الخلاف بين الجزائر ومالي: فجّر إسقاط طائرة مسيّرة في مارس 2025 على الحدود بين الجزائر ومالي أزمة دبلوماسيّة فاقمت التوتر في العلاقات المتصاعد منذ مدّة طويلة. ففي الوقت الذي تتّهم فيه باماكو الجزائر بالتدخّل في شؤونها، تبدي الجزائر مخاوف من تسرّب الاضطرابات عبر حدودها المشتركة مع مالي.
اتفاق الجزائر للعام 2015 ضرورة لاستعادة السلام: أسهمت المحادثات التي توسّطت فيها الجزائر، لاسيّما “اتفاق الجزائر” عام 2015، في معالجة عدد من الأزمات السابقة. وعلى السلطات الحاكمة في باماكو اليوم أن تعترف أنّ السبيل الوحيد لاستعادة السلام يكمن في الانخراط في حوار جاد مع خصومها في شمال مالي.
مستقبل جيوسياسي مشترك بين مالي والجزائر: تفرض الحدود المشتركة والتاريخ المتداخل والروابط العائلية العابرة للحدود والعلاقات الاقتصادية القائمة، تعزيز أواصر التعاون بين الجزائر وباماكو.
دور الجزائر المحوري في الحفاظ على الأمن في منطقة الساحل: على المجلس العسكري الحاكم في مالي أن يعترف بدور الجزائر المحوري في ضمان استقرار منطقة المغرب العربي والساحل بشكل عام. في المقابل، يتعيّن على الجزائر أن توازن بعناية بين دورها كوسيط إقليمي وبين تعقيدات المشهد السياسي الداخلي في مالي.
تصادمت الجزائر ومالي أكثر من مرّة في السنوات الماضية، عقب سلسلة من الخلافات الدبلوماسية والحوادث الأمنية التي تنذر بتداعيات خطيرة على استقرار منطقة الساحل بشكل عام. يتقاسم البلدان حدوداً سهلة الاختراق تمتدّ على طول 1374 كيلومتراً، عبر منطقة صحراوية نائية تتّخذها مجموعات انفصالية وتنظيمات جهادية قاعدةً لأنشطتها. وفي منتصف مايو الماضي، أدّى إسقاط طائرة مسيّرة ماليّة قرب الحدود إلى اندلاع أزمة دبلوماسية جديدة بين البلدين.1
ومن هنا يسلّط موجز القضية هذا الضوء على ضرورة استئناف العلاقات الثنائيّة بين الجزائر وباماكو على أسس جديدة. فالقرب الجغرافي والترابط الاقتصادي والعلاقات الأسرية بين قبائل الطوارق عبر الحدود، فضلاً عن الوضع الأمني المتردي في منطقة الساحل، كلّها عوامل تؤكّد على الترابط الوثيق بين مستقبل البلدين. تعود جذور الأزمة المزمنة في مالي إلى انتفاضة متمرّدي الطوارق المسلّحين الذين عادوا من ليبيا بعد سقوط نظام معمّر القذافي في العام 2011.2 طالبت وقتها “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” بالحكم الذاتي، بل وذهبت إلى حدّ الدعوة لتأسيس دولة مستقلّة في شمال البلاد المحاذي للجزائر. وأدّت محاولتها فرض مشروعها بالقوّة إلى انقلاب عسكري في باماكو، خلّف فراغاً في السلطة استغلّته الفصائل الإسلامية، على رأسها حركة “أنصار الدين”، لتعزيز نفوذها، مستفيدة من علاقتها بتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” من أجل بسط سيطرتها على مساحات واسعة في شمال البلاد.3
أبدت الجزائر قلقاً بالغاً إزاء تصاعد الاضطرابات في مالي، خشية امتداد النشاط المسلّح إلى مناطقها الجنوبية، خصوصاً في أوساط مجتمعات الطوارق داخل أراضيها. ومن هذا المنطلق، طرحت نفسها وسيطاً، مستفيدةً من نفوذها الإقليمي وقدراتها العسكرية بصفتها القوّة الأبرز في المنطقة، من أجل التوصّل إلى “اتفاق الجزائر” عام 2015 بين حكومة مالي ومجتمعات الطوارق4 (إلى جانب مجموعات متمرّدة أخرى من الأقليات)، واستعادة السلام والاستقرار.
