التخلّي عن مقاربة الحلول المؤقّتة: نادراً ما يتبع السلام الطويل الأجل مقاربةَ الحلول المؤقّتة التي لطالما تمّ النداء بها. وهو غالباً ما يُديم الصراعات التي تعاود بسبب مسائل متجذّرة عالقة.
التركيز على طبيعة الصراعات المترابطة: لا ينبغي أن تتمحور عملية بناء السلام على الدول بشكلٍ أساسي، بل يجب أن يأخذ في الحسبان الجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية الرئيسية التي تشكّل الأطراف المتحاربة الأساسيّة، بالإضافة إلى طبيعة الصراعات المترابطة في الشرق الأوسط.
إصلاح القطاع الأمني: يتشابك السلام الطويل الأجل مع إصلاحات القطاع الأمني. في نهاية المطاف، ينبغي إدماج المجموعات المسلّحة في المؤسّسات الأمنيّة الرسمية المسؤولة أمام السكان المحليّين.
مساءلة بناة السلام: لكي يكون السلام مستداماً، يجب أن يكون الوسطاء موثوقين وملتزمين. وينبغي التدقيق في دورهم وأدائهم كوسطاء.
يُسلّط التصعيد الإقليمي منذ اندلاع الحرب في غزة في السابع من أكتوبر2023، الضوءَ على هشاشة الشرق الأوسط إزاء عودة الصراع واحتمال أن تجتاح الصراعات المنطقة ككل. لقد مهّدت الحروب بالوكالة المدمّرة في العراق وليبيا وسوريا واليمن، على مدى العقد الماضي، الطريقَ لجهودٍ واسعة النطاق بغية التوصّل إلى تسويات لهذه الصراعات، على أمل أن تؤدّي إلى سلامٍ دائم. وتشمل هذه الجهود مسارات لا تُحصى لوقف إطلاق النار وللوساطة بهدف التخفيف من حدّة الصراعات والكوارث الإنسانية الناتجة عنها. كانت التوقّعات بإحلال سلام دائم عاليةً عندما توسّطت الصين من أجل إبرام اتفاق سلام بين المملكة العربية السعودية وإيران في خلال العام الماضي.1 وعقد الكثيرون الآمال على أن تشهد بعض ساحات الصراع هدنةً إثر سلسلةٍ من المحادثات بين الرياض وطهران الميسّرة من الجانبين العراقي والعُماني.
غير أنّ هذه الآمال تبدّدت بسبب الحرب في غزة التي أبرزت حدود جهود الوساطة، كنتيجةٍ مباشرة للتداخل بين الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وأُطر الأمن الإقليمي على نطاقٍ أوسع. بالفعل، يُعتبَر تحقيق سلام مستدام عمليةً محدودة ومضنية، إذ يستحوذ الشرق الأوسط على أكثر من خُمس مجموع الصراعات منذ العام 2000 وحوالي 40 في المئة من الصراعات الشديدة الحدّة.2 وقد رزحت دول متعدّدة منذ اندلاع الصراع والاضطرابات في أعقاب الربيع العربي في العام 2011، تحت عددٍ من الحروب الأهلية والصراعات الداخلية، بما في ذلك حربان أهليّتان على الأقل في العراق وليبيا.3
ما يزيد الطين بلّة أنّ المجموعات المسلّحة انتشرت في غياب السلطات ومؤسسات الدولة الضعيفة أو غير الموجودة. وقد طوّرت هذه الجهات الفاعلة أيضاً قدرات عابرة للحدود الوطنية سمحت لها بالارتباط بشكلٍ متعدّد الأطراف بمؤسّسات إستراتيجية وبنى تحتية تقع تقليدياً ضمن نطاق سلطة الدولة، بما في ذلك المصارف والمرافئ والتجارة البحرية. انعكس ذلك على الأمن العالمي، ما تجلّى في هجمات الحوثيين في البحر الأحمر.4 وقد استخدمت المجموعات المسلّحة هذا الترابط كأداة إكراه، وتداخلت صراعات متعدّدة، ما صعّب التحدّي المتمثّل بتحقيق السلام والاستقرار.
