جائحة فيروس كورونا

المستجدّ في الخليج :

الآثار والاستجابات والتداعيات

مذكرة سياسات، يوليو 2022
مدير وزميل أوّل

3 يوليو، 2022

 

واجهت دول مجلس التعاون الخليجي على مدى العقد المنصرم تحديات متنامية لأمنها وازدهارها. فمنذ اندلاع احتجاجات الربيع العربي، ركّز القادة بشكل كبير على الاستقرار الداخلي وعلى الحاجة إلى إدارة الإصلاح، وسعَوا إلى الحدّ من اعتمادهم على العائدات من الهيدروكربون مع تنويع اقتصاداتهم في الوقت عينه. واستجابوا للتهديدات الخارجية المتصوّرة والبيئة الجيوسياسة المتغيّرة. وقد واجهوا هذه التحديات مؤخّراً في خلال فترة من أسعار النفط المنخفضة نسبياً، ممّا أجهد الموارد المالية ودفعهم إلى اعتماد إصلاحات مالية. وقد فاقمت جائحة فيروس كورونا المستجدّ الكثير من هذه التحديات وسيكون لها على الأرجح أثرٌ طويل المدى على اقتصادات المنطقة.1

 

تفشّي فيروس كورونا المستجدّ في الدول الخليجية

 

في 29 يناير 2020، أكدّت السلطات الصحّية في الإمارات العربية المتّحدة تسجيل أوّل إصابة بفيروس كورونا المستجدّ من خلال زائر كان قد أتى من الصين قبل 14 يوماً. وسجّلت البحرين أوّل إصابة لديها في 21 فبراير، وأكّدت عُمان والكويت تسجيلهما إصابات في 24 فبراير وقطر في 27 فبراير والمملكة العربية السعودية في 2 مارس. ويبدو أنّ كلّ إصابة من هذه الإصابات أتت من إيران. وفيما تزايد عدد حالات الإصابة ببطء في البداية في كلّ من هذه الدول، تسارعت الإصابات المؤكّدة بفيروس كورونا المستجدّ في أواسط مارس بعدما تمكّن الفيروس من التغلغل ضمن السكّان المقيمين، فارتفع عدد الإصابات اليومية بسرعة كبيرة (راجع الرسم البياني 1). ارتفع عدد الإصابات في دول مجلس التعاون الخليجي من 114 حالة مؤكّدة في 1 مارس، إلى 844 إصابة في 15 مارس ثمّ إلى 4056 بحلول 1 أبريل 2.2020

 

 

الرسم البياني 1: حالات الإصابة اليومية المؤكّدة بفيروس كورونا المستجدّ في دول مجلس التعاون الخليجي
الرسم البياني 1: حالات الإصابة اليومية المؤكّدة بفيروس كورونا المستجدّ في دول مجلس التعاون الخليجي
المصدر: Our World in Data COVID-19 Database3

 

وتابعت حالات الإصابة المؤكّدة في دول مجلس التعاون الخليجي بالازدياد بسرعة في خلال ربيع العام 2020، ثم أخذت بالاستقرار على امتداد فترة الصيف. مع ذلك، تخطّى مجموع عدد الإصابات في هذه الدول المليون حالة في أوائل يناير 2021 لتزيد عن المليوني حالة بحلول أوائل يونيو، وشهدت المنطقة في خلال ذلك عدّة موجات من الفيروس. وبحلول أواسط سبتمبر 2021، استقرّ مجموع الحالات في أرجاء دول مجلس التعاون الخليجي عند 2,5 مليون إصابة مع ارتفاع معدّلات التلقيح. ولكن، كما هو الحال في جميع أنحاء العالم، ارتفعت حالات الإصابة في الدول الخليجية مجدداً بعد ظهور متحوّر أوميكرون: بحلول منتصف يناير 2022، أي بعد حوالي عامين على تسجيل أوّل حالة إصابة في المنطقة، سُجّلت حوالي 2.8 مليون حالة، و3.7 مليون حالة بحلول منتصف يونيو 2022.