دخلت الأزمة بين الجزائر ومالي مرحلة جديدة في العام 2020 إثر أوّل الانقلابين العسكريين في باماكو اللذين قادهما العقيد أسيمي غويتا، حيث عمد المجلس العسكري، الذي يترأسه غويتا اليوم، إلى إعادة توجيه سياسة مالي بعيداً عن حلفائها التقليديين، على رأسهم فرنسا التي أنهت في عام 2022 عملية “برخان” بعد أن أطلقتها عام 2014 للتصدّي لانتفاضة 2012.
في المقابل، تقرّبت باماكو من روسيا عبر “فيلق أفريقيا”، التشكيل الأمني غير النظامي المعروف سابقاً باسم “مجموعة فاغنر”. تدهورت العلاقات بين باماكو والجزائر منذ ذلك الحين. ففي العام 2023، سحبت مالي سفيرها لدى الجزائر، بعد أن اتهمتها بالتدخّل في شؤونها.5 إذ اعتبرت باماكو أنّ انخراط الجزائر مع خصومها السياسيين واستضافتها لقادة المتمرّدين الطوارق يمسّ بسيادة مالي ويشكّل انتهاكاً لاتفاق السلام للعام 2015. أتبعت السلطات المالية هذا القرار بالانسحاب من “اتفاق الجزائر” في يناير 2024. 6 وبين ديسمبر 2024 ويناير 2025، صعّد المجلس العسكري لهجته، متّهماً الجزائر برعاية الإرهاب في منطقة الساحل7 وهي اتّهامات رفضتها الجزائر، مؤكدةً أنّ مساهماتها التاريخية في دعم السلام والأمن والاستقرار في مالي كانت ولا تزال تستند إلى ثلاثة مبادئ أساسية: “احترام الجزائر الثابت لسلامة أراضي مالي وسيادتها ووحدتها الوطنية”.8
في المقابل، اعتبرت السلطات الجزائرية أنّ وجود “فيلق أفريقيا” الروسي يعيق جهود استدامة السلام في مالي ومنطقة الساحل بشكل عام. كما دعت الأمم المتحدة إلى فرض عقوبات على الدول التي تستعين بجيوش تشغّلها شركات أمن خاصة، في إشارة ضمنية إلى مالي.9 هكذا وفي ظلّ غياب أي مؤشرات على تحسّن وشيك وصلت العلاقات بين البلدين إلى طريق مسدود. ونظراَ لتأثر الجزائر، بشكل مباشر بالصراعات التي تجتاح دول الجوار، فلديها ما تكسبه من السلام أكثر من غيرها من الأطراف الخارجية، مما يؤكّد أهمّية تعزيز التعاون بينها ومالي.
لطالما كانت الجزائر قوّة محوريّة داعمة للاستقرار في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء. فعلى مدى العقد الماضي، ركّزت جهودها على معالجة الاضطرابات في كلّ من ليبيا والنيجر ومالي وتونس، ساعية لتعزيز أمن المنطقة وإحلال السلام. وتضمّنت مساهمات الجزائر تدريب قوّات خاصّة وتوفير المعدّات والدعم الفنّي، إلى جانب دعم التنمية الاقتصادية في كلّ من مالي والنيجر.10
تربط بين الجزائر ومالي علاقات متشابكة منذ حصولهما على الاستقلال عامَي 1962 و1960، على التوالي ، نظراً للقرب الجغرافي والروابط التاريخية والمصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة. أبّان حرب استقلال الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسي، قدّمت باماكو دعماً مباشراً للثورة الجزائرية عبر تسهيل انطلاق العمليات العسكرية ضد القوّات الفرنسية11 واليوم، ترسم قضايا مثل الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب والتعاون الاقتصادي ملامح العلاقة بين البلدين. وقد أدّت الجزائر، بصفتها قوّة إقليميّة رئيسيّة في شمال أفريقيا، دوراً محوريّاً في التوسّط لحلّ النزاعات وتعزيز السلام في مالي وحرصت في الوقت نفسه على توطيد العلاقات الثنائية بين البلدين، سواء من خلال التجارة أو جهودها التنمويّة. على الصعيد الاقتصادي، تعتمد مالي بشكلٍ كبير على المساعدات والواردات القادمة من الجزائر والتي تشمل الأدوية المعبّأة واللقاحات والأدوات الطبية والإطارات والتمور.12