يُسلّط الطابعُ العابر للحدود للوطنية، الذي تتّسم به الحروب والصراعات التي عصفت بالمنطقة في خلال العقد الماضي، الضوءَ على الحاجة الملحّة إلى مقاربات بديلة ومستدامة وواقعية لبناء السلام. لقد تمخّض التقارب الجاري داخل مجلس التعاون الخليجي وبين تركيا والإمارات العربية المتحدة عن مفهوم التهدئة الإقليمية الذي يمكن أن يمهّد الطريق لتعزيز التعاون والأمن الجماعي.5 وقد ساعدت الوساطة إمّا في احتواء الصراع وإمّا في السماح بهدنةٍ إنسانية. وتشمل الأمثلة البارزة على ذلك دور قطر في تسهيل وصول المساعدات الإنسانية ووقف إطلاق النار في عددٍ من الصراعات، ودور العراق في إدارة التوترات بين المملكة العربية السعودية وإيران، وجهود الوساطة التي تبذلها سلطنة عمان بين الولايات المتحدة وإيران.6
لكن من المهم أيضاً الاعتراف بحدود هذه الأُطر والتعامل مع الصراعات في الشرق الأوسط كما هي عليه: صراعات عابرة للحدود الوطنية ومترابطة ومعرّضة للانتكاس. لقد ارتكزت جهود بناء السلام الإقليمي إلى حدٍ كبير على التعاون بين الدول، ما يشوبه عيوب نتيجةً للدور الذي أدّته مجموعةٌ كاملة من الجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية التي تشكّل الأطراف المتحاربة بأنفسها وتتصرّف بشكل مستقلٍ عن الرعاة الخارجيين. بالإضافة إلى التعاون بين الدول، تتمحور اقتراحات السلام الإقليمي الحالية بشكلٍ أساسي حول المعايير الراسخة منذ زمنٍ بعيد على غرار السيادة ومبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول. وهذا أمر إشكالي وغير واقعي بسبب الطبيعة العابرة للحدود الوطنية للحرب في المنطقة وانتشار المجموعات المسلّحة والتداخل بين الصراعات والأطراف المتحاربة؛ ودور الجهات الفاعلة الخارجية عبر حدود جغرافية متعدّدة في تمكينها.
يبحث موجز القضية هذا في التحدّيات الكامنة التي تواجه عمليّات بناء السلام في الشرق الأوسط وحدود استبعاد الجهات الفاعلة غير الحكومية في هذه العمليّات. ويجري تحليلاً خاصاً لجهود بناء السلام المحليّة في شمال العراق وليبيا، وتحليلاً جيوسياسياً لبناء السلام بين المملكة العربية السعودية وإيران. ويوضح أنّ بناء السلام ينبغي أن يتمحور حول الطابع المترابط للصراعات الإقليمية وإشراك الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية التي تُشكّل الأطراف المتحاربة الرئيسية. ويُسلّط الضوء أيضاً على أهميّة التدقيق في اتفاقات السلام والوسطاء لضمان أن ترقى جهود بناء السلام إلى مستوى توقّعاتهم وألا تصبح تمارين سياسية أو رمزية.
على الرغم من التحديات، يمكن أن تؤدّي أُطر بناء السلام دوراً مهماً في التخفيف من تأثير الصراع. مقابل كلّ من الصراعات المدمّرة والفظائع والاضطرابات التي تتصدّر عناوين الصحف، تبرز أيضاً جهود بناء السلام التي أسفرت عن بعض النتائج الإيجابية، حتى لو عانت للارتقاء إلى مستوى التوقّعات الأوليّة.
