم مصالح كلّ من دمشق وأنقرة. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه من المرجّح أن تبرز مسألة إعادة آلاف اللاجئين السوريين في تركيا في أي محادثة بين أنقرة ودمشق، لكن من غير المرجّح أن تحظى هذه المسألة باهتمام دمشق.
ومن المُحتمل أيضاً أن تزيد العدائية في العلاقات بين إيران وتركيا في المستقبل نظراً لسياساتهما المُتعارضة في العراق وسوريا وجنوب القوقاز. تدعم أنقرة الجهود الإقليمية لصدّ سياسة إيران التوسّعية في المنطقة، إلّا أنّه من غير المرجّح أن تنضم إلى أي استراتيجية احتواء مؤسّسية مُتعدّدة الأطراف وفق تصوّرات إسرائيل وبعض الدول الخليجية.
ويعود الصراع التركي اليوناني، الذي يُعبّر عنه في السرديات المتنافسة حول السيادة الوطنية، إلى فترة تأسيس كلا البلدين، علماً أنّ بعض الخلافات تمتدّ إلى فترات أقدم. لكن تدخّل مصر والإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية إلى جانب اليونان في أزمة شرق المتوسط المتعدّدة الأطراف كان جزئياً بمثابة ردٍّ على سياسة تركيا في خلال الربيع العربي، واعتبرتها تلك الدول أنّها تهدّد نظامها ومصالحها.
لذلك، من خلال إصلاح العلاقات مع الدول الخليجية وإسرائيل، تأمل تركيا في تقويض دعم هذه البلدان لليونان وقبرص، وتحويل أزمة شرق المتوسّط من مواجهة متعدّدة الأطراف تضع تركيا في مواجهة عدد من الدول إلى مجرّد أزمة ثنائية مع اليونان.
إجماع النخبة
على الرغم من مصافحة أردوغان والسيسي الودّية، ستستمرّ العديد من القضايا الشائكة في تعكير صفوّ العلاقات التركية المصرية في المستقبل المنظور، ومن ضمنها مستقبل ليبيا وشرق المتوسط، وبدرجة أقل إثيوبيا. مع ذلك، يمكن إدارة هذه الخلافات بشكل أفضل. في هذه المرحلة، تتمثّل الأولوية التركية الرئيسية في تجنّب انحياز القوى الإقليمية الرئيسية إلى طرف اليونان.
إنّ موقف تركيا من الربيع العربي ترك لها علاقات وثيقة مع المجموعات والشبكات الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة. مع ذلك، ونظراً لفشل الكثير من هذه المجموعات في الوصول إلى السلطة، أصبحت بمعظمها شبكات اجتماعية مؤيّدة لتركيا في أحسن الأحوال، عوضاً أن تكون مجموعات سياسية مؤثّرة.
تقوم سياسة تركيا الإقليمية في فترة ما بعد الربيع العربي على أربع ركائز: تحديد الأولويات، وتقليص انخراطها الواسع في قضايا المنطقة الذي طبع العقد الماضي إلى عدد محدود من القضايا الأساسية، بالإضافة إلى تحييد كتلة كبيرة من المعارضين من جميع أنحاء المنطقة وتأمين الدعم الاقتصادي الحيوي لتحقيق الاستقرار في اقتصادها المُنهك قبيل انتخابات 2023. وبما أنّ إعادة توجيه السياسة التركية تستند إلى إجماع النخبة من الحكومة والمعارضة التركية، يُرجّح إذاً أن يستمر الاتجاه الحالي المُتمثّل بإعادة الضبط والتصعيد تجاه الأطراف المختلفة بمعزل عن من يتولّى السلطة في أنقرة بعد العام المقبل.
كُتبت هذه المقالة أصلاً باللغة الإنكليزية وتُرجمت إلى اللغة العربية.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.