شكّل انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 لحظة مفصليّة في تاريخ سوريا، والشرق الأوسط على نطاق أوسع، بعد نحو عقد على اندلاع الحرب الأهليّة.1 فقد تحوّلت سوريا، طيلة فترة الصراع، إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات الجيوسياسية، ما أدّى إلى نشوب صراعات بالوكالة وإلى تورّط قوى عظمى، بما فيها الولايات المتحدة وروسيا.2 ومن أبرز تداعيات هذه الحرب ظهور جيب هيمنت عليه القوى الكردية في شمال شرق سوريا، حيث أنشأت وحدات حماية الشعب (YPG) شبه دولة في العام 2012، وأصبحت حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة في الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية.3 ويتّسم مستقبل الجيب بأهميّة خاصة إذ يؤثّر تأثيراً مصيريّاً في مسار الدولة السورية، لا سيّما في ما يتعلّق بوحدة أراضيها واتفاقات تقاسم السلطة والموارد، بالإضافة إلى سياستها الخارجية وقواتها المسلّحة. بالتالي، ستمثّل طريقة تعامل السلطة المؤقّتة مع الجيب في شمال شرق البلاد اختباراً حقيقياً لنهجها إزاء سائر الجهات الفاعلة ما دون الدولة، في ظلّ احتضان سوريا لعددٍ كبيرٍ من المجموعات المسلّحة النافذة التي عملت خارج إطار الدولة نحو عقد من الزمن.
أثبتت وحدات حماية الشعب قوّة صمودها على الرغم من التحديات الجسيمة التي واجهتها، بدءاً بالمنافسة مع خصومها من المجموعات المسلّحة، ومروراً بمعارضة تركيا لإقامة منطقة كردية تتمتّع بحكم ذاتي، وصولاً إلى حالة عدم اليقين التي ألقت بظلالها على مستقبل القوات الأمريكية في سوريا. ومع ذلك، ساهمت وحدات حماية الشعب، بصفتها منظّمة شقيقة لحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي خاض صراعاً مسلّحاً ضد الدولة التركية طوال عقود، في تعقيد علاقة أنقرة بالولايات المتحدة، في حين أنّ تواطؤها مع نظام الأسد قوّض قدرتها على التعاون مع المجموعات المعارضة، بما فيها هيئة تحرير الشام (HTS).4 وحتى بعد سقوط النظام وصعود هيئة تحرير الشام كسلطة مؤقّتة، لا تزال وحدات حماية الشعب تحظى بدعم إدارة ترامب باعتبارها القوة الرائدة ضمن قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي المنظّمة الجامعة التي شكّلتها واشنطن لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية.5
ترسم هذه الديناميّات المترابطة، مقرونةً بخريطة المجموعات المسلّحة المتنافسة، معالم مستقبل غامض لسوريا، إذ لم يتّضح بعد كيف يمكن للدولة التعايش مع قسد، أو كيف يمكن لقسد وهيئة تحرير الشام التوفيق بين رؤاهما المتعارضة لمستقبل سوريا. وقد سلّطت الاشتباكات التي وقعت في المنطقة الساحلية في مارس الضوء على هشاشة البلاد أمام خطر عودة الصراع، وكشفت عن استمرار التوتّرات المتجذّرة بعمق، ما قد يُشعل فتيل جولة جديدة من إراقة الدماء.6 تُقيّم مذكّرة السياسات هذه الديناميات المتغيّرة بين وحدات حماية الشعب والسلطة المؤقّتة في دمشق، وتستكشف إطاراً عملياً لتجنّب تجدّد الصراع.
