إسـحق شـيدر، مؤلف مساعد
عدد الدول الذي يدخل ضمن هذه الفئة صغير نسبياً، إذ يقلّ عن نسبة 10 في المئة من المجموع. وقد يختلف حجم هذه الزيادة من 3-4 نقاط مئوية ليصل إلى 30 نقطة.
برز ازدياد أوّلي في الثقة الشعبية تلاه تراجع في الثقة، وغالباً ما وصل هذا التراجع إلى مستويات أدنى من المستويات المسجّلة عند بداية الجائحة. وبإمكان المستويات المرتفعة من الاستقطاب السياسي أن تحدّ من هذا الازدياد.
قد يواجه البعض غضب الشعب في نهاية المطاف. لكنّ الثقة مقياس معقّد، ومن المرجّح أنّ عدداً قليلاً من الناخبين سيعتبرون فيروس كورونا المستجدّ المعيار النهائي الذي على أساسه سيقيّمون مصداقية قادتهم السياسيين وأدائهم.
يكمن موضوع الثقة بالحكومة في لبّ مصداقية الدولة وشرعيّتها المتصوّرتَين. فعندما يثق الشعب بحكومته، من المرجّح أكثر أن يتبع المواطنون توجيهاتها وإرشاداتها، سواء أكان ذلك تسديد الضرائب أم الانصياع لقوانين السير أم تلقّي اللقاحات وارتداء الأقنعة. وعند غياب الثقة، يتفشّى الإهمال والمواربة بشكل أوسع، ويزداد التحدي في معالجة المشاكل التي تتطلّب إجراءات جماعية. وعندما يكون الامتثال مسألة حياة أو موت، كما هو الحال في خلال جائحة عالمية، يمكن أن تكون النتائج المختلّة جرّاء نقص الثقة خطيرةً أو مفجعةً حتّى. وقد سلّطت مجموعة متنوّعة من الاستطلاعات والدراسات الوبائية الضوء على أهمّية الثقة بالحكومة كعامل حاسم في التشجيع على سلوكيات شعبية يمكنها في نهاية المطاف أن تحتوي الجائحات على غرار فيروس كورونا المستجدّ1.
مع أنّ الرابط بين الثقة والسلوك الشعبي أمر راسخ وموطّد، تضمّ معادلة الثقة جانباً غير مفهوم بالقدر ذاته. فهل بإمكان الحكومات التي تؤدّي أداء جيداً في محاربة جائحة فيروس كورونا المستجدّ أن تتوقّع أن ترتفع ثقة الشعب بها؟ وهل تواجه تلك التي لا يكون أداؤها جيّداً تراجعاً في الثقة الشعبية؟ وهل من المرجّح أن يكافئ الناخبون أو النظام السياسي الأوسع القادةَ أو يعاقبهم بناء على طريقة استجابتهم للجائحة؟ يراجع هذا الموجز بيانات استطلاعية وتحليلات من نحو خمسين دولة في محاولة للوصول إلى إجابات على هذه الأسئلة.
قبل الغوص في الأدلّة المقارنة، ينبغي التطرّق إلى بعض التنبيهات. فالثقة بحدّ ذاتها مفهومٌ ما زال يشوبه بعض الغموض، وما زالت العناصر الدافعة له غير مفهومة بالكامل ومقاييسها لم تحدَّد بالكامل أيضاً. وقد عدّدت منظّمة التعاون الاقتصادي والاعتمادية والنزاهة والانفتاح والإنصاف.2 علاوة على هذه المبادئ المعيارية، للثقة بعدٌ تجريبي أو نفعي أيضاً، إذ يتوقَّع من الحكومات (ومن قادة هذه الحكومات وسياساتها والمؤسّسات المرتبطة بها امتداداً) أن تحقّق النتائج وتوطّد الأهداف الاجتماعية المهمّة وتستجيب بفعالية للمشاكل الجماعية. وتشكّل التوقّعات الشعبية عاملاً في المسألة أيضاً، إذ يمكن أن تتشكّل الثقة ليس بما تقوم به الحكومة أو بمدى حُسْن أدائها في الماضي فحسب بل بالتصوّرات حول حُسْن أدائها في المستقبل أيضاً. وقد يختلف الثقل النسبي لهذه العوامل المختلفة بين الكيانات السياسية أو قد يتغيّر مع مرور الوقت ضمن الكيان السياسي الواحد، فيتفاعل بطرق معقدّة ويفضي إلى نتائج قد تبدو غير متوقّعة.