علاوة على ذلك، ترتبط مجتمعات الطوارق في الجزائر والدول المجاورة بعلاقات قبلية وثيقة، حيث تنتشر العائلات على جانبَي الحدود، ما يؤكّد على أهمّية دمج الطوارق في الهوية الوطنية الجزائرية. وبناءً عليه فإنّ أيّ حركة سياسية في مالي أو النيجر أو بوركينا فاسو تدعو إلى إقامة دولة طوارق مستقلّة قد تشكّل تهديداً مباشراً للأمن القومي الجزائري، ولوحدة البلاد وسلامة أراضيها. سبق للجزائر أن توسّطت في حلّ عدد من الخلافات السابقة بين باماكو وفصائل الطوارق المعارضة للحكومة المركزية، بما في ذلك في فترة تسعينيات القرن الماضي، حين أفضت جهودها إلى توقيع اتفاقيات تمنراست عام 1991 عقب تمرّد الطوارق عام 1990، وكذلك في عامَي 2006 و2012.13 وعلى الرغم من هذه الجهود، تُظهر حركات التمرّد المتكررة أنّ أزمة مالي الداخلية لم تُحل بشكلٍ جذريّ ومع ذلك، تستمرّ الجزائر في لعب دور هامّ في البلاد.
منذ الانقلاب الذي شهدته مالي عام 2020، كثّف المجلس العسكري في باماكو من اتهاماته للجزائر بتأجيج الاضطرابات الداخلية. وزعم مسؤولون ماليون أنّ الجزائر تأوي مجموعات مسلّحة أو تدعمها بشكل غير مباشر، مستندين إلى علاقاتها التاريخية مع قادة الطوارق. كما ادّعوا أنّ الجزائر تحتضن عناصر من “تحالف الإطار الإستراتيجي الدائم للدفاع عن الشعب الأزوادي” وتحميهم، مستشهدين بعلاقات تعود إلى دور الجزائر السابق كوسيط خلال تمرّدات الطوارق في تسعينيات القرن الماضي، وكذلك في الفترة الممتدة بين عامَي 2006 و 142009.
يرجع جانب من استياء المجلس العسكري المالي إلى معارضة الجزائر للانقلاب، وتمسّكها بعلاقاتها مع مختلف الأطراف الفاعلة في البلاد، باستثناء المجموعات المصنّفة إرهابية. وفي سبتمبر 2024، وجّه رئيس الوزراء المالي، العقيد عبد الله مايغا، انتقادات للجزائر لتدخّلها في شؤون بلاده السياسية من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، معلناً الانسحاب من “اتفاق الجزائر”.15 إلّا أنّ هذه التصريحات تجاهلت تاريخ التعاون الوثيق بين الجزائر وباماكو، لاسيّما بعد انقلاب 2012، عندما بذلت الجزائر جهوداً حثيثة في محاولة احتواء الأزمة،16 استجابة لطلب مباشر من باماكو بالتوسّط بينها وبين خصومها من الطوارق.17
أصبحت الجزائر في ما بعد وسيطاً رئيسيّاً في الحوار الداخلي المالي، الذي تُوّج بـ”اتفاق السلم والمصالحة في مالي”، المعروف بـ”اتفاق الجزائر” الموقّع في أبريل 2015. وكان رئيس الوزراء المالي آنذاك، سوميلو بوبيي مايغا، قد أكّد أنّ “الجزائر لطالما لعبت دوراً محورياً في استقرار مالي، وتدخّلت مرتين على الأقل للمساعدة في إطلاق محادثات سلام بين الأطراف المالية، عامَي 1992 و2015”.18 وفي مقابلة أجراها الكاتب مع مايغا في يناير 2016، أوضح الأخير أنّه في أعقاب التمرّد الذي حصل في العام 2012، طلب الرئيس السابق أمادو توماني توري من الجزائر إرسال قوّات إلى مالي لمحاربة المسلّحين، وهو ما رفضته الجزائر،19 كما رفضت ممارسة حق المطاردة لتعقب المسلّحين الفارّين من الجزائر إلى داخل الأراضي المالية أو النيجيرية.
