إصلاح برامج دعم المواد الغذائية يطرح معضلة: في ظلّ تصاعد معدّلات التضخّم وتقلّص الحيّز المالي في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تتجدّد الضغوط للانتقال من دعم السلع والخدمات إلى التحويلات النقدية الموجّهة، غير أنّ المنطقة ليست جاهزة بعد للاستغناء عن دعم المواد الغذائية.
الشروط الأساسيّة لنجاح الإصلاح ما زالت غائبة: نظراً لارتفاع الطلب الشعبي على الدعم وتآكل الثقة بالمؤسّسات وهشاشة الآفاق الاقتصادية الإقليمية، لا تبدو الأجواء مهيّئة للإصلاح.
الحاجة إلى شبكات أمان اجتماعية متينة: على الرغم من التقدّم المحقّق مؤخراً، لا بدّ من بذل المزيد من الجهود لتحسين دقّة الاستهداف وتوسيع نطاق شبكات الأمان الاجتماعي القائمة، قبل المضي في تقليص برامج الدعم.
أولويّة إصلاح برامج دعم الطاقة ومعالجة المشاكل الجوهريّة: تُعدّ برامج دعم الطاقة أكثر إجحافاً وكلفة من برامج دعم الغذاء، ولا سيّما المواد الأساسيّة مثل الخبز. بالتالي، ينبغي أن تحظى إصلاحات دعم الطاقة بالأولويّة وأن تُنفَّذ بالتوازي مع إصلاحات هيكليّة أوسع.
لطالما اعتمدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على برامج الدعم1 إلى حدّ كبير، وهي نوعٌ من أنواع المساعدات الحكومية التي تقوم على توفير بعض السلع أو الخدمات بأسعار أدنى من كلفتها الفعليّة.2 وكانت برامج الدعم اعتُمدت في الأساس كآليّة للمحافظة على استقرار الأسعار3 والحدّ من آثار الصدمات الاقتصادية. وتطوّرت عبر الزمن لتصبح أداة للحماية الاجتماعية تهدف إلى التخفيف من حدّة الفقر ومعالجة أوجه عدم المساواة الاجتماعية، عبر خفض تكاليف المعيشة ومساعدة الأُسر المنخفضة الدخل على تأمين المواد الغذائية ومصادر الطاقة الأساسية.4 وفي الدول الغنيّة بالموارد، اكتسب الدعم بعداً إضافياً باعتباره وسيلة لإعادة توزيع5 الثروة.6 ومع مرور الوقت، تجاوزت أنظمة الدعم وظيفتها الأصليّة الرامية إلى المحافظة على استقرار الأسعار ومكافحة الفقر، لتغدو وسيلة لإضفاء الشرعيّة على الأنظمة الحاكمة، وإحدى السمات المميِّزة للعقود الاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.7
لكنّ التمسّك ببرامج الدعم بات صعباً اليوم في ظلّ تقلّبات أسعار السلع الأساسيّة، وتصاعد الضغوط التضخّمية، وتراجع الحيّز المالي، وارتفاع مستويات الدين العام. وإلى جانب التحديّات المالية، لطالما وجّهت المؤسّسات الدولية الكبرى، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، سهامها نحو سياسات الدعم، نظراً لإجحافها وعدم فعاليّتها. فبسبب سوء الاستهداف والإدارة، غالباً ما تصبّ برامج الدعم لصالح ميسوري الحال أكثر من الفئات المحدودة الدخل، كما أنّها تُشجّع على الإفراط في الاستهلاك، وتُحوّل التمويل عن مجالات إنفاق أكثر حيويّة.
خاض عدد من دول المنطقة محاولات متكرّرة لإصلاح برامج الدعم منذ السبعينات تحت وطأة الأوضاع المالية المتدهورة حيناً، وضغوط مؤسّسات الإقراض الدولية والجهات المانحة في معظم الأحيان.8 وركّزت هذه الإصلاحات بالدرجة الأولى على برامج دعم الطاقة التي تحوّلت إلى عبء ثقيل مع ارتفاع أسعار المشتقّات النفطية، واتّضح أنها أكثر إجحافاً من دعم المواد الغذائية.