عقب سقوط الأسد، شهدت هيئة تحرير الشام، وقائدها أحمد الشرع، تحوّلاً ملحوظاً. فبعدما نُعت الشرع بالإرهابيّ وبالعضو السابق في تنظيم القاعدة في العراق، دخل في مرحلة “شهر عسل” حظيت في خلالها قيادته بالدعم والشرعيّة على الساحة الدولية، كما ولاقت ترحيباً حارّاً من العواصم الغربية والإقليمية على حدّ سواء.7 وقد منح المجتمع الدولي الشرع قدراً من الثقة، بفضل انفتاحه على الأقليّات وتأييده للمصالحة واستعداده للتعاون مع الغرب. لكنّه سرعان ما واجه أزمته الأمنيّة الأولى في 8-9 مارس، عندما استهدفت ميليشيات مرتبطة بالحكومة الانتقالية الأقليّة العلوية.8 فعلى مدار يومين، لاقى أكثر من ألف شخص حتفهم، من بينهم 745 مدنياً، في اشتباكات بين القوات المتحالفة مع الحكومة ومقاتلين موالين للنظام.9 وقد تعهّد الشرع بتقديم مرتكبي المجزرة، التي وقعت في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، إلى العدالة.10 بالإضافة إلى ذلك، وعدت الإدارة الجديدة بإطلاق عمليّة دستورية شاملة.11 غير أنّ المخاوف تصاعدت في يوليو مع مقتل أكثر من 350 شخصاً في اشتباكات طائفية بين الميليشيات الدرزية والقبائل البدوية في السويداء، في صراع لا يزال دائراً واستدعى غارات جوية إسرائيلية، ما أضفى عليه بعداً جيوسياسياً.12
في إطار مساعي الحكومة الجديدة للتواصل مع قوات سوريا الديمقراطية، وقّع أحمد الشرع والقائد العام لقسد، مظلوم عبدي، في مارس اتفاقاً وضع الأساس لدمج قسد في الجيش الوطني والاعتراف رسمياً بحقوق الأكراد.13 وتضمّن الاتفاق خططاً لتشكيل لجان متابعة، من بينها لجنة لدراسة آليّة الدمج. وأكّد عبدي معارضته لوجود جيشَين متوازيين في البلاد.14 إلا أنّ هذا الاتفاق أعقبه رفضٌ كرديّ للدستور المؤقّت الذي اقترحه الشرع.15 واعتبر الجناح السياسي لقسد أنّ الدستور المؤقّت “يعيد إنتاج السلطوية” ويفرض حكماً مركزياً، خلافاً لمطالبة قسد بتوزيعٍ عادل للسلطة وبنظام حكم لامركزي.16
هذا يشير إلى أنّ المصالحة بين دمشق والسلطات في شمال شرق البلاد تشكل جزءاً من تسوية أكبر تتعلّق بمستقبل سوريا الدستوري. كما ترتبط معايير الحكم في سوريا ارتباطاً وثيقاً بالديناميّات الجيوسياسية، إذ تجسّد سوريا ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية. لقد رسّخت دول مثل الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران حضورها في سوريا، ليمتدّ إلى المجالات السياسية والأمنية والإقتصادية.17 من جهتها، تصرّ تركيا على منع قيام منطقة ذات حكم ذاتي في الشمال الشرقي. صحيحٌ أنّ حدّة التوترات قد تراجعت منذ دعوة زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان إلى حلّ الحزب، إلا أنّ ذلك لم يفضِ إلى تغييرٍ جذري في سياسات أنقرة بقدر ما مكّنها من اعتماد نبرة أقل تصادميّة.18 وتواصل كلّ من تركيا ودمشق الدعوة إلى دمج الجماعات المسلّحة في الدولة بموجب المادة 9 من الدستور المؤقت، التي تحظّر على المجموعات المسلّحة العمل خارج إطار الدولة.19
وفي غياب موافقة أنقرة، من غير المعقول التوصّل إلى تسوية دائمة بين وحدات حماية الشعب وهيئة تحرير الشام. فعندما شنّ نظام الأسد وروسيا حملة قصف مكثّفة على منطقة إدلب الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام، أدّت تركيا دوراً حاسماً في منع سقوطها.20 كما نجحت تركيا في منع وحدات حماية الشعب من توسيع نطاق سيطرتها باتجاه مدينة منبج، وكبحت جماح طموحاتها التوسّعية.21 في المستقبل، سيبقى دور الولايات المتحدة محورياً لا محالة. وفي حال انسحاب القوات الأمريكية، قد ترى كلّ من دمشق وأنقرة في ذلك فرصة إستراتيجية تُبرّر لهما، أو حتّى تدفعهما إلى شنّ عمليات عسكرية ضد قسد، في محاولة لاستعادة السيطرة على المناطق المتنازع عليها.