تعتمد الجزائر في تعاطيها مع الأزمة في مالي إستراتيجيةَ تُوازن دقيق بين المبادئ والبراغماتية. فقد تمسّكت دوماً بسياسة عدم التدخّل، وهو ما يدفعها، إلى جانب خشيتها من الانزلاق في صراع معقّد، إلى الحذر من أيّ تدخّل عسكري مباشر في مالي.20بدل ذلك، فضّلت الجزائر توظيف أدوات الدبلوماسية وتبادل المعلومات الاستخباراتية وتعزيز الإجراءات الأمنية على الحدود من أجل مواجهة التهديدات. وفي هذا الإطار أكّد21 وزير الخارجية آنذاك، رمطان لعمامرة، في أغسطس 2021، التزام بلاده بتنفيذ الاتفاق الموقّع عام 2015، بينما أجمعت الأطراف الموقّعة من جانب مالي على دعمها للاتفاق، وأشادت بالتزام الجزائر تجاه مالي.
يرجع انخراط الجزائر في شؤون مالي، جزئياً، إلى سعيها لإدارة ملف أقليّة الطوارق داخل حدودها. فمنذ أواخر ستينيات القرن الماضي، عملت الجزائر على إدماج الطوارق ضمن منظومتها السياسية من خلال تمثيلهم في البرلمان وتحسين ظروفهم المعيشية في المدن الجنوبية. ويُعدّ التصدّي للنزاعات الانفصالية للطوارق في مالي ومساعيهم للاستقلال مسألة بالغة الأهميّة بالنسبة إلى الأمن القومي الجزائري، خشية امتداد تداعيات ذلك إلى أراضيها. وفّر “اتفاق الجزائر” إطاراً أساسيّاً لإرساء سلام دائم في مالي. وفي العام 2021، أوصى معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) بأن تطلق الجزائر آلية وساطة إقليمية في منطقة الساحل، بدعم من الاتحاد الأفريقي، بهدف مواصلة بناء الثقة بين الحكومة المركزية في باماكو والمعارضة المحلّية. 22 ومن شأن هذه المبادرة أن تُمكّن الجزائر من بلورة عملية جماعية لحلّ النزاعات وبناء السلام، مدعومة بموارد إضافية ونفوذ أوسع. وعلى الرغم من انسحاب المجلس العسكري من الاتفاق، لا يزال “اتفاق الجزائر” يشكّل قاعدة أساسيّةّ للاستقرار السياسي في مالي، وإن كان بحاجة إلى مراجعة وتحديث لمواكبة المستجدّات.
سلّط “اتفاق الجزائر” الضوء على أوجه سوء الإدارة والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية في مالي التي أعاقت عملية التطوّر السياسي. واقترح معالجة الأسباب الجذرية للصراع بهدف تعزيز المصالحة الوطنية، مع التركيز على الوحدة ومراعاة التنوّع العرقي في البلاد.23 كما شدّد الاتفاق على أهمية إعداد إستراتيجيات لتعزيز التنمية الاقتصادية في شمال مالي، نظراً للتنوّع الجيوسياسي والاجتماعي والثقافي الذي تتسّم به المنطقة، وعلى ضرورة الحكم الرشيد، والشفافية في الشؤون العامة، ومكافحة الإفلات من العقاب.24 التحدّي الأكبر وقتها كان تردّد السلطات المدنية في باماكو، إلى جانب مجموعات مثل الطوارق والسونغاي، في الانخراط بالمفاوضات، حيث لم يُبدوا استعدادهم للمشاركة إلا قبل فترة وجيزة من توقيع الاتفاق.25 ومع ذلك، وفّر الاتفاق أساساً متيناً للمصالحة في مالي، ضامناً سيادتها ووحدتها الوطنية وسلامة أراضيها. وقد اعترف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بأهميّة الاتفاق باعتباره أساسياً لتحقيق السلام والمصالحة في مالي، ودعا كافة الأطراف الموقّعة إلى مواصلة الحوار.26
لكن على الرغم من الإمكانات الواعدة التي ينطوي عليها “اتفاق الجزائر”، فإنّ الكثير من بنوده الأساسية لم تُطبّق بعد. وقد أشار مراقبو “مركز كارتر” إلى وجود “تأخيرات كبيرة” في تنفيذ البنود الأساسيّة من الاتفاق،27 فبعد مرور خمس سنوات على توقيعه، لم تسفر عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، المدعومة من الأمم المتحدة، سوى عن دمج 1840 مقاتلاً في صفوف الجيش الوطني، من أصل نحو 85000 مقاتل مسجّل من قبل الأطراف الموقّعة.28 ضف إلى ذلك أنّ من شأن تطبيق اللامركزية وتنفيذ الإصلاحات المؤسسيّة الأساسيّة أن يضمن تمثيلاً فعّالاً لكافة الماليين، بمن فيهم سكان الشمال، في المؤسّسات الوطنية.
