يُسلّط العدوانُ الإسرائيلي المدمّر والمتواصل على غزة بدون أي عقاب الضوءَ على عجز الكثير من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة1 والقضايا الحالية لدى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.2 ومع زيادة الضغط من أجل إنهاء الحرب، تزداد عزلة إسرائيل دولياً كما حذّر أقوى مؤيديها مثل زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر.3 وفي ظل استمرار معارضة دول العالم للإبادة الجماعية الدائرة في غزة، تبدّلت مواقف بعض الدول الأوروبية بشأن الاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما تجلّى مؤخّراً في اعتراف النرويج وإسبانيا وإيرلندا بدولة فلسطين كخطوة منسّقة وجريئة.4
في مايو 2024، أصبحت 148 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة تعترف بدولة فلسطين (انظر الخارطة 1). لكن كان لافتاً غيابُ دولتَين آسيويتَين عن قائمة هذه الدول، ألا وهما اليابان وكوريا الجنوبية. وفي ظلّ الإبادة الجماعية المستمرّة في غزة، حان الوقت لأن تعترف اليابان وكوريا الجنوبية بدولة فلسطين إن أرادتا التوفيق بين مصالحهما وقيمهما. فهذا الاعتراف سيزيد الضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها العسكري، والتسليم بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، كما وتمهيد الطريق لإيجاد حلّ فعّال ودائمٍ.
المصدر: وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية5
لقد وسّعت اليابان وكوريا الجنوبية على مدى العقود الأخيرة علاقاتهما السياسية والاقتصادية والأمنية مع عدد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتبنّتا مقاربة حذرة في التعامل مع قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فقد رسّختا العلاقات مع إسرائيل من جهة، وأيّدتا باستمرار حلّ الدولتَين وقدّمتا الكثير من المساعدات الإنسانية للفلسطينيين من جهة أخرى.
وعقب أزمة النفط في أوائل السبعينيات، ومع تزايد احتياجات اليابان للطاقة، سعت إلى بناء علاقات طيّبة مع الدول العربية ودعمت حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم الذي كان قضية سياسية مهمّة للدول العربية، خصوصاً في ذلك الحين. وفي أواخر السبعينيات، بدأت اليابان رسمياً بالتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية وسمحت لها بإنشاء مكتب في طوكيو من دون أن تمنحها صفة دبلوماسية.6 وقدّمت اليابان الدعم لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) بعد تأسيسها بفترة قصيرة، وقدّمت للفلسطينيين المساعدات الإنسانية والدعم لتطوير البنى التحتية.7 وفضلاً عن ذلك، غدت اليابان أحد أكبر المسهمين في توفير المساعدات الإنمائية للسلطة الفلسطينية عقب تأسيسها في العام 8.1994
أمّا كوريا الجنوبية، فبقيت بعيدة عن الأنظار نسبياً في الشرق الأوسط في فترة السبعينيات، وركّزت بصورة رئيسية على بناء العلاقات وتعزيزها مع القوى الإقليمية ذات النفوذ الكبير مثل السعودية ومصر وإسرائيل نظراً لاعتبارات اقتصادية وإستراتيجية. لكنّها أخذت خطوة مهمّة في أواخر الثمانينيات عندما أيّدت قرار 43/177 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي قضى بالاعتراف بإعلان المجلس الوطني الفلسطيني قيام دولة فلسطين، واستخدام الأمم المتحدة تسمية “فلسطين” عوضاً عن “منظمة التحرير الفلسطينية”.9
وعلى الرغم من هذا الاعتراف المبشّر، قاومت اليابان وكوريا الجنوبية حتى الآن الدعوات المطالبة بالاعتراف الرسمي بدولة فلسطين. ففي حين بنت الدولتان علاقات دبلوماسية مع الجانب الفلسطيني وأنشأتا مكتباً تمثيلياً لهما (ممثلية اليابان في غزة في العام 1988، وممثلية كوريا الجنوبية في رام الله في العام 2014)، لم تعترف أيّ منهما بدولة فلسطين رسمياً بعد. ويُرجّح أن يكون موقفهما هذا ناجماً عن روابطهما وتنسيقهما مع الولايات المتحدة التي تعدّ أقرب حلفائهما. فمنذ الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية، شكّل تحالفهما مع الولايات المتحدة ركناً أساسياً في البنية الأمنية لكلتا الدولتَين.10
وتصرّ الولايات المتحدة على أنّ أيّ تغيير في وضع الفلسطينيين يجب أن ينتج عن مفاوضات مباشرة بين إسرائيل وفلسطين، امتثالاً لإطار حلّ الدولتَين. وقد حذت اليابان وكوريا الجنوبية حذوها، وتجلّى ذلك في أنماط تصويتهما السابقة على القرارات المتعلّقة بالقضية الفلسطينية الإسرائيلية في مجلس الأمن والجمعية العامة. وعلى مدى العقدَين الماضيَين، وطّدت الدولتان علاقاتهما مع إسرائيل، ولا سيما كوريا الجنوبية التي عزّزت قطاعَي التكنولوجيا والدفاع نتيجة علاقاتها الوطيدة مع إسرائيل.11
خدمت عملية التوازن هذه كلتا الدولتَين حتى اللحظة، لكنّ الإبادة الجماعية المستمرّة في غزة قد تجبرهما على إعادة النظر في موقفهما. فقد أسفرت الحرب لغاية الآن عن مقتل ما لا يقلّ عن 36 ألف فلسطينيّ، ومن بينهم عدد كبير من الأطفال. وتصنّف منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) قطاع غزة اليوم المكان الأخطر للأطفال في العالم.12 وقد دمّرت الحرب جزءاً كبيراً من بنيته التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والجامعات.13 ومع استمرار إفلات إسرائيل من العقاب في حربها على غزة، سيشكّل الاعتراف بدولة فلسطين رسالةً واضحة لصنّاع السياسات الإسرائيليين بأنّ قوى آسيوية رئيسية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، تؤيّد إنهاء الإبادة الجماعية الدائرة والصراع القديم واعتماد حلّ الدولتَين.