أمّا برامج دعم المواد الغذائية الأساسية فبالكاد تمّ المساس بها.9 وما زالت حكومات المنطقة تصطدم بعراقيل تعيق محاولات الإصلاح الشاقة أصلاً في الدول النامية، وتزداد صعوبةً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بفعل تشابك العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.10 وتشهد التجارب التاريخيّة لأعمال الشغب المرتبطة بانتفاضات الخبز التي اندلعت في أكثر من بلد على امتداد المنطقة، على حجم المخاطر الاجتماعية التي قد تنجم عن محاولات تقليص دعم المواد الغذائية، لاسيّما السلع الرئيسيّة مثل الخبز.
بيد أنّ المؤسّسات الدولية الكبرى تُواصل الدفع باتّجاه الانتقال نحو استخدام أنظمة التحويلات النقدية الموجّهة.11 ففي العام 2010، خفّضت إيران دعم الخبز واستبدلته ببرنامج للتحويلات النقديّة.12 واتّخذ الأردن عام 2018 خطوة مشابهة حين استبدل دعم الخبز ببرنامج مساعدات موجّهة،13 فيما شرعت مصر في الآونة الأخيرة في دراسة الانتقال نحو نظام التحويلات النقدية.14
مع ذلك، ورغم إجحاف برامج دعم المواد الغذائية، فإنّ المنطقة ليست جاهزة بعد للانتقال نحو أنظمة التحويلات النقدية الموجّهة. فالشروط الأساسيّة لنجاح أيّ إصلاح في برامج الدعم وضمان استدامته، من قبولٍ شعبي، وظروف اقتصادية كلّية ومالية ملائمة، وأُطر راسخة للحوكمة والمساءلة، لم تتحقّق بعد. ورغم ما أُنجز من تقدّم في مجال الحماية الاجتماعية، لا تزال المنطقة بحاجة إلى تطوير آليّات أكثر فعاليّة لاستهداف الفئات الفقيرة بدقّة، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي القادرة على حماية هذه الشريحة من الآثار السلبية المترتّبة على إلغاء الدعم.
يتتبع موجز القضيّة هذا المسار التاريخي لتطوّر برامج الدعم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وما يرافقها من إشكاليّات مزمنة تعيق الإصلاح. وبناءً على التجربة الإيرانية، يخلص الموجز إلى الدعوة للإبقاء على دعم المواد الغذائية، ويطرح مساراً محتملاً نحو الإصلاح.
اعتُمدت برامج الدعم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهدفت في الأساس إلى المحافظة على استقرار الأسعار،15 لكنّها استمرّت في مرحلة ما بعد الاستقلال، فتمسكّت بها الأنظمة السلطويّة ذات النزعة الشعبوية التي سعت إلى ترسيخ حكمها.16 وشهدت فترة الستّينات والسبعينات توسّع الإنفاق على برامج الدعم في المنطقة. وفي أواخر السبعينات، كانت معظم الدول تدعم مجموعة من السلع الغذائية ومصادر الطاقة، إلى جانب خدمات أخرى مثل النقل العام والإسكان.17 وفي نهاية المطاف، أصبح الدعم، لا سيّما المخصّص للمواد الغذائية الأساسية، بنداً رئيسيّاً في العقود الاجتماعية بالمنطقة.18 ففي ظلّ تشديد القيود على الحقوق المدنية والسياسية، لجأت أنظمة الحكم تدريجيّاً إلى الحماية والتقديمات الاجتماعية كوسيلة لاكتساب الشرعية، تعويضاً عن ضعف مستويات المشاركة السياسية.19
مع الوقت، تفاقمت الأعباء المالية المترتّبة على برامج الدعم بفعل النموّ السكاني السريع وتقلّبات الأسعار العالمية، بالإضافة إلى استغلال هذه البرامج من أجل المضاربة وتحقيق أرباح ريعية في السوق السوداء.20 بحلول العام 2010، كانت نفقات الدعم في إيران قد تجاوزت 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لتبلغ نحو 100 مليار دولار.21 وفي المغرب، شكّل الإنفاق على الدعم عام 2012 ما نِسبته 6,6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 5,4 في المئة خُصّصت لقطاع الصحة ونسبة 5,6 في المئة لقطاع التعليم.22 أمّا في مصر، فقد استحوذ الدعم خلال السنة المالية 2012-2013 على 8,7 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، مقابل 4,5 في المئة ذهبت للصحة و3,4 في المئة للتعليم.23