 

وبناء على أساس الفرد الواحد، بلغ عدد الإصابات في منتصف 2020 حوالي 62180 حالة لكلّ مليون نسمة (الرسم البياني 2). وهذا معدّل منخفض عند مقارنته بالدول ذات الدخل المرتفع، التي بلغ المعدّل فيها 258566 حالة لكلّ مليون نسمة، لكنّه معدّل أعلى من عدد الحالات للفرد الواحد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوسع، إذ سجّلت الدول التي لا تنتمي إلى مجلس التعاون الخليجي في هذه المنطقة 41188 حالة فقط لكلّ مليون نسمة.4 واللافت أنّ المملكة العربية السعودية، مع معدّل 17259 حالة لكلّ مليون نسمة، شهدت معدّلات إصابة أدنى من الدول المجاورة لها في مجلس التعاون الخليجي، فيما سجّلت البحرين (مع 4343148 حالة لكلّ مليون نسمة) أحد أعلى معدّلات الإصابة في العالم.5

 

الرسم البياني 2: حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجدّ لكلّ مليون شخص من السكّان في دول مجلس التعاون الخليجي وفي مناطق مقارنة
الرسم البياني 2: حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجدّ لكلّ مليون شخص من السكّان في دول مجلس التعاون الخليجي وفي مناطق مقارنة
المصدر: Our World in Data COVID-19 Database.6
ملاحظة: قام المؤلّف باحتساب مجموع الحالات في دول مجلس التعاون الخليجي والدول التي لا تنتمي إلى مجلس التعاون الخليجي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

 

وبقيت معدّلات الوفيات المرتبطة بالفيروس منخفضة في أرجاء دول مجلس التعاون الخليجي. فبحلول منتصف يونيو 2022، سجّلت منطقة الخليج 20466 حالة وفاة بسبب فيروس كورونا المستجدّ أو 344 حالة وفاة لكلّ مليون شخص من السكّان بناء على أساس الفرد الواحد. بالمقارنة، بلغ معدّل الوفيات بسبب فيروس كورونا المستجدّ في الدول ذات الدخل المرتفع 2003 حالة وفاة لكلّ مليون نسمة، فيما سجّلت الدول التي لا تنتمي إلى مجلس التعاون الخليجي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما معدّله 707 حالة وفاة. ويعكس معدّل الوفيات المنخفض المرتبط بفيروس كورونا المستجدّ في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل جزئي عمليةَ إجراء فحوصات واسعة النطاق وقدرةَ السلطات الصحّية على تحديد حالات الإصابة بالفيروس، بما في ذلك الحالات العديمة الأعراض والحالات التي تعاني أعراضاً أقلّ خطورة ضمن الفئة العمرية الشابّة عموماً. ويعكس ذلك أيضاً القوّة النسبية لأنظمة الرعاية الصحّية الخليجية والفعالية في استجابة الصّحة العامة.

   

الاستجابة للجائحة في دول مجلس التعاون الخليجي

 

حاولت السلطات في دول مجلس التعاون الخليجي في البداية السيطرة على التفشّي المحلّي للفيروس من خلال تشديد   الضوابط الحدودية وإجراء الفحوصات الصحّية وتعليق الرحلات الجوّية إلى الدول ذات الخطر المرتفع. وبالاستفادة من التجربة التي واجهتها الحكومات مع فيروس متلازمة الشرق الأوسط التنفّسية (MERS) في العام 2012، حرصت على إعداد  وحدات عزل في المستشفيات ووسّعت جهود إجراء الفحوصات وتتبّع مخالطي المصابين. وحتّى أواسط مارس 2020، بدا أنّ إجراءات السيطرة الأوّلية هذه فعّالة في ضبط تفشّي الفيروس. لكن مع تراكم أعداد الإصابات بدأت الحكومات بفرض قيود أكثر صرامة. وقد اختلفت هذ القيود بين دولة وأخرى، لكنّها شملت إجمالاً حظر السفر وإغلاق المدارس وقيود على التجمّعات العامة وإغلاق المساجد والأعمال غير الضرورية وتعليق الاحتفالات بالعطل الرسمية وفرض حظر تجوّل ليلي وقيود على التنقّل. وحتّى عندما رفعت الدول الخليجية القيود، فرضت ارتداء القناع والتباعد الاجتماعي حيث سمح الوضع.