وغالباً ما على الجهود المبذولة لقياس الثقة أن تتصادم مع مجموعة من المسائل المفهومية أو المنهجية المعقدة. فقد يجتمع عددٌ من المفاهيم المنفردة، مثل الجدارة بالثقة والنزاهة والأمانة والكفاءة والخبرة، في سؤال استطلاعي واحد حول “الثقة”. وقد يختلف ما الذي يفهمه المستجيب من الثقة والاستعدادُ للثقة بالآخرين بين الثقافات، وأيضاً الثقة بأنّه يمكن التعبير عن الآراء بحرّية من دون التهديد بالانتقام. وقد لا تعكس الإجابات على أسئلة الاستطلاعات السلوك الفردي الفعلي.3
وعدا عن الولايات المتحدة وحفنة من دول منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تبقى البيانات الطولية حول الثقة شحيحة نسبياً، على الرغم من بروز توسّع ملحوظ في التحليلات المقارنة منذ التسعينيات. وقبل الجائحة، بيّنت الاستطلاعات العالمية عن تراجع تدريجي في الثقة الشعبية بالحكومة على مدى العقد ونصف العقد المنصرمَين في الولايات المتّحدة وأمريكا اللاتينية، فيما بقيت مستويات الثقة بالحكومات الأوروبية على حالها نسبياً وشهدت الثقة بالحكومات الآسيوية منحاً تصاعدياً.4
.والتنمية خمسة مكوّنات للثقة بالمؤسّسات العامة، من بينها الاستجابةوفي ما يخصّ فيروس كورونا المستجدّ، من الصعب أن نعزو بشكل أكيد التغيّرات في الثقة الشعبية إلى أداء الحكومة ف خلال الجائحة. وقد نُشرت بعض الاستطلاعات المفصّلة التي تتعلّق بالتحديد بالتصوّرات الشعبية لاستجابات الحكومة للجائحة، لكنّ الكثير من التقييمات الطولية المعيارية للثقة بالحكومة لا تنقسم بحسب المحفّزات الأساسية. وتحُول الفروقات المنهجية بين الاستطلاعات دون القيام بمقارنات مباشرة في ما بينها، زد على ذلك أنّ الفيروس يتبع مساره الخاص بغضّ النظر عن المواعيد الزمنية لإجراء الاستطلاعات أو وقت إجرائها.
ويبرز عامل آخر يزيد تعقيد الأمور وهو أنّ الثقة ليست موزّعة بالتساوي في المجتمع بل تميل إلى الاختلاف بحسب الشرائح. فعند أخذ مختلف العوامل بعين الاعتبار، يميل مَن هم أكبر سنّاً وأفضل صحّة إلى الثقة أكثر بالحكومة في خلال الحائجة، وتميل النساء إلى الثقة أكثر من الرجال، ويميل أولئك الذين صوّتوا للحزب الحاكم إلى التحلّي بمستويات ثقة أعلى من الذين لم يصوّتوا لهذا الحزب. وللمفارقة، يميل ذوو التحصيل العلمي الأعلى من غيرهم والأشخاص الأفقر من غيرهم إلى الثقة بالحكومة بدرجة أقلّ من عامة الشعب.5
ويُعتبر اختيار معايير التقييم أمراً مهماً، لأنّ الثقة تختلف بين الكيانات الحكومية وعلى مرّ الزمن على حدّ سواء. ففي تونس مثلاً، كانت لنسبة 96 في المئة من الشعب ثقةٌ عالية أو كبيرة بالجيش في يناير 2020، وراود الشعور نفسه نسبة 76 في المئة حيال الشرطة، و27 في المئة حيال الإدارة العامة، وكانت لنسبة 11 في المئة فقط ثقةٌ بالبرلمان. وهذا نمط غالباً ما يتكرّر في .6الدول الأخرى
.وكما يبيّن الرسم البياني 1 أدناه، في الدول التي أجرت فيها منظّمة “غالوب” استطلاعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، برز تراجعٌ عام في الثقة بالحكومة على مدى العقد الماضي. ووصلت معدّلات الثقة الإجمالي إلى ذروتها في خلال التوقّعات المندفعة للربيع العربي وارتفعت من جديد في الفترة الممتدّة ما بين عامَي 2014 و2016، ويعزى ذلك بشكل كبير إلى التطوّرات السياسية في مصر. لكنّ المستويات انخفضت بعد ذلك بشكل مستمرّ لتصل إلى أدناها قبل ظهور الجائحة بفترة وجيزة. وترسم البيانات الواردة عن الباروميتر العربي صورةً مشابهة. فقد شهد الأردن مثلاً تراجعاً في نسبة الشعب الذي يثق بالحكومة بدرجة عالية أو متوسّطة من 72 في المئة في العام 2010-2011 إلى 38 في المئة في العام 2018-2019. وشهدت تونس تراجعاً من 62 في المئة إلى 20 في المئة، وشهدت المنطقة ككلّ متوسّطَ تراجعٍ من 53 في المئة إلى 34 في المئة7.