ومن بين هذه الجهود ملتقى الحوار السياسي الليبي، الذي أسفر عن اتفاقٍ لاقى ترحيباً باعتباره فريداً ومؤثّراً.7 لقد تمكّن الاتفاق في جوهره من احتواء الحرب الأهلية التي اندلعت بعدما شنّ خليفة حفتر – بدعمٍ من روسيا ومصر وفرنسا والإمارات – هجوماً فاشلاً على طرابلس في العام 8.2019 وكذلك، وقّعت الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان اتفاق سنجار، الذي ينصّ على فرض السلطة الفيدرالية على الإقليم وانسحاب المجموعات المسلّحة كافة، بما فيها حزب العمال الكردستاني والميليشيات المتحالفة مع إيران. ورحّبت الأمم المتحدة بالاتفاق باعتباره ركيزة أساسية لمعالجة القضايا المزمنة المتعلّقة بالأراضي المتنازَع عليها، والتي لها بُعد جيوسياسي لأنّها أيضاً موضع نزاع بين إيران وتركيا.9
لقد تعرقلت جهود بناء السلام في العراق وليبيا بسبب خصائص الحرب العابرة للحدود. على غرار أرجاء أخرى من المنطقة، وقعت مساحات شاسعة من الأراضي تحت سيطرة عددٍ هائل من المجموعات المسلّحة التي تربطها علاقات متينة عابرة للحدود بجهات فاعلة خارجية أو تحظى برعايتها. في حالة ليبيا، تَولّى ملتقى الحوار السياسي الليبي المهمّة الشاقة المتمثّلة بإدارة فِرق كاملة من المجموعات المسلّحة التي تمثّل كلا الائتلافين المتحاربين المنخرطين في الحرب الأهلية التي شهدتها ليبيا في العام 2019. في الواقع، يُقدَّر أنّ أكثر من 400 ألف من عناصر الأمن يتقاضون رواتبهم من مختلف السلطات الليبية، ما يشكّل حوالي 6 في المئة من سكان ليبيا البالغ عددهم 6,8 مليون نسمة.10 وقد خلق ذلك فسيفساء من مزوّدي الأمن الذين يُحصون بعشرات الآلاف وإلى توفير فرص للقوى الأجنبية من أجل فرض نفوذها على البلاد. ونتيجة لذلك، تعرّض الإطار الذي وضعه ملتقى الحوار السياسي الليبي لضغوط، ما سلّط الضوء على هشاشة اتفاقات السلام التي لا تأخذ بعين الاعتبار تأثير الجهات الفاعلة الخارجية أو تجد صعوبة في الحدّ منه.
بالإضافة إلى ذلك، شهد التقدّم جموداً بسبب مجموعةٍ من العوامل المحليّة والخارجيّة المترابطة. لقد مهّد ملتقى الحوار السياسي الليبي الطريق لحكومة وحدةٍ وطنيّة وجمعية للممثّلين الليبيين تضمّ خمسة وسبعين عضواً من دوائر انتخابية متعدّدة انتخبت مجلساً رئاسياً مؤقّتاً مؤلّفاً من ثلاثة أشخاص برئاسة محمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي، ورئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة.11 كجزءٍ من الاتفاق، كان من المقرّر إجراء انتخابات في ديسمبر 2021 كانت ستعزّز التسوية السياسية ما بعد الصراع وتُمهّد الطريق نظريّاً لسلامٍ دائم. غير أنّه كان من الصعب تنفيذ الاتفاق بسبب المنافسات السياسية الطويلة الأمد والخلافات حول شروط الأهلية الانتخابية. كما عرقل تطبيقَ الاتفاق الغموضُ والثغرات وأوجه القصور التقنيّة.12
يمثّل الفشل في إجراء انتخابات في ديسمبر2021 ذروة التحوّل من الأشهر الثلاثة السابقة حين صوّت البرلمان الذي يسيطر عليه حفتر في الشرق على حجب الثقة عن حكومة الوحدة الوطنيّة.13 جاء ذلك رداً على رفض طرابلس لقانونٍ انتخابي اقترحه الشرق وصادق عليه ومن شأنه أن يسمح لحفتر بالترشّح للرئاسة.14 بعد عامٍ تقريباً في مارس 2022، شكّلت الإدارةُ الشرقية هيئةً تنفيذية، ما أدّى إلى وجود إدارتين ليبيّتين منفصلتين ورئيسَين للوزراء.15 على خلفيّة هذه الديناميّات السياسيّة المحلّية المتقلّبة، حافظت القوات الأجنبية المموّلة من تركيا وروسيا وجهات أخرى على وجودها في البلاد.16 استغلّت جهاتٌ فاعلة خارجية هذا الجمود واقتنصت فترة الهدوء لتوسيع مصالحها الجيوسياسيّة.17 في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، استقال عبدالله باتيلي، الممثّل الخاص السابق للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، احتجاجاً على “التدافع المستمر على الأراضي الليبية” من قبل جهات فاعلة أجنبية.18 وذهب باتيلي إلى حدّ التحذير من أنّ التقدّم غير ممكن من دون موافقة الداعمين الدوليين للمجموعات السياسية الأقوى في البلاد.19