تحافظ مالي والجزائر ودول الساحل الأخرى على علاقات اقتصادية وثيقة بصرف النظر عن خلافاتها. ففي العام 2019 صدّرت الجزائر سلعاً إلى مالي بقيمة 16,3 مليون دولار، بما في ذلك الاسمنت والأسمدة والمعكرونة والأدوات الطبية.29 وفي فبراير 2024، اقترحت الجزائر إنشاء منطقة تجارة حرّة مع موريتانيا وتونس وليبيا ومالي والنيجر،30 بهدف تعزيز البنية التحتية الإقليمية من خلال تطوير الشراكات بين القطاعين العام والخاص وتوظيف الموارد الوطنية والاستفادة من صناديق التنمية وآليات التمويل المبتكرة، بالإضافة إلى تعزيز القدرات الإنتاجية والنهوض بالقطاع الصناعي ودمج الدول ضمن سلاسل القيمة المضافة.31
دأبت الجزائر منذ العام 2013، على إعفاء عدد من الدول الأفريقية من ديونها، وقد شمل ذلك الإعفاء عن مالي في مايو من ذلك العام. وفي 2023، خصّصت الجزائر مليار دولار لدعم مشاريع تنموية على امتداد القارة،32 من بينها مشروع الطريق العابر للصحراء33 الذي يقدّم مثالاً على الروابط بين الجزائر ودول الساحل. إذ يمتد الجزء الرئيسي للطريق من الشمال إلى الجنوب على مسافة 4500 كيلومتر، رابطاً بين موانئ الجزائر العاصمة ولاغوس عبر الجزائر والنيجر ونيجيريا. وستصل الطرقات السريعة الرابطة، التي ستمتدّ على 4600 كيلومتر إلى تونس ومالي والنيجر وتشاد، على أن تُعبّد حوالي 80 في المئة منها.34 وسيسهّل مشروع الطريق العابر للصحراء، عند اكتماله، على الدول غير الساحلية مثل مالي والنيجر، الوصول إلى منافذ بحرية، كما سيساهم في بناء اقتصاد إقليمي متكامل طويل الأمد، مع إمكانية توسيعه لاحقاً ليشمل الدول الواقعة على خليج غينيا.35
تَدرس الجزائر ومالي أيضاً سبل التعاون في مجال الطاقة، إذ يُعدّ حوض تاودني الغني بالهيدروكربونات في شمال مالي ذا أهمية إستراتيجية واقتصادية بالنسبة إلى الجزائر. وعلى الرغم من أنّ تدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة يعرقل استغلاله، منحت مالي تصاريح حفر لشركة “سوناطراك” الجزائرية وشريكتها الإيطالية “إيني”.36
يفاقم وجود قوّات غير نظامية، مثل “فيلق أفريقيا”، وغيرها من المجموعات المدعومة من الخارج،37 توتر العلاقات بين باماكو والجزائر، إذ تعتبر هذه الأخيرة المجموعات المذكورة تهديداً لأمنها القومي ولأمن المنطقة ككلّ.38 ونظراً لأهميّة احتياطيات النفط والغاز والبنية التحتية في الجنوب بالنسبة لاقتصاد البلاد المُعتمِد على المحروقات، تبقى الجزائر في حالة تأهّب مستمر إزاء خطر تسلّل المجموعات المسلّحة في شمال مالي إلى هذه المنشآت ومهاجمتها، لاسيّما بعد هجوم عين أميناس في فبراير 2013، حين اقتحم مسلّحون مرتبطون بتنظيم القاعدة مجمّع الغاز في تينقنتورين واحتجزوا عدداً من الموظفين كرهائن، ما أدّى إلى حصار أسفر عن مقتل 39 رهينة، وحارس أمن جزائري وكافة المهاجمين البالغ عددهم 29 شخصا.39