في حين غالباً ما تتطوّر الثقة بالحكومات ببطء بمرور الوقت، يمكن لهذه الثقة أن تتحوّل بسرعة في لحظات معيّنة. فقد بلغت نسبة الثقة بالمعلومات التي تقدّمها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأمريكية (CDC) 84 في المئة عند بداية الجائحة، فيما كانت لنسبة 14 في المئة من الشعب ثقةٌ محدودة أو معدومة بها. ثمّ بلغت هذه الأرقام في يناير 2022 نسبة 62 و38 في المئة على التوالي.9
.وقد سلّطت بعض التحليلات الضوء على أهمّية وسائل الإعلام في تحديد المواقف إزاء صحّة بيانات الصحّة العامة التي تقدّمها الحكومة، ولفتت إلى أنّ هذه الوسائل قادرة بسهولة على إنشاء جوّ 10 من التشكيك والارتياب. ففي الولايات المتّحدة بيّن استطلاع أجري على سكّان ولاية نيو هامشير في يوليو 2020 أنّ 3 في المئة فقط من أولئك الذي استمعوا كثيراً إلى البرامج الحوارية الإذاعية المحافِظة اعتقدوا أنّ أولى
أولويات الحكومة ينبغي أن تكون احتواء الفيروس، مقابل 76 في المئة من عامّة الشعب.11 لكن من الناحية الإيجابية، يمكن أن تحسّن التغطية الإعلامية بشكل ملحوظ من استعداد الشعب للقبول برسائل الصحّة العامة. فقد أشارت بيانات استطلاعات من الولايات المتّحدة في أغسطس 2021 مثلاً إلى تراجع في نسبة التردّد في تلقّي اللقاح لدى مشاهدي محطة فوكس نيوز من 37 في المئة إلى 27 في المئة 12 بعدما دعمت شخصيات معروفة في المحطّة فكرة تلقّي اللقاح.
تشير بيانات الاستطلاعات أنّه يمكن ربط الأداء القوي في الحدّ من معدّل الوفيات والإصابة جرّاء فيروس كورونا المستجدّ بزيادات ملحوظة في الثقة. فبحسب معظم المقاييس، حقّقت أستراليا ونيوزيلندا أداء حسناً نسبياً في مواجهة الجائحة، وتَبرز أدلّة أنّ الثقة بالحكومة ارتفعت لدى المواطنين بشكل كبير. فتبعاً لمؤشّر إيدلمان للثقة (Edelman Trust Barometer)، شهدت أستراليا تحسناً بنسبة 17 في المئة في الثقة بالحكومة بين العامَين 2020 و132021. (كما ستتمّ الإشارة أدناه، رفعت تحليلات أكثر تفصيلاً من مستوى هذه الزيادة حتّى.) وفي استطلاع منفصل أجري في يوليو 2020، وافق ما مجموعه 78 في المئة من النيوزيلنديين و72 في المئة من الأستراليين المشاركين في الاستطلاع أنّ إدارة بلادهم لجائحة فيروس كورونا المستجدّ قد زادت من ثقتهم بحكومتهم. وقالت الأكثريات أيضاً إنّ ثقتها بنظام الصحّة العامة في بلادها قد ازدادت، ما يشير إلى أنّ هذه الثقة المتزايدة بشأن فيروس كورونا المستجدّ تزيد من الثقة في 14نواحٍ أخرى.