في ما يتعلّق باتفاق سنجار، رفضت المجموعات المؤيّدة لحزب العمال الكردستاني في سنجار الاتفاق الذي دعا إلى طرد مجموعات مثل وحدات مقاومة سنجار. كانت هذه المجموعات قد انتقلت إلى سنجار من سوريا المجاورة وتركيا في أعقاب هجوم داعش العام 2014، معلّقةً الآمال على تحويل سنجار إلى كانتون يتمتّع بالحكم الذاتي.20 في الواقع، تُشكّل سنجار، شأنها شأن المناطق المحيطة بها مثل تلعفر، جزءاً من خط إمداد مهم لكل من حزب العمال الكردستاني وقوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران ولعمليّاتهما في سوريا.21 وتحتوي المنطقة على أنفاق ومرافق لتخزين الأسلحة، وتوفّر جبالُها منصّة إطلاق وملاذاً لحزب العمال الكردستاني.22 وتُقيم المجموعتان تحالفاً غير تقليدي حيث تموّل قوات الحشد الشعبي المجموعات المؤيّدة لحزب العمال الكردستاني.23 وأسوةً بالحزب، رفضت قوات الحشد الشعبي اتفاق سنجار كونه يدعو إلى نقل مسوؤلياتها الأمنية إلى الدولة العراقية.24
حتى أقوى الجهات الفاعلة الخارجية محدودة النفوذ. بالفعل، على الرغم من العلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب، استمرّت الأخيرة في تقويض المصالح الأمريكية وحلفائها عبر الحدود في العراق، حيث قاوم حزب العمال الكردستاني اتفاق سنجار وفرض وجوده بعنف على السلطات المحلّية.25 وقد صعّد حزب العمال الكردستاني وقوات الحشد الشعبي هجماتهما على القواعد التركية في شمال العراق منذ توقيع الاتفاق.26 في المقابل، أثارت تعبئة الحزب والمجموعات المؤيّدة له توغّلات عسكرية تركية في شمال العراق، ما أدّى إلى تداخل ساحات الصراع السورية والعراقية وتحويل المنطقة إلى مركز للمنافسات الجيوسياسية العنيفة. وما يزيد الأمر تعقيداً هو أنّ مجموعات على غرار وحدات مقاومة سنجار تملأ صفوفها باليزيديين المحلّيين، ما يُضفي عنصراً أصلياً على وجودها ويسمح للمجموعة المؤيّدة لحزب العمال الكردستاني بالادّعاء بأنّها منظمة عراقية مؤلّفة من أفراد ساخطين من السكان المحليين.27
في حالتي ليبيا وسنجار، عقّدت الجهاتُ الفاعلة الخارجية جهودَ بناء السلام بين مختلف الجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية والجهات السياسية. والعكس صحيح في ما يتعلّق بجهود بناء السلام بين الدول في حالة المملكة العربية السعودية وإيران، حيث عقّدت المجموعاتُ المسلّحة السلامَ بين الدولتين وفي المنطقة على نطاقٍ أوسع. في هذا الإطار، عومِلت المجموعات المسلّحة كجهات فاعلة ثانوية أو كنتائج جانبيّة للمنافسة بين القوّتَين الإقليميتَين وليس كأطراف متحاربة بحدّ ذاتها. بالتالي، لم يكن غياب دول معيّنة عن أُطر بناء السلام ما أعاق السلام المستدام، بل بالأحرى تهميش المجموعات المسلّحة واستبعادها، أو رفضها كأطراف تفاوضية قادرة على البقاء.28 نتيجةً لذلك، يتغاضى أنصار بناء السلام بين الدول عن المسائل المتجذّرة، على أمل أن تُعالَج هذه المسائل في نهاية المطاف من خلال اتفاقات سلام أوّلية، غير مكتملة في الأساس.