غالباً ما يأتي تخصيص مثل هذه الموارد الضخمة لتمويل الدعم على حساب الاستثمارات الإنتاجية والإنفاق على قطاعات حيويّة مثل الصحة والتعليم.24 كما تتعرّض برامج الدعم لانتقادات بسبب عدم فعاليّتها وما يصاحبها من هدر وأخطاء في استهداف الفئات المستحقّة فعلاً. والأهم أنّ قدرتها على الحدّ من الفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية ما زالت موضع جدل، إذ تُظهر بيانات المسوح الأُسريّة في الفترة بين 2004 و2010 والفترة بين 2003 و2009 أنّ الفقراء لم يستفيدوا سوى من 1 في المئة إلى 8 في المئة من دعم البنزين، ومن 1 في المئة إلى 7 في المئة من دعم الديزل، بينما استفادت الشريحة الأغنى من نسبة تراوحت بين 36 في المئة و86 في المئة من دعم البنزين، وبين 42 في المئة و77 في المئة من دعم الديزل.25 في المقابل، تراوحت حصّة الفئات الأفقر من دعم المواد الغذائية بين 15 في المئة و25 في المئة في مصر وإيران والأردن ولبنان.26
أثبتت أنظمة الدعم غير الموجّهة27 أنّها تصبّ في مصلحة الأثرياء بالدرجة الأولى، إذ تذهب معظم فوائدها إلى الأُسر ذات الدخل المرتفع التي تستحوذ على النصيب الأكبر من الاستهلاك، لا سيّما في ما يتعلق بدعم الطاقة.28 فهذه الأُسر تستهلك كميّات أكبر من الطاقة بحكم امتلاكها منازل أوسع وسيّارات أكثر وأجهزة إلكترونية متعدّدة.29
شهدت دول المنطقة على مدى العقدين الماضيين محاولات متكرّرة لإصلاح أنظمة الدعم، مدفوعة بظروف اقتصادية معاكسة، مثل ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وتزايد الضغوط المالية. وقد تركّزت هذه الإصلاحات في معظمها على برامج دعم الطاقة.31
لقد تبيّن أن دعم الطاقة أكثر إجحافاً من دعم المواد الغذائية، كما أنّه يشكّل عبئاً أكبر على الموازنات العامة. ففي تونس مثلاً، استحوذ دعم الوقود الأحفوري عام 2024 على نحو 12 في المئة من الموازنة، في حين خُصّصت نسبة 4,1 في المئة فقط من الموازنة لدعم الحبوب، و1,3 في المئة لدعم سلع أساسيّة أخرى مثل الحليب، وأقلّ من 1 في المئة لدعم زيت الطهي (انظر الرسم البياني 1).
وإذا ما وضعنا الهواجس المالية وتلك المتعلّقة بالموازنة جانباً، نجد أنّ أنظمة الدعم تستنزف الموارد حتى في الدول المنتجة للطاقة، فضلاً عمّا تخلّفه من آثار بيئيّة سلبية. فدعم الطاقة يبدّد الحافز على خفض الاستهلاك، ويعيق الجهود المبذولة للتحوّل نحو مصادر أنظف للطاقة وتحقيق تقدّم في أهداف تقليص الانبعاثات.
أمّا أنظمة الدعم المخصّصة للمواد الغذائية الأساسيّة فلم يتمّ المساس بها نسبياً.32 وبما أنّ الإنفاق على الغذاء يستحوذ على حصّة كبيرة من ميزانيّات الأُسر، فإنّ تعديل هذه الإعانات يطرح تحديّاً سياسياً معقّداً. وقد أثبتت التجارب أنّ أيّ محاولة لخفض دعم السلع الأساسيّة، وعلى رأسها الخبز، غالباً ما تؤدّي إلى اضطرابات اجتماعية تُجبر الحكومات على التراجع عن قراراتها. ففي مصر، اندلعت عام 1977 أحداث عُرفت بـ”انتفاضة الخبز” عقب محاولات لتقليص الدعم المخصّص لسلع مثل الأرز والسكر والخبز.33 وفي منتصف الثمانينات، اضطرّت السلطات التونسيّة إلى التراجع عن رفع أسعار الخبز الذي كانت أقرّته في إطار إجراءات تقشّفية أوصى بها صندوق النقد الدولي، بعد أنّ واجهت احتجاجات شعبية واسعة.34 وفي الأردن، قوبلت محاولات خفض دعم المواد الغذائية عامَي 1989 و1996 بمعارضة شديدة، بينما أثارت إجراءات مماثلة في المغرب احتجاجات عنيفة عامَي 1981 و1984 35
والأهمّ من ذلك أنّ دعم المواد الغذائية اتّضح أقلّ إجحافاً مقارنة بدعم الطاقة. فالإنفاق على الغذاء يستحوذ على نسبة أكبر من دخل الأُسر الأفقر، بينما تبقى مستويات الاستهلاك متقاربة نسبيّاً بين مختلف الشرائح، ما يعني أنّ استفادة الأُسر الأعلى دخلاً تعكس عادةً نسبتها من عدد السكّان.