وقد استفادت حفنة من الدول الأخرى التي حقّقت أداء جيداً في مواجهة الفيروس بنوع من “عائدات الثقة”. فضمن الاتّحاد الأوروبي، وفيما حظي عدد محدود من الدول بمستويات ثقة عالية نسبياً طوال فترة الجائحة، يبدو أنّ الدنمارك هي الدولة الوحيدة التي ازدادت فيها فعلياً الثقة بالحكومة في خلال المراحل الأخيرة من الجائحة.15 وفي دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعامل المغرب بشكل استباقي مع الجائحة من خلال مزيج من إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي والمساعدات الاقتصادية (بالرغم من أنّها كانت محدودة أكثر من الكثير من دول منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية) وحملة تلقيح ملفتة16. وكما يبيّن الرسم البياني 2، المغرب من الدول القليلة التي تحظى حالياً بمستويات أعلى من الثقة بالحكومة مقارنة بالمستويات المسجّلة قبل الجائحة.
ويعرض الرسم البياني 3 دراسة ملفتة عن التباينات بين المغرب وتونس المجاورة له. فقد حقّقت تونس أداء جيداً جداً في مواجهة الفيروس في خلال أشهر الجائحة الأولى وشهدت زيادة طفيفة في الثقة بالحكومة، لكنّها سرعان ما تبدّدت مع ارتفاع عدد الإصابات.
وليس المسار التونسي غير اعتيادي. فقد شهد الرأي العام البريطاني ارتفاعاً ملحوظاً في خلال المرحلة الأولى من الجائحة، إذ ازدادت الثقة بالحكومة بنحو 14 نقطة مئوية تقريباً بين ديسمبر 2019 ومايو 2020. 19 وتلا هذا الارتفاع تراجعٌ تدريجي في الثقة مع مرور الزمن لتعود إلى المستويات المسجّلة قبل الجائحة. وشهدت كوريا الجنوبية، التي حققّت أداء جيداً في مواجهة الفيروس بحسب معظم المقاييس، ارتفاعاً مشابهاً في الثقة بالحكومة بين يناير ومايو 2020، تلاه تراجعٌ أكبر حتّى.20 وشهدت دول أخرى، من بينها الصين والمكسيك وكندا وإسبانيا وألمانيا، مساراً مشابهاً لكن أقلّ وضوحاً.
وسجّلت البرازيل والهند ثاني وثالث أعلى معدّلات وفيات متراكمة بسبب فيروس كورونا المستجدّ في العالم، ولم يسبقها في ذلك سوى الولايات المتّحدة، وقد تعرّض جايير بولسونارو وناريندرا مودي لانتقادات قاسية بسبب المقاربة التي انتهجاها إزاء الجائحة. فقد قلّل بولسونارو من خطورة الفيروس، واصفاً إياه بـ”إنفلونزا طفيفة”، ورفض أن يتلقّى اللقاح.21 وقاوم تطبيق إجراءات الإغلاق على مستوى الدولة وشجّع على استخدام أدوية ذات فعالية غير مؤكّدة على غرار الهيدروكسيكلوروكوين ولم يحرص على أن تحظى المستشفيات بالمعدّات الوقائية أو إمدادات الأكسيجين الملائمة ورفض شراء اللقاحات أو تقديمات اللقاحات عدّة مرّات. وفي الهند، تعرّض مودي للانتقادات لعدم جهوزية المستشفيات الهندية في خلال فترة ارتفاع عدد الإصابات في العام 2021 ولتأييده تصدير اللقاحات فيما بقي الكثيرون في بلاده بلا تلقيح ولقراره بالسماح بإجراء الاحتفالات الدينية الكبيرة ولإجرائه تجمّعات انتخابية في خلال فترة تزايد الإصابات.