دعت مجموعة الأزمات الدولية طهران والرياض مؤخّراً إلى “إنشاء مجلس تنسيق مشترك لوضع خطط محدّدة مع جداول زمنية من أجل تحقيق عائدات ملموسة وإعطاء زخم لإعادة بناء العلاقات“.29 إلّا أنّ الاقتراح يرتكز بالكامل على فكرة أنّ إيران يمكنها تعبئة حلفائها من الميليشيات وإلغاء تعبئتهم متى شاءت. كما ينسب هجمات الحوثيين على المنشآت السعودية إلى إيران ويتجاهل طبيعة الصراع غير المباشرة.
كانت المملكة العربية السعودية وإيران على وشك الانزلاق إلى مواجهةٍ مباشرة30 لكنّ الصراع بين هاتين الدولتين غير مباشر في طبيعته إلى حدّ بعيد وتقوده مجموعاتٌ مسلّحة بإدارتها وحساباتها الخاصة. وقد شنّ الحوثيون هجمات على البنى التحتية النفطية السعودية بينما شنّت ميليشيات متمركزة في العراق هجمات أخرى على دول مجلس التعاون الخليجي.31 من جانبها، دعمت المملكة العربية السعودية مجموعات مسلّحة في سوريا ضد مجموعات مدعومة من إيران. كما اتّهمت طهران الرياض بدعم المجموعات المسلّحة المتشدّدة داخل إيران.32 لذا يبدو من غير البديهي تقديم توصيات لا تأخذ في الحسبان المجموعات المسلّحة الرئيسية التي لا تقاتل بالضرورة نيابةً عن أيّ من القوّتَين الإقليميّتَين.
يكتسب السلام والمصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران أهميّةً بالغة بالنظر إلى المنافسة الشرسة بينهما ورؤاهما المتضاربة للشرق الأوسط. وهما في طور وضع أطر أمنية مصمّمة لكي تكون إقصائية. كما وأنّ المملكة العربية السعودية حليف ناشط داخل بنية الغرب الأمنية في المنطقة وقوّة دافعة وراء فكرة “الناتو العربي” الآيلة إلى مواجهة نفوذ إيران في الشرق الأوسط.33 من جهته، يهدف “محور المقاومة” الإيراني إلى تعزيز مكانة طهران الجيوسياسية وإلى توسيع نفوذها في المنطقة. وتشكّل هذه الأطر الأمنية مقاربةً صفرية إزاء الأمن الإقليمي، فتؤجّج بالتالي انعدام الاستقرار والتهديدات الإقليمية. لكن يبرز عددٌ من الأسباب الرئيسية وراء شوائب بناء السلام بين الدول وضرورة أن يتخطّى بناء السلام الإطار المشترك بين الدول.