 

وفيما زادت الحكومات الخليجية من حدّة عمليات الإغلاق وغيرها من إجراءات الاستجابة في الفترة ذاتها تقريباً، اختلفت في الطريقة التي أدارت بها عملية تخفيف القيود وإعادة فتح الاقتصادات، ممّا عكس اتّجاهات معدّل الإصابات بالفيروس واتّجاهات الضغوط الاقتصادية التي تواجهها الدولة على حدّ سواء. فقد اعتمدت البحرين في البداية مثلاً القيود الأقلّ صرامة بين دول مجلس التعاون الخليجي التي أقفلت، ولكنّها كانت حذرة في العودة إلى الفتح التامّ للبلاد. واتّخذت الإمارات العربية المتّحدة خطوات مُبكرة لإعادة فتح الاقتصاد من أجل تخفيف الضغوط على شركات القطاع الخاص. في المقابل، فرضت عُمان إجراءات إغلاق واسعة وأبقتها لفترات أطول من الدول الأخرى، لكنها بعد ذلك فتحت اقتصادها أسرع من الدول الأخرى في بداية العام 2021. وبدأت الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية بالخروج من عملية إغلاق صارمة مع المقاربات الأكثر حذراً في الفترة ذاتها تقريباً. واضطرّت كلّ من هذه الدول إلى إعادة فرض قيود بشكل دوري مع بروز موجات جديدة من الفيروس على مدى السنة الماضية.

 

وعلى امتداد الصيف وأوائل الخريف في العام 2021، خطت الدول الخليجية خطوات كبيرة في توسيع نطاق التلقيح عبر الحرص على تأمين قدرة الوصول السهلة إلى اللقاحات مع تطبيق أوامر صارمة بشأن اللقاح تفرض على الأشخاص أن يكونوا ملقّحين تلقيحاً كاملاً لتتسنّى لهم العودة إلى الحياة الاقتصادية الطبيعية. ومع أنّ الدول الخليجية ما زالت تشهد بعض الترددّات حيال تلقّي اللقاح، ارتفعت معدّلات التلقيح فيها بسرعة، حتى أنّ تصدّر عددٌ من هذه الدول العالمَ من ناحية النسبة التي تلقّت اللقاح من سكّانها. في المقابل، انخفضت الإصابات اليومية الجديدة بفيروس كورونا المستجدّ إلى حدّ كبير بشكل عام أقلّه في خلال النصف الثاني من العام 2021. في الوقت الذي سُجّلت فيه زيادة في الحالات اليومية مع ظهور متحوّر أوميكرون، ساهمت معدلات التطعيم بتقليل الوفيات وحالات الاستشفاء.

 

ولإدارة التداعيات الاقتصادية التي رّتبتها الجائحة، أنفقت دول مجلس التعاون الخليجي أموالاً باهظة على رُزم التحفيز لدعم العمّال وشركات القطاع الخاص. وشملت هذه الرزم تخفيضاتٍ في الرسوم الرسمية والإيجارات والمساهمات في الضمان الاجتماعي ودعماً لرواتب المواطنين العاملين في القطاع الخاص وقروضاً بشروط ميسّرة للشركات الصغيرة والمتوسّطة.7 وتعاونت السلطات مع المصارف لزيادة السيولة وتسهيل قدرة الوصول إلى القروض، فضلاً عن السماح بتأجيل تسديد القروض. وكانت حصّة هذه المبالغ من مجموع الناتج المحلّي الإجمالي صغيرة نسبياً مقارنة بدول منظّمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وتراوحت بين 1,5 في المئة في الكويت إلى 6 في المئة في البحرين. وهنا، شكّلت الاستجابة المالية لقطر استثناءً دولياً، إذ أفيد أنّها بلغت 14 في المئة الناتج المحلّي الإجمالي. وعموماً، يبدو أنّ هذه الجهود قد ركّزت إجمالاً على تقديم دعم مباشر للشركات الوطنية والعاملين المواطنين مقابل دعم غير مباشر فحسب للعمّال الوافدين. والأهمّ في الموضوع أنّ الفعالية الإجمالية لهذه الجهود تبقى مجهولة نظراً إلى الشفافية المحدودة حيال تطبيق السياسات ونتائجها.