ومع أنّ كلتا الحكومتين لم تحقّق أداء جيداً وكلا البلدين عانى الأمرّين بسبب الفيروس، قد يكون المصير السياسي لهذَين القائدين مختلفاً جدّاً في نهاية المطاف. فقد تراجعت نسب التأييد الإجمالية لمودي من أكثر من 80 في المئة في أكتوبر 2019 إلى أعلى بقليل من 60 في المئة في أبريل 2021، مما دفع بأحد المستطلعين للقول إنّ رئيس الوزراء يواجه “أكبر تحدّ سياسي له في مسيرته”. لكنّه بدأ من مستويات عالية من ناحية شعبيّته الشخصية ومن مستويات ثقة الشعب الإجمالي بحكومته على حدّ سواء. وهو ما زال السياسي الأكثر شعبية في البلاد ومن غير المفترض أن يواجه الناخبين الهنود من جديد قبل العام 2024. في المقابل، مستوى الثقة الإجمالية بالحكومة في البرازيل أدنى بكثير. فنسب التأييد لبولسونارو منهارة حالياً وما زالت تنخفض، مع اعتبار 22 في المئة فقط من البرازيليين أنّه يُبلي بلاء “حسناً أو ممتازاً” مقابل نسبة 53 في المئة لأولئك غير الراضين عن أدائه. وسوف يواجه خصماً جبّاراً وهو الرئيس السابق لويس لولا دا ومع أنّ كلتا الحكومتين لم تحقّق أداء جيداً وكلا البلدين عانى الأمرّين بسبب الفيروس، قد يكون المصير السياسي لهذَين القائدين مختلفاً جدّاً في نهاية المطاف. فقد تراجعت نسب التأييد الإجمالية لمودي من أكثر من 80 في المئة في أكتوبر 2019 إلى أعلى بقليل من 60 في المئة في أبريل 2021، مما دفع بأحد المستطلعين للقول إنّ رئيس الوزراء يواجه “أكبر تحدّ سياسي له في مسيرته”22. لكنّه بدأ من مستويات عالية من ناحية شعبيّته الشخصية ومن مستويات ثقة الشعب الإجمالي بحكومته على حدّ سواء. وهو ما زال السياسي الأكثر شعبية في البلاد ومن غير المفترض أن يواجه الناخبين الهنود من جديد قبل العام 2024. في المقابل، مستوى الثقة الإجمالية بالحكومة في البرازيل أدنى بكثير. فنسب التأييد لبولسونارو منهارة حالياً وما زالت تنخفض، مع اعتبار 22 في المئة فقط من البرازيليين أنّه يُبلي بلاء “حسناً أو ممتازاً” مقابل نسبة 53 في المئة لأولئك غير الراضين عن أدائه.23 وسوف يواجه خصماً جبّاراً وهو الرئيس السابق لويس لولا دا سيلفا في أكتوبر 2022، ويتأخر بولسونارو عن دا سيلفا في الاستطلاعات 24بأكثر من 20 نقطة في الوقت الراهن.
بعيداً عن هذه الأمثلة المتطرّفة، قد تشكّل تجربة النمسا دليلاً أكثر موثوقية. فأداؤها في مواجهة فيروس كورونا المستجدّ يضعها في مصاف دول مثل ألمانيا وسويسرا، مع معدلات وفيات وإصابات أقلّ بكثير من جيرانها في الجنوب أو الشرق. وقد دخل اقتصادها الجائحة مُتسلّحاً بمؤشّرات اقتصادية كلّية قوية، ثم واجهت تراجعاً حادّاً على الرغم من جهود الدعم الحكومي الحثيثة، وهي تتعافى بوتيرة وصفها صندوق النقد الدولي بأنّها “وتيرة أبطأ نوعاً ما” من الكثير من الاقتصادات الأوروبية الأخرى.25 ففي بداية الجائحة، شهدت الحكومة ارتفاعاً ملحوظاً في الثقة الشعبية من مختلف التوجّهات السياسية. بيد أنّ الثقة تبدّدت بسرعة بين مارس ويوليو 2020، مع تسجيل أكبر الخسائر في التصوّرات الشعبية للحكومة الاتّحادية والبرلمان والإعلام. (تمكّنت السلطات الصحّية النمساوية من التملّص من هذا التراجع بدون أن تتأثّر 26 نسبياً.)