لا تعتمد المجموعات المسلّحة على الدعم الخارجي بالنظر إلى الموارد الهائلة المتاحة لها محلّياً. ويوفّر النظامٌ الدولي المعولم لها مصادر تمويل متعدّدة متأتية من التجارة غير المشروعة عبر الحدود والرعاية الأجنبية والموارد الطبيعية وابتزاز المجتمعات المحلّية. ويقدّر مجلس الأمن الدولي أنّ الحوثيين حوّلوا أكثر من 1,8 مليار دولار مخصّصة للحكومة في العام 2019 بغية تمويل عملياتهم والسيطرة على مصادر الإيرادات القانونية وغير القانونية، بما في ذلك ضريبة الخُمس على عددٍ من الأنشطة والقطاعات الاقتصادية.34 ويدرّ المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات العربية المتحدة في اليمن عائدات من المرافئ والجمارك والضرائب وقطاع النفط.35 وقد أنشأ الحشد الشعبي العراقي مؤخّراً هيئة تجارية مدعومة من الدولة، بالإضافة إلى حصوله على ميزانية لا تقلّ عن ملياري دولار.36 وفي الوقت نفسه، تتمتّع المجموعات في سوريا والعراق، المدعومة سابقاً من المملكة العربية السعودية، بمصادر دخل واسعة النطاق ناجمة عن التجارة غير المشروعة وتهريب النفط والابتزاز،37 ما يحدّ قدرة القوى الإقليميّة على التأثير في هذه المجموعات.
من خلال إقصاء المجموعات المسلّحة أو التغاضي عن قدرتها كأطراف تفاوضية، يكون المراقبون قد اعتمدوا مقاربة الحلول المؤقّتة التي تفاقم المشكلة. فقد دعت مجموعة الأزمات الدولية، على سبيل المثال، إلى عودة نظام الأسد إلى جنوب غرب سوريا في العام 2018 من دون المجموعات المدعومة من إيران. في الواقع، كانت هذه المجموعات تُشكّل مصدر توتّر بالنسبة إلى المجموعات المتمرّدة التي كانت تأمل بالسيطرة على المنطقة في إطار الانتفاضة، وكذلك بالنسبة إلى إسرائيل بسبب التهديد الذي يشكّله وكلاء إيران على البلاد.38 بيد أنّ الاقتراح إمّا قلّل من أهميّة طبيعة الصراع وإما كان متساهلاً تجاهها، علماً أنّ المجموعات المدعومة من إيران كانت مترابطة مع قوات النظام وشكّلت جهات فاعلة هائلة على الأرض يعتمد عليها النظام من أجل بقائه. ليس من المستغرب، في غضون أشهر، أن تعترف مجموعة الأزمات الدولية بأنّ النظام قد عاد إلى المنطقة برفقة القوات المدعومة من إيران وانعكاسات محفوفة بالمخاطر على السلام ورفاهية السكان المحليين.39 بعبارةٍ أخرى، كان من غير البديهي الافتراض بأنّ نظام الأسد يمكنه استعادة سلطته في جنوب غرب البلاد من دون المجموعات المدعومة من إيران.
الأهم من ذلك أنّ عملية بناء السلام بين الدول تتجاهل الديناميّات المحليّة والمتعلّقة بالشعوب الأصليّة: فالمجموعات المسلّحة مظهرٌ من مظاهر المظالم السياسية والاجتماعية السياسية المحليّة. صحيحٌ أنّ إشراك المجموعات المسلّحة في مفاوضات السلام الرسمية قد يُعزّز شرعيّتها ويضاعف المشكلة، إلّا أنّ التعامل مع هذه المجموعات لا يعني بالضرورة تلبية مطالبها أو استبعاد حق الدولة الفعلي أو المتصوّر في استهدافها عسكرياً في حال باءت المفاوضات بالفشل.