ومع ذلك، تُواصل مؤسّسات مالية دولية كبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حثَّ دول المنطقة على خفض الدعم والانتقال إلى أنظمة التحويلات النقديّة المباشرة37‘36.
من حيث المبدأ، تُعدّ التحويلات النقديّة الموجّهة والمُدارة بكفاءة أكثر عدالة من دعم المواد الغذائية الذي يستفيد منه جميع المستهلكين على حدّ سواء، إذ تضمن وصول معظم الفوائد إلى الأُسر الأقلّ دخلاً .38 وبالإضافة إلى تحسين القدرة على تأمين الغذاء والحدّ من الفقر، ارتبطت برامج التحويلات النقديّة المشروطة بتحسّن المؤشّرات الصحية والتعليميّة.39 كما أثبتت التجارب في أفريقيا جنوب الصحراء أنّ هذه البرامج أدّت دوراً محوريّاً في تحسين سُبُل عيش المستفيدين عبر تشجيع الاستثمار الإنتاجي، وتحقيق أفضل استفادة من اليد العاملة، وزيادة قدرة الأُسر على الصمود في وجه الصدمات.40
تجري بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعلى رأسها مصر، نقاشات حول الانتقال من أنظمة الدعم الغذائي الشاملة إلى التحويلات الموجّهة، فيما اعتمدت دول أخرى التحويلات النقديّة إلى جانب الدعم الشامل تمهيداً لإلغائه تدريجيّاً. في المقابل، تبنّت بعض الدول، مثل إيران، خيار التحويلات النقديّة بشكل كامل. وتستحقّ التجربة الإيرانية وقفة خاصة، إذ شكّلت خطوة جريئة وغير مسبوقة، خصوصاً في بلدٍ منتج للطاقة، لكنّها في الوقت نفسه كشفت عن مخاطر الإصلاحات المتسرّعة.
ففي العام 2010، أطلقت إيران خطّة “إصلاح الدعم الموجّه”، خفّضت بموجبها الدعم عن عددٍ من مصادر الطاقة والسلع الغذائية الأساسيّة، ولا سيّما الخبز، وأدخلت تحويلات نقديّة غير مشروطة.41 نجحت هذه الخطوة في البداية بتحسين أنماط الاستهلاك ومستويات التغذية، وقلّصت الفجوة بين الأغنياء والفقراء.42 وتشير التقديرات إلى أنّ مؤشّر الفقر انخفض من 22,5 في المئة إلى 10,6 في المئة.43 غير أنّ هذه المكاسب لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما تآكلت بفعل الضغوط التضخّمية44 وتراجع قيمة العملة الوطنية وغياب آليّة لربط التحويلات بمستويات الأسعار، ما أفقد التحويلات النقديّة الكثير من قوّتها الشرائية.45 ويرى بعض المحلّلين أنّ الإصلاحات فاقمت في نهاية المطاف انعدام الأمن الغذائي واتّساع فجوة عدم المساواة،46 ناهيك عن أنّ هذه التحويلات كانت مُكلفة وقدرتها على الاستهداف ضعيفة.47 وتجاوزت كلفتها الوفورات الناجمة عن الإصلاحات نفسها. وفي حين صُمّمت في الأساس لمصلحة الأُسر المنخفضة الدخل، فإنّ التحديات الإدارية في تحديد المستحقّين جعلت 80 في المئة من السكان مؤهّلين للاستفادة منها منذ انطلاقة البرنامج.48 وعلى الرغم من المحاولات الآيلة إلى تحسين الاستهداف لاحقاً، يُقدَّر أنّ هذه التحويلات شملت نحو 70 مليون شخص، أيّ ما يعادل 95 في المئة من السكّان.49
وفي مسعى لمعالجة الأخطاء في الاستهداف، حاولت إيران عام 2022 اعتماد قسائم إلكترونية موجّهة.50 غير أنّ التأخّر في تطوير البنية التحتيّة وعدم موثوقيّة بيانات الحماية الاجتماعية حالا دون ذلك، فاستمرّت التحويلات النقديّة المباشرة، رغم أنّها كانت مصمّمة لتُصرف مؤقتاً في الأشهر الأولى فقط.51 وقد ساهمت هذه التحويلات في تغذية التضخّم المتصاعد أصلاً، وتحوّلت إلى شبه شاملة بعدما استفاد منها نحو 75 في المئة من السكّان، علماً أنّها كانت مخصّصة أساساً للشرائح الثلاثة الأدنى دخلاً.52 ورُبط هذا البرنامج لاحقاً بتراجع مستويات الرفاه وتفاقم معدّلات الفقر.53
وُضعت الإصلاحات بعناية وسوّقت لها الحكومة تسويقاً جيّداً، إلا أنّ التداعيات الاقتصادية اللاحقة قوّضت الثقة الشعبيّة التي بُنيت بصعوبة، وأوقفت أيّ زيادات إضافية في الأسعار. وفي حين أُطلقت موجةٌ جديدةٌ من الإصلاحات عام 2014، لا تزال إيران حتى اليوم تُعاني من تحويلات نقديّة مُكلفة وضعيفة الاستهداف.