27في نهاية المطاف، شهدت النمسا واحداً من أعلى المستويات في التراجع في الثقة بالحكومة في أوروبا. وأسباب هذا التراجع معقّدة ولا يمكن عزوها بالكامل إلى استجابة الحكومة لفيروس كورونا المستجدّ، لكنّه لا شكّ في أنّه كان عاملاً مساعداً. فبحلول فبراير 2021، شعر 43 في المئة من النمساويين بأنّ إجراءات الحكومة لمواجهة فيروس كورونا المستجدّ ملائمة، فيما اعتقد 27 في المئة أنّها زائدة عن حدّها، وشعر 24 في المئة آخرون أنّها “غير مدروسة”.28 وفي سبتمبر 2021، فاز حزب “الشعب والحرّية والحقوق” (MFG)، وهو تجمّع سياسي تمّ إنشاؤه حديثاً يضمّ مشكّكين في لقاح فيروس كورونا المستجدّ وناكرين لفعاليته، بمقاعد في حكومة إقليم النمسا العليا في لينز. وعددٌ قليل يرى في حزب “الشعب والحرّية والحقوق” لاعباً سياسياً قوياً، إذ لم يفز سوى بنسبة 6 في المئة من الأصوات في منطقةٍ محافِظة في النمسا، وكان سقوط حكومة سيباستيان كورز في أكتوبر 2021 سببه ادّعاءات بالفساد ولا علاقة له بأدائها في مواجهة فيروس كورونا المستجدّ. بيد أنّ سرعة التقدّم التي أحرزها حزب “الشعب والحرّية والحقوق” كانت مثيرة للقلق، وساعدت في يناير 2022 على حشد الآلاف في شوارع فيينا احتجاجاً على قوانينِ إلزامية اللقاح. وقد زاد حزب “الشعب والحرّية والحقوق” من صعوبة حُكم النمسا وعقّد بشكل 29 واضح من استجابة الصحّة العامة في البلاد لتفشّي متحوّر أوميكرون.
ما زالت الجائحة والتصوّرات الشعبية في طور التحوّل والتغيّر، وسيكون من السابق لأوانه طرح خلاصات نهائية في هذه المرحلة. لكنّ عدّة نتائج أوّلية تظهر من النظرة العامة على التجربة العالمية المقارنة في خلال السنتين الأوليين، وهي نتائج على الأرجح أنّها لن تتبدّل مع مرور الوقت.
النتيجة الأولى هي أنّه بإمكان البلدان التي حقّقت أداء جيداً أن تستفيد من المنافع التي تعود بها ثقة المواطن المتزايدة بالحكومة. وعدد البلدان التي تندرج ضمن هذه الفئة صغيرٌ نسبياً، إذ يقلّ عن نسبة 10 في المئة من المجموع. وقد يختلف حجم هذه الزيادة. ففي البلدان التي كانت الثقة الشعبية فيها عالية أصلاً، على غرار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة، كانت الزيادة متواضعة نسبياً عادة، وبلغت 3-4 نقاط مئوية. أما في البلدان التي كانت مستويات الثقة فيها أدنى، يمكن أن يكون الارتفاع أكبر بكثير. فكما يشير الرسم البياني 4، تمكّنت أستراليا من كسب زيادة ملحوظة في الثقة الشعبية بالحكومة الاتّحادية بلغت 30 نقطة تقريباً، مردّها بشكل كبير ردّ الفعل على ما تمّ تصوّره على أنّه أداء رديء نسبياً للحكومة في خلال حريق الغابات الذي نشب في الصيف السابق.