علاوة على ذلك، إنّ الجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية قادرة على الانخراط في مفاوضات سلام تُشارك فيها الدول. في الواقع، تُظهر قاعدة بيانات اتفاقات السلام PA-X، التي تُوفّر سجلاً لاتفاقات السلام بين العامين 1990 و2023، أنّ المجموعات المتحاربة المحليّة هي التي أبرمت معظم الاتفاقات في خلال هذه الفترة. الأهم من ذلك أنّ هذه الصفقات بمعظمها قد أُبرمت من دون مشاركة الحكومة أو المجتمع الدولي. وقد تجلّت قدرة المجموعات المسلّحة على التفاوض مع منافسيها في التوجّه نحو اتفاقات عدم اعتداء بين حزب الله وإسرائيل، وبين حزب العمال الكردستاني وتركيا، وبين الحوثيين والمملكة العربية السعودية.40
شكّلت هذه الاتفاقات صفقات استندت إلى اعتبارات براغماتية ونفّذتها في الغالب المجموعات المسلّحة، بدعمٍ نسبي من الجهات الفاعلة الخارجية. لقد تجلّى اتفاق السلام للعام 2013 بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، الذي لطالما شجّعه الاتحاد الأوروبي ودعمه، في تطلّعات الرئيس أردوغان السياسية والشعور العام الواسع النطاق بأنّ حزب العمال الكردستاني لا يمكن هزيمته بالقوة، وفي إعلان الحزب عن وقف إطلاق النار.41 وكذلك تجلّى الاتفاق بين المملكة العربية السعودية والحوثيين، الذي دعمته وشجّعته دول خليجية متعدّدة بالإضافة إلى الولايات المتحدة والصين، في أجندة الرياض للتحديث الاقتصادي وعدم جدوى حملتها العسكرية في اليمن وضرورة الحدّ من التوتّرات الجيوسياسية في الوقت الذي تطلق فيه برنامج التنويع الاقتصادي.42 أخيراً، ارتكز الاتفاق بين إسرائيل ولبنان، الذي شمل حزب الله وحظي بدعم الولايات المتحدة، على اعتقاد حزب الله أنّ اتفاق ترسيم الحدود يمكن أن يخفّف من الأزمة الاقتصادية في لبنان ويُعزّز مكانة الحزب السياسية والاقتصادية.43
على الرغم من التوتّرات الإقليمية المستمرّة والتصعيد بين إيران وإسرائيل وبين حزب الله وإسرائيل، صمد الاتفاق البحري للعام 2022. علاوة على ذلك، لم يستأنف الحوثيون هجماتهم على المملكة العربية السعودية منذ إبرام اتفاق السلام بين المملكة العربية السعودية وإيران بوساطة الصين العام الماضي، حتى في ظلّ استمرار الجماعة في هجماتها في البحر الأحمر. ومن شأن دراسات الحالة هذه أن تساهم في توجيه جهود بناء السلام في شمال العراق وليبيا وساحات الصراع الأخرى من خلال التأكيد على أنّه من غير الضروري إشراك الجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية كافة، بل الأطراف المتحاربة الرئيسية فحسب، وأنّه حتى الجهات الفاعلة الأكثر التزاماً أيديولوجياً قادرة على التفاوض مع منافسيها.
عوضاً عن التطلّع إلى تشكيل ائتلافات من الراغبين التي تخلق خطّاً فاصلاً بين “هم ونحن”، ينبغي أن يتمحور اتفاق سلام شامل حول الدولة، والجهات الفاعلة غير الحكومية التي تشكّل المتحاربين الرئيسيين، وطبيعة الصراعات الإقليمية المترابطة. لا يتعلّق الأمر بمجرّد إدراج عدد من الصراعات في أُطر بناء السلام، بل بإشراك كل صراع وأطرافه المتحاربة على قدم المساواة. فالجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية قادرة على صناعة السلام ومنخرطة لأغراض إنسانية ودبلوماسية، وهي تشكّل السلطة الوحيدة أو المهيمنة على مساحات شاسعة من الأراضي. بالتالي، من المعقول الإيحاء بأنّها تشكّل أيضاً عناصر مهمة في تسويةٍ إقليمية على نطاقٍ أوسع. من هذا المنطلق، تكون عملية بناء السلام قد شملت الجهات الفاعلة المحليّة والخارجيّة كلّها واحترمت مبدأي الجماعية والشمولية.
تَبني الاقتراحاتُ القائمة الاتفاقات على سلامٍ شامل وطويل الأمد يتمحور حول العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران. غير أنّ الصراعات الإقليمية وأطرافها المتحاربة مترابطة، لذا من غير المنطقي بناء اتفاقات سلام بشكلٍ أساسي حول مجموعةٍ صغيرة من القوى الإقليمية، على غرار المملكة العربية السعودية وإيران، التي يشهد نفوذها قيوداً إلى حد بعيد. بغضّ النظر عن مصادر إيراداتها المستقلّة وحصولها على الأسلحة والمقاتلين، تملك المجموعات المسلّحة المدعومة من المملكة العربية السعودية وإيران حساباتها السياسية والجيوسياسية الخاصة بها ولن تنسحب بالضرورة من الصراعات حتى في حال توصّل رُعاتها إلى تسوية.