لا بدّ من الاشارة إلى أنّ تركيا رحّبت بحذر بالاتفاق بين هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال التباينات قائمة حول آليّة تطبيقه والتفسير الذي تتبنّاه أنقرة.22 عند الإعلان عن الاتفاق، وُصف بأنّه اتفاق تمهيدي يهدف إلى دمج قوات سوريا الديمقراطية في وزارة الدفاع السورية، إلى جانب إدماج المؤسّسات المدنية والعسكرية التابعة لها في الدولة السورية.23 ويضمن الاتفاق حقّ السوريين كافة في التمثيل السياسي والمشاركة في المؤسّسات الحكومية.24 كما يعترف رسمياً بالمجتمع الكردي كجزء أساسي من سوريا، ويؤكّد مواطنتهم وحقوقهم الدستورية، مع إعطاء الأولوية للعودة الآمنة لجميع السوريين النازحين بسبب الصراع إلى ديارهم الأصلية، وهو الهاجس الرئيسي لقوات سوريا الديمقراطية، خاصةً في ما يتعلّق بالأكراد النازحين جرّاء الهجمات المدعومة من تركيا.
ويدعو الاتفاق إلى وقف إطلاق نار شامل، ويُلزم الطرفَين بدمج المؤسّسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن الدولة السورية، بما في ذلك الحدود والمطارات وموارد الطاقة. في الظاهر، حقّق الاتفاق إنجازاً هائلاً بتفكيك مجموعة مسلّحة قوية ووظائفها الإدارية في غضون أشهر. إلا أنّه سرعان ما كشف عن ثغراته، التي تمثّلت بغموضه وافتقاره إلى آليّات التنفيذ. في الواقع، لم يتمكّن هذا الاتفاق من حلّ قوات سوريا الديمقراطية ككيانٍ مستقلّ، ولا تزال أحكامه مبهمة في ما يتعلّق بدمج إدارة شمال شرق سوريا ضمن الدولة السورية، ما قد يفسح المجال أمام تقاسمٍ لامركزي للسلطة أو سيطرة مركزية من جانب دمشق.
بمعنى آخر، لم تنطلق بعد أيّ عملية إعادة دمج شاملة على الصعيدين العسكري والإداري، ما قد يُعدّ أمراً إيجابياً، إذ من غير المعقول دمج قوات سوريا الديمقراطية وإدارتها في الدولة السورية في ظلّ المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها البلاد، واستمرار المشاكل السياسية والدستورية على نطاقٍ أوسع. وقد يكون التأجيل ضرورياً نظراً لارتباط تفكيك قسد ودمجها بالحقوق السياسية للأكراد المضطهدين في سوريا على مرّ التاريخ، وغيرهم من المجموعات المسلّحة التي لم تخضع لسلطة الدولة بعد، ناهيك عن التحدّيات الداخلية الكرديّة، لا سيما أنّ قوات سوريا الديمقراطية تمثّل فصيلاً واحداً فقط، وتواجه انتقادات على خلفيّة احتكارها للسلطة وتهميش منافسيها.25
ومع ذلك، انعقد مؤتمرٌ حول الوحدة الكردية في شمال شرق سوريا (روج آفا) في أبريل وجمع ممثلّين عن المجلس الوطني الكردي (الهيئة المعارضة الجامعة في شمال شرق سوريا)، وحزب الاتحاد الديمقراطي الحاكم (PYD)، وممثّلين عن الأحزاب الحاكمة في كردستان العراق.26 يُفضّل المجلس الوطني الكردي نموذجاً فدرالياً تقليدياً لسوريا، يشمل دستوراً منفصلاً لشمال شرق البلاد، بينما يُفضّل حزب الاتحاد الديمقراطي حكماً محلياً قائماً على المجتمعات المحليّة كجزء من سوريا اللامركزية.27 وعلى الرغم من أنّ المؤتمر لم يفلح في حلّ الانقسامات بين الفصائل الكردية، أشار إلى وجود مجال وإمكانية للحوار، ما قد يشكّل نقطة انطلاق محورية للتخفيف من حدّة الانقسامات الداخلية الكردية في ظلّ المفاوضات الجارية مع دمشق.