 

فهم النتائج في دول مجلس التعاون الخليجي

 

ساهمت عدّة عوامل عامة في أن يتمكّن فيروس كورونا المستجدّ من الانتشار بهذه القوّة في دول الخليج. أوّلاً، إنّ دول مجلس التعاون الخليجي متّصلة بالاقتصاد العالمي بشكل أوثق من الدول المجاورة لها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولا سيّما من ناحية السفر الجوّي. فمطار دبي بحدّ ذاته يحتلّ المرتبة الرابعة بين المطارات الأكثر ازدحاماً في العالم من ناحية الوافدين الدوليين، فيما تشكّل المطارات في أرجاء المنطقة نقاط عبور للرحلات الجوّية الدولية والإقليمية. وقد ساهم هذا الترابط العالمي والإقليمي في أن يتفشّى الفيروس في دول مجلس التعاون الخليجي قبل تفشّيه في معظم الدول الأخرى. علاوة على ذلك، لم تنجح عمليات الحظر الأوّلية على الرحلات الجوّية الآتية من الدول التي كانت شديدة التأثّر في البداية في وقف انتشار الفيروس لأنّ آليات الكشف لم تتمكّن من تحديد الأشخاص المصابين العديمي الأعراض.

 

ثانياً، ربّما أعطى بعض التردّد الأوّلي لصانعي القرارات المجال أمام تفشّي المرض. فمن التجارب الدولية، يبدو أنّ طرق الاستجابة الأكثر فعالية هما اثنتان. وقد ركّزت الأولى، التي اعتمدتها دول مثل كوريا الجنوبية، على التتبع والفحوصات المبكرة والواسعة عوضاً عن عمليات الإغلاق الاقتصادي.8 وشملت الثانية، كتلك التي اعتمدتها نيوزيلندا، عمليات إغلاق سريعة  وشاملة للحدّ من التفشّي المجتمعي.9 ولجأت دول مجلس التعاون الخليجي إلى مزيج من هاتين المقاربتين اللتين تبيّن أنّهما فعّالتان مع مرور الوقت. لكن بسبب الاعتماد على الحصول على قدرات إجراء الفحوصات لفيروس كورونا المستجدّ من الخارج، لم تتمكّن الحكومات من تسريع وتيرة الفحوصات إلا تدريجياً. بالتالي، سمح التردّد في إغلاق الاقتصاد المحلّي والفرض المتأخّر لإجراءات التتبّع الصارمة والفحوصات بتفشّي الفيروس.

 

نقاط الضعف الفريدة لدى دول مجلس التعاون الخليجي

 

شكّل العدد الكبير من العمّال الوافدين لدى دول مجلس التعاون الخليجي كذلك بيئةً ساهمت في التفشّي السريع للفيروس. فشركات القطاع الخاص تؤمّن عادة للعمّال الوافدين ذوي المهارات المتدنية مساكن مكتظّة، وغالباً ما تكون هذه المساكن في “مناطق صناعية” كثيفة السكّان بمحاذاة مساكن تأوي عمّالاً من شركات أخرى. وفي أرجاء دول مجلس التعاون الخليجي، تبيّن للسلطات الصحّية التي عاينت مساكن العمّال هذه أنّها مناطق شديدة التأثر بالفيروس. علاوة على ذلك، استحال عليها أن تعيد تنظيم ترتيبات السكن هذه بسرعة للسماح بالوصول إلى التباعد الاجتماعي اللازم لاحتواء تفشّي الفيروس. فلجأت عوضاً عن ذلك إلى إغلاقها وعزل المناطق، ممّا أدّى إلى مخاوف بشأن حقوق العمّال وإلى عدم تلقّي العمال رواتبهم أو عدم قدرتهم على الوصول إلى الخدمات لفترات زمنية طويلة.10

 