مما يثبت واقع مجموعات تنشط في صحاري مالي الشاسعة ومنطقة الساحل الأوسع وهي المجموعات التي تشكّل تهديداً حقيقيّاً على استقرار المنطقة، من بينها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، بوكو حرام، حركة التوحيد، الجهاد في غرب أفريقيا، تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وغيرها.40 ولمواجهة هذه التهديدات دعمت الجزائر “مسار نواكشوط”، التي أطلقها الاتحاد الأفريقي في مارس 2013، والتي جمعت 11 دولة41 من المغرب العربي والساحل وغرب أفريقيا، لتعزيز التعاون الأمني الإقليمي.42 أثمرت هذه الجهود تعاوناً مستمرّاً حتّى في ظلّ التوترات بين الدول المتجاورة. وفي ديسمبر 2022، حثّ مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي دول غرب أفريقيا على تعزيز التعاون لمواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية، مستشهداً بمسار نواكشوط كمثال.43 وفي يناير 2024، أعرب الاتحاد الأفريقي عن دعمه لإحياء هذه الآلية، مؤكّداً على أهميّة تنسيق الجهود على المستويين الإقليمي ودون الإقليمي لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظّمة في منطقة الساحل ومناطق أخرى.44
في منتصف مارس 2025، شنّت طائرة مسيّرة ماليّة غارة داخل الحدود الجزائرية دمّرت، وفقاً لما أعلنه الجيش الجزائري، شاحنات تحمل لوحات تسجيل جزائرية كانت تقوم تنقل مساعدات إلى مجموعات معارضة لباماكو.45 أظهرت هذه الحادثة موقف مالي المتشدّد في التصدّي للتهديدات القادمة من الشمال، مثل الانفصاليّين الطوارق والجهاديّين، وسلّطت الضوء على حالة عدم الاستقرار في المنطقة الحدودية واستخدامها كقناة للتهريب والنشاط المسلّح. في غضون ذلك، عزّزت الجزائر وجودها العسكري على طول الحدود، ونفّذت عمليات ضدّ الجهاديّين في إطار إستراتيجيتها الأوسع لمكافحة الإرهاب.46 وفي الأوّل من أبريل 2025، أعلن الجيش الجزائري عن إسقاط طائرة مسيّرة عسكريّة في منطقة تين زواتين، بالقرب من الحدود مع مالي.47 وفي حين أكّدت مالي سقوط الطائرة المسيّرة، اتّهمت الجزائر بإسقاطها أثناء تحليقها في المجال الجوي المالي.48
زادت هذه الحوادث من تدهور العلاقات المتوتّرة أصلاً بين البلدين. فقد أعربت الجزائر عن مخاوفها إزاء علاقات مالي بالمرتزقة الروس ونشاط طائراتها المسيّرة بالقرب من الحدود. من جهتها، أنكرت مالي انتهاكها المجال الجوّي الجزائري، واتّهمت الجزائر بدعم الإرهاب. وردّت دبلوماسيّاً عبر استدعاء السفير الجزائري وتقديم شكاوى رسمية. في المقابل، أصرّت الجزائر على أنّ مالي انتهكت مجالها الجوي في مناسبتين سابقتين أيضاً، في أغسطس وديسمبر 2024.49 استدعت كونفدرالية دول الساحل (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) سفراءها من الجزائر في أبريل 2025.50 اللافت في الموضوع أنّ مالي لم تُبلغ الجزائر بعملياتها العسكرية الجوية، وهو إجراء روتيني بين الدول غير المتحاربة.51 بالإضافة إلى ذلك، انسحبت مالي من لجنة الأركان العملياتية المشتركة، وهي إطار إقليمي للتعاون والأمن يضمّ الجزائر والنيجر وموريتانيا، ويهدف بشكل رئيسي إلى مواجهة التهديدات المسلّحة.52
تعكس الأزمة بين الجزائر ومالي جانباً من التحدّيات الأمنيّة الأوسع في منطقة الساحل. فقد خلّف انسحاب “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي” (مينوسما) عام 2023 وخروج فرنسا فراغاً أمنياً لم يعالجه المجلس العسكري في مالي وحلفاؤه الروس بشكل كامل بعد.53 ولذلك، كثّفت الجزائر جهودها لتأمين حدودها الجنوبية تحسّباً لتكرار أزمة 2012.