بالتالي، فإنّ الانتظار حتى اكتمال العمليّات الدستورية والتشريعية والسياسية قد يمهّد الطريق لعواقب غير مقصودة وعناصر معرقلة للسلام، ويقود إلى حالة من الركود. وتجسّد ليبيا والعراق خير مثال على هذه القضايا. ففي الحالتين، شهدت المرحلة الانتقالية ما بعد الصراع إعادة ترتيب صفوف النخب السياسية والفصائل المسلّحة وتعزيز نفوذها، مع استغلال الموارد العامة وتحويل مساراتها لتوسيع شبكات المحسوبية الخاصة بها. بعبارة أخرى، وفي ظلّ حالة عدم اليقين السياسي وتنامي المظالم الاجتماعية، يتفاقم التنافس بين الفصائل على النفوذ والموارد، بينما تجد الأطراف الخارجية فرصاً لإعادة بسط نفوذها.28
ومع ذلك، تتمثّل إحدى قصص النجاح في المرحلة المباشرة التي أعقبت غزو العراق في العام 2003 في تحقيق السلام التاريخي بين إقليم كردستان وبغداد، الذي استند إلى أحكام دستورية حدّدت آليات تقاسم السلطة والموارد.29 ويكمن سرّ نجاح ذلك الترتيب، على النقيض تماماً من الديناميّات التي نشأت بين الفصائل العربية السنية والشيعية في بغداد، في وضع أُسس المفاوضات حول الدستور بين أربيل وبغداد قبل الحرب نفسها، بفضل العلاقات التي نسجتها المجموعات الكردية والعربية المعارضة على مدى عقود.30
في المقابل، أدّى غياب علاقة فعّالة بين الفصائل العربية السنية والشيعية المتنافسة داخل بغداد (وفي ما بينها)، بالإضافة إلى الاستعجال في إقرار الدستور، إلى اضطلاع مجموعة من الأحزاب العراقية التقليدية والمدعومة من الغرب بدور يفوق حجمها في العملية الانتقالية ما بعد الصراع، وذلك على حساب مجموعات قويّة مثل التيّار الصدري، الذي كان يحظى بنفوذ واسع فحشد صفوفه ليتحوّل إلى قوة شبه عسكرية كردّ فعل.31 هذا فتح أيضاً الباب أمام المجموعات المتطرّفة والجهات الفاعلة الخارجية للاعتراض على النظام السياسي الذي تأسس بعد العام 32.2003
بناءً على العِبَر المستقاة من العراق ومن سائر المناطق، سيعتمد مصير سوريا المباشر على مجموعة من العوامل المترابطة، منها العمليات الدستورية، والمصالحة، وإصلاح قطاع الأمن، وتمكين المدنيّين من خلال سيادة القانون والمساءلة. لكن من الممكن أيضاً تفعيل هذه العمليّات ودعمها بالاستفادة من الهياكل الإدارية والتنظيميّة القائمة، حتّى إن لم تكن تعمل عبر مؤسّسات الدولة نفسها. وتكتسب هذه المقاربة أهمية خاصة لا سيما إذا استندت ممارسات بناء الدولة التقليدية إلى رؤيةٍ مركزية للدولة في مجالي الحوكمة والأمن، حيث تُفرض الدولة وفق نظريّة “فيبر” على هياكل الحكم القائمة أصلاً.
لقد صُمّم المشهد الحالي في سوريا بهدف تجاوز السلطة المركزية في دمشق، إذ يتألّف من مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية، المحليّة والعابرة للحدود الوطنية، التي تتمتّع بروابط خارجية متينة وبقدرات ما دون الدولة، وتمتلك شبكات وعلاقات وموارد واسعة النطاق، ضمن هياكل الحكم الذاتي التي طُوّرت لتحدّي نظام الأسد والالتفاف عليه.