يتطلّب إصلاحٌ مستدامٌ لأنظمة الدعم مجموعةً من الشروط الأساسيّة، في مقدّمتها تقبّل الرأي العام لهذه الإصلاحات، وثقة بالمؤسّسات، وبيئة اقتصادية وحوكمة ملائمة، بالإضافة إلى شبكات أمان اجتماعي موثوقة. غير أنّ هذه الشروط لا تزال غائبة وبعيدة المنال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتُظهر أحدث بيانات الرأي العام في المنطقة تصاعد توقّعات السكّان بالحصول على الحماية الاجتماعية، مقابل تراجع ملحوظ في ثقتهم بالمؤسّسات. ففي ظلّ تفاقم الضغوط التضخّمية، سواء نتيجةً لجائحة فيروس كورونا أو لتداعيات الصراع الروسي الأوكراني، وازدياد مستويات انعدام الأمن الغذائي، أشارت بيانات مسح “الباروميتر العربي” إلى أنّه مقارنةً بعام 2022، اعتبرت شرائح واسعة من سكّان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الدعم أولويّة في الإنفاق العام في بلدانهم، حيث بلغت هذه النسبة 62 في المئة في الأردن، و54 في المئة في لبنان، و39 في المئة في تونس (انظر الرسم البياني 2). وفي العام 2024، أفاد 32 في المئة من الأشخاص الذين شملهم استطلاع للرأي في تونس، و27 في المئة في كلّ من الأردن والعراق، بأنهّم غالباً ما ينفد لديهم الطعام ولا يملكون المال لشراء المزيد.54 كما كشفت البيانات عن تفاقم أزمة الثقة بالمؤسّسات، إذ لم يعرب سوى 39 في المئة من المستطلعين في الأردن، و36 في المئة في تونس، و33 في المئة في المغرب، و7 في المئة فقط في لبنان، عن “ثقتهم الكبيرة أو المتوسّطة” بحكومات بلادهم.55
على الرغم من أنّ إصلاح أنظمة الدعم يشكّل خطوة أساسيّة باتّجاه ضبط المالية العامة، فإنّ فرص نجاحه تزداد عندما يُطبّق في فترات الاستقرار النقدي والمالي والتوسّع الاقتصادي. وفي حين بدأ التضخّم بالتراجع في المنطقة عام 2024، حيث بلغ المعدّل الوسيط للتضخّم 2,2 في المئة مقارنة بـ3,4 في المئة عام 2023،57 فإنّ الضغوط التجارية المرتفعة تُبقي مخاطر التضخّم قائمة.58 وبغضّ النظر عن الضغوط التضخّمية، فإنّ الأداء الاقتصادي الكلّي للمنطقة لا يزال يفرض قدراً من التفاؤل الحذر. فقد خُفّضت توقّعات نموّ الناتج المحلّي الإجمالي الإقليمي لعام 2025 إلى 2,6 في المئة، بتراجعٍ عن 3,8 في المئة بحسب التقديرات الأوّلية، بفعل زيادة الرسوم الجمركية وما تلاها من إجراءات مضادّة، وتزايد الاعتماد على المساعدات الخارجية وضبابيّة الأوضاع المالية، إلى جانب تفاقم حالة عدم الاستقرار الجيوسياسي.59 وعلى الرغم من التحسّن الذي طرأ في العام 2023، فإنّ العجز المالي الإقليمي يتّسع من جديد، ومن المتوقّع أن يتجاوز 3 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2025. 60 وفي حين يُرتقب أن يخفّف انخفاضُ أسعار النفط الضغوط على الحسابات الجارية للدول المستوردة، فإنّه في المقابل سيضغط على موازنات الدول المصدّرة، بما أنّ الأسعار الحاليّة هي دون مستويات التعادل المالي62.61 أخيراً، لا يزال شبح أزمة الديون يخيّم على المنطقة، إذ يُتوقّع أن ترتفع الديون في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير المصدّرة للنفط إلى نحو 77 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2025.63 ومن المرجّح أن تتفاقم المخاطر المرتبطة بالديون عالمياً بفعل تصاعد حالة عدم اليقين الجيوسياسي وما يرافقها من ارتفاع في كلفة الاقتراض.64