وتدل المعطيات على أن مالي قد تواجه خطر عزلة أكبر في حال أقصت الجزائر بعد أن سبق وأدارت ظهرها لفرنسا وحلفائها الغربيّين وهذا لكون الجزائر، بصفتها قوة إقليمية وعضواً بارزاً في الاتحاد الأفريقي، داعماً أساسياً لمكانة مالي على الساحة الدولية. وعلى الرغم من أنّ مالي أقامت، في السنوات الأخيرة، علاقات مع كل من روسيا والإمارات العربية المتحدة و”فيلق أفريقيا”، فإنّ الحفاظ على علاقات جيدة مع الجزائر يبقى ضرورياً لاستقرار المنطقة. وعلى المدى الطويل، سيعتمد هذا الاستقرار على قدرة مالي على التوفيق بين مناطقها الشمالية والجنوبية، حيث تبقى الجزائر في موقع مثالي للمساعدة في هذا الصدد.
منذ عام 1963، توسّطت الجزائر في حلّ عدد من الخلافات بين الحكومة المركزية في باماكو والطوارق في الشمال. وعلى الرغم من الخلل في التنفيذ، ساهم “اتفاق الجزائر” في استقرار مالي وسلامة أراضيها. وفي ظلّ الاضطرابات في منطقة الساحل اليوم، يتعيّن على مالي بذل جهود فعّالة لاستعادة الاستقرار. في سبتمبر 2024، استضاف وزير خارجية مالي، عبد الله ديوب، السفير الجزائري، كمال رتيب، في باماكو، حيث شدّدا على ضرورة إقامة شراكة إستراتيجية ثنائية متينة،54 وأكّدا أنّ الجزائر ستواصل دعم مالي في سعيها لتحقيق التنمية المستدامة والسلام على الصعيدين المحلّي والإقليمي.
لا تنفي العلاقات بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجود اختلافات في دينامياتها الداخلية وسياساتها الخارجية، ويتجلّى ذلك في علاقة النيجر الوثيقة بالجزائر، على الرغم من استدعاء سفيرها مؤخّراً. إذ تواصل الدولتان التعاون في عدد من المشاريع الاقتصادية، من بينها مشروع دوسو للبتروكيماويات، وتدريب شركة الطاقة الجزائرية العملاقة “سوناطراك” لموظفين من شركة “سونيديب” (SONIDEP) النيجرية.55 فتعكس هذه الشراكة تفاهماً مشتركاً يدل على أنّ تجاوز الخلافات يصبّ في مصلحة دول المنطقة كافة.56
ويمكن لنيامي أن تؤدّي دور الوسيط بين الجزائر وباماكو لتسهيل استئناف العلاقات الثنائية. كما يمكن لجنوب أفريقيا أن تضطلع بدور مهمّ نظراً لعلاقات بريتوريا التاريخيّة المتوازنة مع كلّ من الجزائر وباماكو.57 تعدّ الجزائر من أكثر الأطراف استفادة من تحقيق السلام، مقارنة بغيرها من الجهات الفاعلة الخارجية، فتبنّيها لسياسة عدم التدخل وتاريخها في التوسّط في صراعات مالي يجعلان منها وسيطاً مثالياً. وعلى الرغم من الاختلافات حيال طريقة تعاطي الجزائر مع المجموعات المتمردة والنفوذ الإقليمي، فمن شأن بناء علاقة براغماتية معها أن يدعم مصالح طويلة الأمد لمالي بدل استمرار العداء بينهما. إذ ينبغي على مالي أن تتجنّب تحويل المنطقة إلى ساحة صراعات بالوكالة بين القوى الإقليمية أو العالمية. ونظراً لتشابك مستقبل مالي والجزائر، فمن مصلحة البلدين تحسين العلاقات بينهما، كما هو الحال بالنسبة إلى منطقة الساحل ودولها.