في الواقع، جاءت هيئة تحرير الشام وسلطتها المستقرّة نسبياً منذ تولّيها الحكم، ثمرة سنوات من الخبرة في إدارة إدلب. فقد أنشأت المجموعة المجالس المدنية في المنطقة وأحكمت سيطرتها عليها لتلبية الاحتياجات الإنسانية الملحّة لمجتمعاتها، مستفيدةً من الحماية العسكرية التركية والمؤسّسات المانحة، غالباً من خلال شراكات مباشرة أو بالتنسيق مع مجموعات متمرّدة أخرى.33 وتُشير الدراسات إلى أنّ المجالس المَدنيّة في المدن والبلدات قدّمت خدمات الرعاية الاجتماعية، بالإضافة إلى خدمات الإغاثة الطارئة والخدمات البلدية مثل جمع النفايات وإمداد ا ت المياه.34 على نحو مماثل، تعمل المجالس التشريعية والقضائية والتنفيذية بفعاليّة في المناطق الخاضعة لسيطرة القوى الكردية في شمال شرق سوريا، لتظلّ هذه المنطقة الأكثر استقراراً في البلاد.35
يمكن لإدلب ولشمال شرق سوريا، باعتبارهما منطقتين شهدتا حكماً مستقراً طيلة العقد الماضي، أن توجّها جهود دمشق نحو صياغة خريطة طريق سياسية ودستورية. ومن الناحية العملية البحتة، يواجه قادة سوريا المؤقتون تحديات جسيمة في سعيهم لتلبية الاحتياجات الملحّة من خدمات عامة ورعاية اجتماعية وضمان فعّالية الاقتصاد وسيادة القانون. ومن خلال تعامل هيئة تحرير الشام مع المناطق الخاضعة لإدارة قوات سوريا الديمقراطية كما هي، واحتضان نظامها السياسي المستقر، أمام هيئة تحرير الشام فرصة للاستفادة من بنية قسد العسكرية والإدارية المنضبطة وشراكتها مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، فضلاً عن هياكلها شبه الدولتية الأوسع، في معالجة التحديات التي تعترض النظام السياسي في مرحلة ما بعد الأسد.
يمكن أن تتشارك دمشق وقوات سوريا الديمقراطية المصالح في مجالات متعدّدة، من أبرزها مكافحة الإرهاب، فلا هيئة تحرير الشام ولا قسد ترغبان في عودة تنظيم الدولة الإسلامية أو أمثاله.36 وبالنسبة لهيئة تحرير الشام، تقدّم مكافحة الإرهاب فرصة لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة وتوسيعها. وفيما لا تزال إدارة ترامب بصدد صياغة سياستها بشأن سوريا، ستواصل واشنطن في الوضع الراهن الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية ودعمها في إطار حملتها المستمرّة ضد المجموعات الجهادية، ما يُعدّ عاملاً حاسماً في تأمين الدعم لعملية إعادة الإعمار.
كما ستؤدّي قوات سوريا الديمقراطية دوراً جوهرياً في تأمين البنية التحتية الهيدروكربونية في سوريا وحمايتها. وفي ظلّ حالة عدم الاستقرار والغموض التي تشهدها سوريا، فهي معرّضة لهجمات تستهدف بنيتها التحتية التجارية والإستراتيجية، ما يتطلّب نشر عناصر أمنية وجمع المعلومات الاستخباراتية وحشد الدعم من المجتمعات المحليّة. من جهتها، تتمتّع قوات سوريا الديمقراطية، بصفتها القوة المهيمنة على شمال شرق البلاد، بقدرة على جمع المعلومات الاستخباراتية تتجاوز المناطق التي تسيطر عليها، إلى جانب وصولها إلى المعلومات الاستخباراتية الغربية ونسجها علاقات عابرة للحدود مع السلطات العراقية.37 هذا كله سيُعزّز قدرة سوريا على جذب الاستثمارات الأجنبيّة، لا سيما أنّ الدراسات تُشير إلى أنّ المستثمرين الأجانب يقيسون المخاطر من خلال تقييم قدرة الدولة المضيفة على التعامل مع الإرهاب، وما إذا كانت تربطها علاقات مع الغرب في مجال مكافحة الإرهاب.38
قد لا تتمحور المسألة بالضرورة حول إمكانية التعاون بين قوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام، بل حول الشكل الذي سيتّخذه هذا التعاون. في الواقع، ستسعى قسد إلى الحفاظ على استقلاليتها ضمن إطار الحكم اللامركزي، بينما تسعى هيئة تحرير الشام إلى دمجها في الدولة السورية. ومع ذلك، وبينما يحاول الطرفان التوصّل إلى تسوية وتحديد شروط التعايش بينهما، يتّضح أنّ كليهما يشتركان في أهداف تتمثّل في منع عودة النظام السابق، وإحباط أيّ تمرّد محتمل من جانب أنصار الأسد، ومنع الجهات الفاعلة الخارجية من زعزعة استقرار سوريا الجديدة.