وبعيداً عن العوامل الاقتصادية الكليّة، يستلزم حشدُ التأييد الشعبي لإصلاحات مثيرة للجدل مثل تقليص الدعم ضمانَ استثمار الوفورات الناجمة عن هذه الإصلاحات على النحو الأمثل في توسيع شبكات الأمان الاجتماعي وتمويل مجالات الإنفاق الاجتماعي والإنتاجي الأخرى. ويتطلّب ذلك توفير أُطر حوكمة سليمة وإدارة مالية شفّافة. غير أنّ تحدّيات الشفافيّة المالية لا تزال تُلقي بظلالها على المنطقة، وبينما اكتسب السعي إلى الحوكمة الرشيدة زخماً في الفترة ما بعد العام 2011، فإنّ مسار الإصلاحات تعثّر في المجمل.65
إلى ذلك، يبقى إقناع الرأي العام بقبول تقليص دعم المواد الغذائية مرهوناً بموثوقيّة شبكات الأمان الاجتماعي وفعاليّتها في حماية الفئات الهشّة.
حقّقت بعض دول المنطقة، منها مصر والأردن وتونس والمغرب، تقدّماً جديراً بالثناء في تطوير أنظمة الحماية الاجتماعية. ففي العام 2015، أطلقت مصر برنامج “تكافل وكرامة”، وهو برنامج للتحويلات النقديّة مصمّم لحماية الأُسر من تبعات الإصلاحات الاقتصادية، خصوصاً تلك التي طالت خفض دعم الطاقة في العام 2014 وفرض ضريبة القيمة المضافة في العام 2016. وقد أصبح البرنامج لاحقاً المبادرة الرئيسيّة للتحويلات النقدية في البلاد، وتمّت مأسسته بالكامل، حيث ارتفع حجم تمويله من 3,6 مليون جنيه مصري66 في العام 2015 إلى 41 مليون في العام 2024. 67 واستهدف البرنامج حتى ديسمبر 2023 نحو 4,67 مليون أسرة منخفضة الدخل، مقابل مليوني أسرة فقط في العام 2018، ليصل بذلك إلى 50 في المئة من إجمالي الفقراء.68 ساعد البرنامج على تقليص مخاطر السقوط في براثن الفقر، وتعزيز الاستهلاك، وتحقيق مكاسب في مجالات التغذية والصحة والتحصيل العلمي.69 كما شجّع على الاستثمار الإنتاجي، وخفّف أعباء الديون، وعزّز قدرة الأسر المستفيدة على الصمود في وجه الصدمات الاقتصادية.70 وقد دُعّم البرنامج لاحقاً بمبادرات تحويلات نقديّة مكمّلة، أبرزها برنامج “فرصة” الذي يهدف إلى تمكين المستفيدين اقتصادياً وتسهيل اندماجهم في سوق العمل.71
في العام 2024، قدّم صندوق المعونة الوطنية في الأردن تحويلات نقدية لأكثر من 235 ألف أسرة منخفضة الدخل، حيث شمل 70 في المئة من فقراء البلاد وخفّض معدل الفقر بمقدار 1,4 نقطة مئوية.72 وفي تونس، استهدف برنامج “الأمان”، وهو البرنامج الرئيسي للمساعدات الاجتماعية، 333 ألف أسرة منخفضة الدخل، ليغطّي أكثر من 10 في المئة من السكّان.73
وفي إطار السعي إلى تعزيز دقّة الاستهداف وكفاءة التنفيذ، عملت مصر والأردن والمغرب على تطوير سجّلات اجتماعية موحّدة على مستوى كلّ دولة.74 وقد خضعت أنظمة الحماية الاجتماعية في المنطقة لإصلاحات واسعة خلال العام 2023، 75 حيث شرعت دول متعدّدة في إصلاحات هيكليّة وتشريعيّة بغية تعزيز كفاءة أنظمة الحماية الاجتماعية وشموليّتها واستدامتها المالية. وشملت هذه الإصلاحات سنّ قوانين جديدة للحماية الاجتماعية في عُمان والعراق، وزيادة معاشات التقاعد والمنافع الاجتماعية في الجزائر والمغرب، بالإضافة إلى الجهود الآيلة لتسهيل إدماج العاملين لحسابهم الخاص في أنظمة الضمان الاجتماعي القائمة على الاشتراكات، وتعزيز برامج الإدماج الإنتاجي.76