وتُسلّط الحرب على غزة كذلك الضوء على تدهور القانون الدولي وتفكّك النظام القائم على قواعد ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي استفادت منه كثيراً اليابان وكوريا الجنوبية من حيث التنمية الاقتصادية والأمن. وكونهما من أشدّ المدافعين عن القانون الدولي وحقوق الإنسان، سيعزّز اعترافهما بدولة فلسطين مكانتهما العالمية ويرسّخ التزامهما بتحقيق العدالة والمساواة.
وقد نصّ القانون الدولي وخصوصاً ميثاق الأمم المتحدة (المادة الأولى) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة الأولى) على مبدأ تقرير المصير.14 فمطلب الفلسطينيين بقيام دولة لهم مدعومٌ بحقّهم في تقرير المصير الذي اعترفت به الأمم المتحدة وأقرّته مراراً منذ العام 15،1969 بالإضافة إلى حقّهم في تقرير مركزهم السياسي والسعي لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد منحت الجمعية العامة فلسطين صفة مراقب غير عضو في العام 16.2012 ويعزّز هذا الاعتراف الواسع النطاق حجة إعلان دولة فلسطين بموجب القانون الدولي.
وقد أعاد الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في العام 2004 بشأن التداعيات القانونية لبناء إسرائيل جداراً في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، تأكيد قابلية تطبيق معاهدة جنيف الرابعة وأكّد على عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية.17 ويدعم هذا الرأي الحجّة أنّ فلسطين تتمتّع بمركز قانوني خاص بموجب القانون الدولي. وتجدر الإشارة إلى أنّ اليابان وكوريا الجنوبية من الدول الأطراف في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وهما بالتالي ملزمتان بقرارات المحكمتَين.
كما وأنّ مواطني اليابان وكوريا الجنوبية لا يحبّذون الحرب أكثر فأكثر. وقد نظّم طلاب جامعات في كلتا الدولتَين احتجاجات مشابهة للاحتجاجات المنتشرة في أحرام الجامعات الأمريكية.18 وتشهد اليابان وكوريا الجنوبية احتجاجات أسبوعية مناهضة للحرب، ما يشير إلى تنامي المعارضة المحلية للصراع الدائر.19
صحيح أنّ اليابان وكوريا الجنوبية تميلان إلى الاصطفاف مع الولايات المتحدة في ما يخصّ سياسات الشرق الأوسط، لكن الحرب على غزة هي إحدى تلك المسائل التي قد تضرّ بسمعة الدولتَين إذا اتّبعتا النهج الأمريكي. فبحسب الباروميتر العربي، تراجع تأييد الرأي العام للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد 7 أكتوبر 20.2023 وقد أمضت اليابان وكوريا الجنوبية عقوداً من الزمن في تطوير قوّتهما الناعمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال تقديم المساعدات الإنسانية والإنمائية،21 وبالتالي سيضرّ انتهاجهما للسياسات الأمريكية غير المرحّب بها بسمعتهما التي عملتا على بنائها مع شعوب المنطقة. ومن أجل الحفاظ على العلاقات الحسنة مع دول المنطقة وشعوبها، لا بدّ من أن تبرأ طوكية وسيول بنفسهما دبلوماسياً واقتصادياً من العدوان الدائر على غزة.