وقد جعل الاعتماد الكبير لاقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي هذه على العمّال الوافدين، من ذوي المهارات المتدنية والعالية على حد سواء، قطاعاتها الخاصة ضعيفة إزاء التكاليف الاقتصادية للاستجابة للجائحة. واللافت أنّ الحكومات قد أمّنت دعماً للرواتب طال المواطنين حصراً، وهم أقلّية ضمن مجموع اليد العاملة في القطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي. أمّا الشركات والعمّال الوافدون، فقد استجابوا بطرق متعدّدة، ففي حين انتقل البعض، حيث أمكن ذلك، إلى ترتيبات للعمل عن بعد، انتظر بعضهم الآخر حتّى انتهاء الإغلاق، وغطّت الشركات غالباً تكاليف السكن لكن لم تسدّد الرواتب في خلال تلك الفترة. ومع امتداد الجائحة لفترة طويلة، تعرّض الكثير من العمّال للطرد أو قدّموا استقالاتهم وعادوا إلى موطنهم الأصلي. وتشكّل خسارة رأس المال البشري للحكومة والقطاع الخاص مصدر قلق حول التكاليف المستقبلية التي تترتّب على إعادة المواهب إلى البلاد بعد الجائحة.

 

وقد ولّدت جائحة فيروس كورونا المستجدّ أيضاً مخاوف حول الأمن الغذائي في دول مجلس التعاون الخليجي، إذ تعتمد كلّ دولة في المنطقة بشدّة على الواردات لتلبية متطلّباتها الغذائية. ففي خلال الأزمات الدولية السابقة، على غرار الكساد الكبير في العام 2008، عانت دول مجلس التعاون الخليجي نقصاً عندما فرضت أبرز الدول المُنتِجة للأرزّ والمواد الغذائية الأساسية الأخرى نظامَ حصص على الصادرات. وتمّ فرض نظام حصص مشابه على الصادرات في خلال المراحل الأولى من الجائحة. فزادت أنظمة الحصص هذه، بالترافق مع عراقيل أخرى في سلاسل توريد الغذاء، من المخاوف في دول مجلس التعاون الخليجي حيال التوفّر الدائم للمؤن الغذائية. ومع أنّ الدول تمكّنت من إبقاء المتاجر مخزّنة جيداً، بسبب التخزين الاحتياطي الحكومي، أدّت الجائحة إلى تجديد التركيز لدى صانعي القرارات على الطرق التي يمكن بواسطتها الحرص على الأمن الغذائي في فترات الأزمة.

 

أخيراً، سلّطت الجائحة الضوء على الاعتماد المستمرّ لاقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي على المنتجات الهيدروكربونية وهشاشة المنطقة إزاء الخضّات في الأسعار. فبعد مرور فترة خمس سنوات كانت فيها الأسعار منخفضة نسبياً لكن مستقرّة، تسبّبت الجائحة بانخفاض كبير في الطلب العالمي وانهيار مروّع في أسعار النفط. بالتالي، في فترة اتّسمت بحاجة شديدة إلى مزيد من المساحة المالية لتحفيز الاقتصاد المحلّي ودعم التعافي المحتمل، كان على حكومات دول مجلس التعاون الخليجي أن تلجأ إلى صناديق ثروتها السيادية وترفع دينها السيادي في الخارج مع التخفيف من النفقات حيث أمكنها. وقد تسبّب الضغوطات في الموازنة بتخفيضات كبيرة في النفقات الرأسمالية وبتنفيذ متأخّر للمشاريع المخطّطة وبتقليصات قسرية في رواتب الموظّفين الأجانب وأعدادهم.

 

إعادة البناء للمستقبل

 

مع الإعلان عن عدّة لقاحات فعّالة لفيروس كورونا المستجدّ، يحوّل المجتمع الدولي أولوياته من محاربة الفيروس إلى التعافي الاقتصادي. ففي أرجاء العالم، أخذ صانعو السياسات يصبّون جهودهم للتخطيط لمستقبل ما بعد الجائحة، بعدما ركّزوا في العام 2020 على جعل مداخيل الأسر والوظائف مستقرّة. وتعتمد تلك الدول التي ستتحلّى بأعلى درجات التنافسية والتي ستستعيد نشاطها بأسرع وقت عقب الجائحة مقاربةً استراتيجية حيال الاستثمار الحكومي في إعادة البناء. ولدى دول مجلس التعاون الخليجي فرصة للخروج من جائحة فيروس كورونا المستجدّ بوضع أفضل للمحافظة على مستويات المعيشة العالية لديها ولمواجهة مجموعة من التحديات المستقبلية المحتملة، بما فيها أزمات الصحّة العامة وأثر التغيّر المناخي وتراجع مسار العولمة.