ومع ذلك، لا تزال أنظمة الحماية الاجتماعية في المنطقة متأخّرة عموماً. فبحسب أحدث البيانات الصادرة عن منظمة العمل الدولية، يشكّل سكّان المنطقة 4,6 في المئة من فقراء العالم، في حين لم تخصّص الدول العربية سوى 4,6 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للحماية الاجتماعية، مقارنة بـ5,1 في المئة في دول جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ، و10,6 في المئة في دول أمريكا اللاتينية والكاريبي، و14,8 في المئة في أوروبا الشرقية، و12,9 في المئة عالمياً.77
وتتأثّر شموليّة هذه الأنظمة بالانتشار الواسع للعمل غير النظامي، فيما تتعرّض قدراتها لضغوط متزايدة نتيجة التغيّر المناخي والاضطرابات السياسية، وما يصاحبهما من هشاشة اقتصادية ونزوح سكاني.78 كما لا تزال تغطية أنظمة التقاعد دون المستوى المطلوب نظراً لعدم انتظام الاشتراكات في الضمان الاجتماعي، بينما تبقى برامج المساعدات الاجتماعية مجزّأة ومقيّدة.79
أمّا التحوّل من أنظمة الدعم إلى التحويلات النقديّة الموجّهة، فلا يزال يمثّل تحدّياً إدارياً وبيروقراطياً معقّداً، إذ يتطلّب بنية تحتيّة رقمية موثوقة وقدرة على جمع البيانات بانتظام لتقدير مداخيل الأُسر والتحقّق منها وتتبّعها، فضلاً عن تعديل قيمة التحويلات لمجاراة التضخّم. وباستثناء دول مجلس التعاون الخليجي، لا تزال المنطقة متأخّرة في اعتماد الحكومة الإلكترونيّة.80 ولا تقتصر المشاكل المتعلّقة بتوفّر البيانات وجودتها ودقّتها الزمنيّة في المنطقة على الدول التي تعصف بها الصراعات، بل تمتدّ أيضاً إلى بعض الدول ذات الدخل المرتفع، ولا سيّما الدول الخليجيّة.81
عندما تبدأ دول المنطقة بوضع الأسس اللازمة لإصلاح أنظمة الدعم، سيكون من الأجدى أن تُركّز أولاً على برامج دعم الطاقة قبل المساس بالسلع الغذائية الأساسية. فعلى عكس محاولات إصلاح دعم المواد الغذائية، لم تواجه إصلاحات برامج دعم الطاقة في السابق ردود فعل اجتماعية تُذكر.82
وبالفعل، حققّت المنطقة تقدّماً ملحوظاً في إصلاح برامج الدعم الشاملة المخصّصة للطاقة. ففي الفترة بين 2012 و2013، بدأت تونس بتقليص دعم الطاقة تدريجيّاً عبر رفع أسعار البنزين والديزل والكهرباء.83 وفي العام 2014، عدّلت أسعار الكهرباء لتتماشى مع مستويات الاستهلاك، كما أوقفت الدعم المخصّص لمصنّعي الإسمنت.84 أمّا المغرب فأطلق المرحلة الأولى من الإصلاح عام 2012، وحرّر أسعار البنزين والديزل والفيول عام 2013. 85 وفي مصر، بدأت الإصلاحات عام 2014 برفع أسعار عدد من المشتقات النفطية وتعديل أسعار الكهرباء.86 حتى إيران، وهي دولة كبرى مصدّرة للطاقة، أقدمت عام 2010 على إصلاحات جريئة لبرامج الدعم، فشمل خفض الدعم عدداً من المنتجات مثل البنزين والديزل.87ومع ذلك، ما زال أمام المنطقة طريق طويل.
فدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سواء المصدّرة للطاقة أو المستوردة لها، لا تزال من بين الأكثر إنفاقاً على برامج الدعم في العالم، إذ يتراوح متوسّط معدّلات الدعم88 بين 58 في المئة في مصر، و75 في المئة في الجزائر، وصولاً إلى 94 في المئة في ليبيا (انظر الرسم البياني 3).
من شأن إصلاح برامج دعم الطاقة أن يتيح حيّزاً مالياً أوسع ويحرّر موارد في الموازنات يمكن توجيهها نحو توسيع شبكات الأمان الاجتماعية وتحسين دقّة الاستهداف.
ومع أن إصلاح أنظمة الدعم، ولا سيّما دعم المشتقات النفطية، يُعدّ خطوة بالغة الأهميّة، فإن توفير الحيّز المالي يعتمد أيضاً على مراجعة الإنفاق العام وتعزيز تحصيل الإيرادات العامّة. إلى ذلك، لا يزال انتشار المؤسّسات المملوكة للدولة يثقل كاهل اقتصادات المنطقة.90 فعلاوة على مزاحمتها للقطاع الخاص، غالباً ما تتسّم بعدم الكفاءة وسوء الإدارة، ما يجعلها تستنزف الدعم وتستهلك الموارد المالية عبر خطط الإنقاذ وضخّ رؤوس الأموال.91 وفي ما يتعلّق بالإيرادات العامة، وعلى الرغم من أنّ عدداً من دول المنطقة أجرى إصلاحات في الأنظمة الضريبية، لا تزال مساهمة الضرائب في الإيرادات دون المستوى اللازم.92 زدّ على ذلك اعتماد النظام الضريبي في المنطقة بشدّة على الضرائب التراجعيّة (كالضرائب على السلع والخدمات)، في حين لا تزال الضرائب على الدخل والثروة غير مستغلّة إلى حدّ كبير.93 ومن هنا، فإنّ تبسيط الإجراءات الضريبية وتعزيز شفافيتها سيكونان حاسمَين لرفع مستوى الامتثال وتوسيع القواعد الضريبية.
نظراً للمزاج العام السائد، وهشاشة الآفاق الاقتصادية الإقليمية، واستمرار الفجوات في الحوكمة، والضعف المزمن في شبكات الأمان الاجتماعي، لا تبدو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم قادرة على التخلّي عن اعتمادها الراسخ على أنظمة الدعم. بالتالي، لا بدّ في الدرجة الأولى من تهيئة بيئة مواتية للإصلاح، من خلال تعزيز فعاليّة الأنظمة البيروقراطية، وتحفيز كفاءة الإدارة العامة وسرعتها، وتحسين شفافيّة الماليّة العامة، واحتواء الضغوط التضخّمية، وخفض العجز المالي، وضبط مستويات الدين العام.
وفي المستقبل، سيبقى نجاح الإلغاء التدريجي لدعم الغذاء وضمان استدامة الإصلاحات مرهوناً، قبل كلّ شيء، بالقدرة على استهداف الفئات الهشّة بدقّة وتعويضها تعويضاً كافياً. ويُعدّ توسيع نطاق شبكات الأمان الاجتماعي وتعزيز استدامة أنظمة الحماية الاجتماعية وقدرتها على الاستجابة للصدمات، أولويّة قصوى. وعلى الرغم من أنّ الجهود المبذولة لإنشاء سجّلات اجتماعية موحّدة تشكّل خطوة واعدة، فإنّ المنطقة لا تزال بحاجة إلى مزيد من العمل لتحسين توفّر البيانات الإحصائيّة وجودتها.
في الوقت عينه، ينبغي التركيز على تحسين دقّة استهداف الدعم، ومعالجة الهدر والاختلالات في التوزيع، والبحث عن بدائل تمويلية جديدة.
وفي نهاية المطاف، وعلى الرغم من أنّ إصلاحات الدعم تمثّل ركيزة أساسية في جهود ضبط المالية العامة، فإنهّا لا تقدّم حلّاً جذرياً لمشاكل المنطقة ما لم تُنفَّذ بالتوازي مع إصلاحات أوسع تعالج الاختلالات الهيكليّة العميقة.