والجدير بالذكر أنّ اليابان وكوريا الجنوبية تستوردان غالبية احتياجاتهما من الطاقة من الشرق الأوسط،22 فيما تشكّل المنطقة أسواقاً ضخمة لصادرات الدولتَين في مجالات متعدّدة، مثل البنى التحتية والتكنولوجيا والسيارات والدفاع. ويُعتبَر العدوان الإسرائيلي المستمرّ مصدراً رئيسياً لزعزعة الاستقرار في المنطقة قد يضرّ مباشرةً بأمن الطاقة والتجارة في كلتا الدولتَين، وبالتالي من مصلحتهما تعزيز الاستقرار الإقليمي لحماية مصالحهما الاقتصادية والأمنية. وسيزيد الاعتراف بدولة فلسطين من الضغط العالمي لوقف إطلاق النار، كما سيعود الاستقرار الإقليمي بالفائدة على الأسواق العالمية والأمن الدولي عموماً، ما يتماشى مع مصالح اليايان وكوريا الجنوبية الإستراتيجية الأوسع.
صوّتت اليابان وكوريا الجنوبية في الشهر المنصرم لصالح قرار الجمعية العامة بشأن قبول عضوية دولة فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة.23 ويمكن أن تعزّز الدولتان دعمهما لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم من خلال الاعتراف بدولة فلسطين، لتنضمّا بالتالي إلى الغالبية الساحقة من المجتمع الدولي. لكن في المقابل، قد يتسبّب اصطفافهما مع السياسات الأمريكية غير المرحّب بها تماماً في الشرق الأوسط، ولا سيما في سياق الصراع الدائر في غزة، بتضرّر سمعتهما وبتقويض القوة الناعمة التي عملتا على تطويرها في المنطقة لعقودٍ من الزمن.
وقد نصّ القانون الدولي على مبدأ تقرير المصير الذي يدعم مطلب الفلسطينيين بقيام دولة لهم. وسيشكّل اعتراف دول آسيوية رئيسية مثل اليابان وكوريا الجنوبية بدولة فلسطين رسالةً قوية لإسرائيل والمجتمع الدولي بأنّه يجب إنهاء الصراع للتوصل إلى حلّ الدولتَين. في الواقع، إنّ دعم طوكيو وسيول التاريخي والمستمرّ للقانون الدولي يرغمهما أكثر على التحرّك. ولا يمكن أن تستمر دول العالم في اتباع سياسة الولايات المتحدة التي تنظر إلى المفاوضات على أنّها السبيل الوحيد للاعتراف بدولة فلسطين، فيما من الواضح أنّ إسرائيل ليس لديها نية حقيقية للمشاركة في مفاوضات جدّية أو إنهاء احتلالها. ويتجلّى ذلك في ضمّها للأراضي المحتلّة بحكم الأمر الواقع وبحكم القانون، وكذلك في تصريحات مسؤوليها المتكرّرة.
بطبيعة الحال، لا يخلو الاعتراف بالدولة الفلسطينية من المخاطر، ومن المرجّح أن تؤدّي مثل هذه الخطوة إلى توتّر العلاقات بينهما وبين الولايات المتحدة وإسرائيل. لكن يمكن تخفيف هذه المخاطر من خلال الجهود الدبلوماسية التي تؤكّد أنّ الاعتراف جزءٌ من التزام اليابان وكوريا الجنوبية المُعلن مسبقاً بحلّ الدولتَين. ويمكن كذلك أن يشدّد الدبلوماسيّون في اليابان وكوريا الجنوبية على صعوبة التفاوض على وقف إطلاق النار بدون ممارسة ضغط دولي نظراً للاختلال الشديد في موازين القوى بين إسرائيل وفلسطين، وفي ظلّ التوسّع المستمرّ للمستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية.
في الختام، سيشكّل الاعتراف بدولة فلسطين فرصة أمام طوكيو وسيول للوفاء بواجبهما الأخلاقي وخطوة ذكية بما يتماشى مع قيمهما ومصالحهما على حدّ سواء. ويؤكّد الصراع الدائر في غزة والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان والخسائر الفادحة في الأرواح على الحاجة الماسّة للتحرّك على المستوى الدولي.
تقف اليابان وكوريا الجنوبية، كونهما من المدافعين البارزين عن القانون الدولي وحقوق الإنسان، أمام فرصة فريدة لتعزيز مكانتهما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال الاعتراف بدولة فلسطين، وبالتالي إظهار التزامهما بتحقيق العدالة والمساواة. صحيح أنّ هذا الاعتراف قد يكون رمزياً، إلّا أنّ صداه سيتردّد في جميع الشرق الأوسط والجنوب العالمي. وستعكس هذه البادرة الحسنة التزام اليابان وكوريا الجنوبية بالقانون الدولي ومعارضتهما للمذبحة المستمرّة في غزة، وستضعهما على الجابب الصحيح من التاريخ.