 

أوّلاً، من الضروري لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي أن تُجري تقييماً شاملاً لاستجابتها لفيروس كورونا المستجد. فمع أنّ اللقاحات المعتمدة الآن ستحلّ الأزمة الراهنة على الأرجح، يبقى العالم ضعيفاً أمام الجوائح المستقبلية المجهولة. بالتالي، ستساعد مراجعة شاملة للاستجابة حكومات دول مجلس التعاون الخليجي على تحسين التخطيط لسيناريوهات الأوبئة لديها ولإدارة الأزمات. وسوف تمهّد هذه المراجعة الطريق أمام استثمارات مستقبلية في قدرات أنظمة الصحّة العامة وجهوزيّتها. ونظراً إلى التقارب بين دول مجلس التعاون الخليجي والتكامل النسبي بينها، بغضّ النظر عن تداعيات التباعد الذي وقع في العام 2017، يمكن أن تصبح استثمارات كهذه مجال تركيز للتعاون. وعلى مستوى أكثر طموحاً، سيحسّن إنشاء مركز إقليمي للسيطرة على الأمراض التنسيق في التعامل مع الجوائح المستقبلية والأزمات الصحّية الأخرى.

 

ويتطلّب ضمان المستقبل أيضاً السير قدماً بإصلاحات في السياسات والمؤسّسات بشكل عام أكثر. في هذا الخصوص، طبّقت الحكومات بعض الإصلاحات في سياق الاستجابات لفيروس كورونا المستجدّ شكّلت بادرة أمل في كلا المجالَين.11 فقد أرغمت طبيعة الأزمة التي سبّبها فيروس كورونا المستجدّ الوزارات على التعاون واعتماد مقاربة الحكومة الشاملة في منطقة تُعرف بتكاملها العمودي وبضعفها في التنسيق. وأنشأت الحكومات أيضاً فرق عمل مشتركة بين القطاعات لمواجهة نواحٍ مختلفة من الأزمة، فعملت مع مختلف الوزارات ومجتمع الأعمال للوصول إلى حلول لتحديات محدّدة على غرار دعم شركات القطاع الخاص وحماية تدفّقات التبادل التجاري. علاوة على ذلك، حثّ إغلاق المكاتب الحكومية السلطات على اتّخاذ خطوات أسرع للسير قدماً بالخدمات الحكومية الإلكترونية والخدمات الحكومية عبر الهاتف النقّال. ومن المفترض أن يكون لهذا التطوّر، بالإضافة إلى الاستثمارات الجارية في التكنولوجيا المالية وتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، أثرٌ إيجابي طويل الأمد في تقديم الخدمات وتنويع الاقتصاد.

 

أخيراً، ينبغي على إعادة البناء في مرحلة ما بعد الجائحة توجيه الاستثمارات والإصلاحات نحو معالجة الأولويات الاقتصادية الهيكلية السائدة.12 ويشمل ذلك الجهودَ المستمرّة لتوسيع قاعدة العائدات المالية والتحضير للتسارع التغييري في عملية التحوّل في مجال الطاقة. وهو يشمل أيضاً تقوية حوكمة الشركات وتحسين الشفافية الحكومية وتعزيز المنافسة في الاقتصاد المحلّي، فضلاً عن تعزيز تنمية الشركات الصغيرة والمتوسّطة ورفع مستوى المهارات في مجال التكنولوجيا لدى اليد العاملة الوطنية وتنقّل اليد العاملة للعمّال الوافدين. كذلك، وتماشياً مع المخاوف بشأن الأمن الغذائي، تلبّي الاستثمارات في الأعمال التجارية الزراعية والتكنولوجيا الزراعية، على الصعيدين المحلّي والدولي على حدّ سواء، مجموعة مختلفة من أهداف التنمية.