الأهم من ذلك أنّ الوساطة التي ترتكز على المستوى المحلّي والوطني والإقليمي تُعزّز قدرة المواطنين والفئات الهشّة، ما يخلق فرصاً ومنصّات أكثر فعّالية على نطاقٍ أوسع للتعبير عن استيائهم ومعالجة مظالمهم وإشراك الجهات الفاعلة الخارجية، وخيرُ دليل على ذلك ملتقى الحوار السياسي الليبي واتفاق سنجار. لقد استغلّت القوى الخارجية هذه المظالم والاحتجاجات من أجل تحويل الحركات الاجتماعية السياسية والمجموعات المسلّحة إلى وكلاء لتحقيق طموحاتها الإقليمية. إلّا أنّ ذلك قد خلق أيضاً مشاكل كبيرة مع الوكلاء لأنّ الدول الراعية لا يمكنها التأكّد أبداً من أنّهم لن يستخدموا الدعم لأغراضهم الخاصة ومصالحهم الضيّقة. وكان للوكلاء، بدورهم، حافز لمواصلة القتال.
في هذا السياق، يتداخل السلام الطويل الأجل مع عمليّات أخرى مثل إصلاحات القطاع الأمني التي تعتمد بشكلٍ عام مقاربةً موحّدة تحاول استيعاب المشهد الكامل للمجموعات المسلّحة. غير أنّها مقاربة غير ملائمة للأنظمة الأمنية الهجينة التي ترسم ملامح الدول التي تمرّ بمرحلةٍ انتقالية في المنطقة. ويُعزى ذلك بشكلٍ كبير إلى أنّ هذه العمليّات لا تستند إلى آليات الرقابة التي تضمن المساءلة وتسمح بإجراء الإصلاحات في بيئةٍ مؤاتية لسيادة القانون. ويبرز عدم تطابق بين نماذج المساعدة الأمنية المتمحورة حول الدولة والحقائق على الأرض: فالجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية ليست مجرّد حالات شاذة أو مفسدة، بل تشكّل في بعض الحالات جهات فاعلة اجتماعية وسياسية مشروعة تتمتّع بشرعيةٍ وبدعم شعبي كبيرين.
ستتقوّض عملية بناءُ السلام وتفشل ما لم تتجاوز الوساطةُ الرمزيّةَ السياسية. صحيحٌ أنّه تبرز ثمّة حالات متعدّدة كانت فيها الوساطة حاسمةً للتخفيف من حدّة الصراعات ومعالجة الأزمات الإنسانية، لكن يُخشى أن تُصبح الوساطة تمريناً سياسياً أو رمزياً. في هذا السياق، يستفيد الوسطاء بشكلٍ عام من رؤوس الأموال والمنافع السياسية التي ترافق دورهم- كما في حال وساطة الصين لإبرام اتفاق سلام بين إيران والمملكة العربية السعودية – لكنهم يفلتون من التدقيق عندما لا ترقى هذه الاتفاقات إلى مستوى التوقّعات أو حين تسفر عن نتائج محدودة. بالتالي، تبرز الحاجةُ إلى مساءلة الوسطاء وتشجيع هذه الجهات الفاعلة على الاعتراف علناً بأوجه قصورها. هذا يضمن محافظة الوسطاء على اهتمامٍ سياسي راسخ وطويل الأجل بتطبيق مبادئ اتفاقات السلام وشروطها. ومن شأن ذلك أيضاً أن يعزّز التزاماً حقيقياً بالسلام عوضاً عن ممارسة قصيرة الأمد تقوم على أهداف سياسية قصيرة الأمد.
الهوامش