الحقيقة المرّة هي أنّ سوريا معرّضة للعودة إلى دائرة الصراع، سواء بسبب التنافسات الداخلية أو بفعل الجهات الفاعلة الخارجية التي قد تسعى لإعادة ترسيخ وجودها وبسط نفوذها في البلاد. وتجسّد الأحداث في السويداء مثالاً على التوتّرات التي يمكن أن تشعل فتيل صراع يشمل أطرافاً خارجية. وقد تندلع أعمال عنف مماثلة في أماكن أخرى، بما في ذلك المناطق ذات الغالبية العلوية المتأثّرة بإيران وحلفائها مثل حزب الله والحشد الشعبي العراقي.39 كما تشعر إيران بالقلق إزاء صعود هيئة تحرير الشام وهيمنة تركيا بصفتها الجهة الفاعلة الخارجية الرئيسية في سوريا.40 وفي هذا السياق، قد تشكّل قسد حليفاً قيّماً لدمشق في مواجهة أيّ تمرد محتمل، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي.
علاوة على ذلك، فإنّ النظام اللامركزي الذي يتطلّبه هذا الوضع يستلزم الحفاظ على استقلالية قوات سوريا الديمقراطية في إدارة شمال شرق البلاد وعلى دورها في استتباب الأمن، ما سيُثير جدلاً مع تركيا لا محالة. ومع ذلك، يمكن لدمشق التعاون مع قسد في إنشاء قوات مشتركة تعمل بإشراف الحكومة المركزية، وتضم مقاتلين من صفوف كلّ من قسد ووزارة الدفاع السورية. وبهذه الطريقة، يمكن لدمشق وضع حجر الأساس لجيش وطني أوسع من خلال إبراز مزايا الاندماج أمام مجموعات مسلّحة أخرى، مثل الميليشيات الدرزية التي رفضت الالتحاق بوزارة الدفاع وتتحفّظ على الاندماج في الدولة السورية.41
من الممكن تهدئة المخاوف التركية من خلال جعل الحكم اللامركزي -وأيّ تسوية أوسع بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية- مشروطاً بتقاسم قسد السلطة مع الفصائل الكردية المنافسة في المجلس الوطني الكردي، الذي تعتبره أنقرة وسيلة للحدّ من احتكار قسد للسلطة.42 وفي نهاية المطاف، يجب على الشرع والحكومة الانتقالية في دمشق شقّ طريقهما الخاص مع قسد، والاضطلاع بدورٍ استباقي لضمان الدعم التركي لهذه الإستراتيجية. وعلى الرغم من أنّ تركيا تعارض احتفاظ قسد بهياكلها العسكرية والأمنية، قد تقبل بقوات ومراكز مشتركة تجمع بين عناصر من الجيش السوري وقسد تحت قيادة دمشق، على غرار الألوية المشتركة بين الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية.43
ويمكن للشرع أن يؤدّي دوراً مهماً في التوصّل إلى هذه التسويات، وتهدئة التوتر بين قسد وتركيا، وكذلك بين قسد والجيش الوطني السوري الأوسع المدعوم من تركيا الذي يضمّ مجموعات معارضة للأسد مدعومة من أنقرة. ومن الجدير بالذكر أنّ الجيش الوطني السوري مندمج رسمياً في وزارة الدفاع، إلاّ أنّ فصائله احتفظت بهياكل القيادة والسيطرة الخاصة بها. 44
في خضمّ المراحل الانتقالية الهشّة ما بعد الصراع، يداهم الوقتُ صنّاع القرار والشعب معاً. لذا، لا بدّ من أن تتحرّك حكومة الشرع وقوات سوريا الديمقراطية بسرعة للتوصّل إلى تسوية مؤقتة للتعايش تقوم على سدّ الثغرات التي قد تُستغل لزعزعة استقرار البلاد. بهذه الطريقة، يمكن لدمشق وقسد الشروع في بناء علاقة عمليّة على أُسس حسن النية والثقة والمصالح المشتركة. فالهدف ليس ابتكار تسوية سياسية مثالية، بل السعي لتحقيق هدنة دائمة، ولو غير كاملة، تعترف بالواقع على الأرض وتُفضّل الاستقرار على التوافق الرمزي. وينبغي على هذا الترتيب إعطاء الأولويّة لتحقيق المكاسب الفورية بدلاً من الطموحات غير الواقعية لبناء هياكل سياسية ودستورية، مع العلم أنّ هذه الخطوات قد تصطدم بمقاومة متجذّرة وشرسة.