 

ونظراً إلى الضغوط المالية المستمرّة التي تسبّبها أسعار النفط المنخفضة، ينبغي على الحكومات أيضاً التفكير في الابتعاد عن ضمانات التوظيف في القطاع العام كوسيلة لإعادة توزيع العائدات النفطية والتوجّه نحو التطبيق الممكن لدخل أساسي أدنى للمواطنين.13 وقد يقوّض الارتفاع الذي شهدته مؤخراً أسعار النفط الدولية الحوافز لاعتماد إصلاح كهذا على المدى القصير مع منح الدول الأولويةَ للتعافي من الكساد الذي سبّبته الجائحة، بيد أنّ الاحتمالات الطويلة الأمد لقطاع النفط، في خضمّ توافق عالمي متنامي حول الحاجة إلى الحدّ من الاعتماد على الوقود الأحفوري وإلى مكافحة التغيّر المناخي، تشير إلى حاجة لدى الدول الخليجية إلى منح الأولوية للتنويع وإصلاح القطاع العام طالما هي14 قادرة على ذلك.

 


الهوامش

 

1 نُشرت نسخة من مذكّرة السياسات هذه:
Tarik M. Yousef, “The COVID-19 Pandemic in the Gulf: Impact, Response, and Implications” in The Gulf Cooperation Council at Forty: Risk and Opportunity in a Changing World, eds. Tarik M. Yousef and Adel Abdel Ghafar (Washington D.C.: Brookings Institution Press, 2022).
2 تم احتساب البيانات حول فيروس كورونا المستجدّ المذكورة في هذه الورقة باستخدام البيانات على المستوى القطري المتاحة بواسطة
Hannah Ritchie, Edouard Mathieu, Lucas Rodés-Guirao, Cameron Appel, Charlie Giattino, Esteban Ortiz-Ospina, Joe Hasell, Bobbie Macdonald, Diana Beltekian and Max Roser, “Coronavirus Pandemic (COVID-19),” OurWorldInData.org, https://ourworldindata.org/coronavirus
تمّت زيارة الموقع في 17 يناير 2022
3 Ritchie et al., “Coronavirus Pandemic (COVID-19)”
4 مع الأخذ بعين الاعتبار المخاوف بشأن معدّلات الفحوصات والتقصير المحتمل في التبليغ عن الإصابات في عدّة دول.
5 سيطرت لاحقاً على معدّلات التفشّي من خلال عملية التلقيح.
6 Ritchie et al., “Coronavirus Pandemic (COVID-19)”
7 “Policy Responses to COVID-19,” International Monetary Fund تمّت زيارة الموقع في 1 نوفمبر 2021
8 Paul Dyer, Policy and institutional responses to COVID-19: South Korea, Middle East and North Africa COVID-19 Response Project Report (Doha, Qatar: Brookings Doha Center, June 15, 2021), https://www.brookings.edu/research/policy-and-institutional-responses-to-covid-19-south-korea
9 Paul Dyer, Policy and institutional responses to COVID-19: New Zealand, Middle East and North Africa COVID-19 Response Project Report (Doha, Qatar: Brookings Doha Center, January 24, 2021), www.brookings.edu/research/policy-and-institutional-responses-to-covid-19-new-zealand
10 Omer Karasapan, “Pandemic highlights the vulnerability of migrant workers in the Middle East,” Future Development (blog), Brookings Institution, September 17, 2020, www.brookings.edu/blog/future-development/2020/09/17/pandemic-highlights-the-vulnerability-of-migrant-workers-in-the-middle-
11 Robert P. Beschel Jr. and Tarik Yousef, “Public sector reform in MENA: the achievable governance revolution,” Economic Research Forum, May 4, 2021, https://theforum.erf.org.eg/2021/04/26/public-sector-reform-mena-achievable-governance-revolution
12 International Monetary Fund, Trade-Offs Today for Transformation Tomorrow: Middle East and Central Asia, Regional Economic Outlook, October 14, 2021, https://www.imf.org/en/Publications/REO/MECA/Issues/2021/10/14/regional-economic-outlook-october
13 Steffen Hertog, “The Case for an Arabian Universal Basic Income,” Project Syndicate, December 9, 2020, https://www.project-syndicate.org/commentary/gulf-states-case-for-universal-basic-income-by-steffen-hertog-2020-12
14 Justin Alexander, “The Implications of COVID-19 for the Gulf States’ Development Models,” in The Strategic and Geo-economic Implications of the COVID-19 Pandemic (Manama, Bahrain: The International Institute for Strategic Studies, 2020), https://www.iiss.org/blogs/research-paper/2020/12/strategic-geo-economic-implications-covid-19-pandemic