ثانياً، تُبرز التجربة الأسترالية ظاهرةً شائعة أكثر بكثير. فلدى الكثير من الدول، كان الازدياد في الثقة بالحكومة في خلال الجائحة مؤقّتاً. ثمّ شهدت بعد ذلك انحساراً في الثقة الشعبية، وغالباً ما وصل هذا الانحسار إلى مستويات أدنّى ممّا كانت عليه قبل التفشّي الأول. ويتوافق هذا المنحى مع توجّهات الرأي العام التي تتمّ ملاحظتها في خلال أزمات السياسة الخارجية، التي يشهد فيها المرء عادة على زيادة كبيرة في الآراء المؤيّدة للحكومة كجزء من تأثير أوّلي لـ”الاحتشاد حول العلم” (دعم شعبي مرتفع قصير الأمد) ليتراجع هذا التأييد في الأشهر التالية.31 ويعطي مؤشّر إيدلمان للثقة أمثلة عن هذا التوجّه. فبعد مرور أربعة أشهر على الجائحة، لاحظ المؤشّر أنّ الحكومات قد أصبحت المؤسّسة المجتمعية الأكثر نيلاً للثقة، محقّقةً متوسّطَ زيادة يبلغ 11 في المئة منذ يناير 2020 في مختلف البلدان التي أجرت فيها استطلاعات. لكن بحلول يناير
2021، تفوّقت الثقة بالشركات والمنظّمات غير الحكومية على الثقة بالحكومة التي انخفضت بما مجموعه 8 نقاط مئوية في الأشهر الممتدة بين هذين التاريخَين.32 ويبدو على الأرجح أنّ المستويات المرتفعة من الاستقطاب السياسي بإمكانها أن تحدّ من هذا الازدياد لدى الرأي العام، علماً أنّ هذا الأمر لم يظهر في 33 دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا.
ثالثاً، ليس من الواضح كثيراً ما إذا كان السياسيون والحكومات الذين حقّقوا أداء رديئاً في التعامل مع جائحة فيروس كورونا المستجدّ وواجهوا تراجعاً في ثقة الشعب سيدفعون ثمناً سياسياً باهظاً. فقد تواجه حفنة من القادة، على غرار بولسونارو، غضب الشعب في نهاية المطاف. لكنّ الثقة، كما تَبيّن أعلاه، مقياس معقّد، ومن المرجّح أنّ عدد الناخبين الذين سيعتبرون فيروس كورونا المستجدّ المعيار النهائي الذي على أساسه سيقيّمون شرعية الحكومة ومصداقيّتها وأداءها قليلٌ. وفي بعض الحالات، على غرار لبنان مثلاً، أدّت الجائحة دوراً ثانوياً مقارنة بخلفية أوسع شملت انهياراً اقتصادياً وأزمة سياسية مطوّلة. وفي بعض الحالات الأخرى، قد يتفوّق التحزّب والانتماء السياسيان في النهاية على الجائحة في عقول الكثير من الناخبين. وقد تجري الانتخابات المقبلة في وقت بعيد بما فيه الكفاية في المستقبل لدرجة أنّ فيروس كورونا المستجدّ وتأثيره قد يتلاشيان في وعي الشعب. علاوة على ذلك، ستبقى الاستجابات للجائحة عرضة لتقلّبات العملية السياسية الأوسع حيث تتمّ المقايضة بها مقابل أهداف أخرى أو تخفّف من أهمّيتها المطالب التي تفرضها سياسة التحالفات.
ستستمرّ تداعيات فيروس كورونا المستجدّ محسوسة على الساحة السياسية العالمية لفترة لا بأس بها بطرق أكثر تنوّعاً، على غرار تلك المتعلّقة بمصداقية بعض المجموعات وتقبّلها للبيانات العلمية ولتوصيات الخبراء ونموّ الشعور المناهض للنخب والحاجة إلى معالجة التفاوت الاقتصادي الذي تفاقم في خلال الجائحة. وستبقى الجهات الفاعلة التي حشدتها الجائحة، على غرار حزب “الشعب والحرّية والحقوق” في النمسا، ناشطة. وعلى الأرجح أنّها ستنشط على الهوامش، لكن سيبقى لها تأثير في نقاش الصحّة العامة في بلادها وستستمرّ بالضغط على الأحزاب الرئيسية لكي تستجيب لهواجسها.
وأمام الحكومات بعض الإجراءات التي في وسعها القيام بها لتعزيز الثقة. فقد سلّطت تجربة أستراليا ونيوزيلندا الضوء على أهمّية الشفافية والتواصل المستمرّ المتجذّر في التحليلات التي ترتكز على الأدلّة. ففي بداية الأزمة، أجرى رئيس الوزراء الأسترالي ورؤساء الوزراء في الولايات الأسترالية جلسات إحاطات إعلامية يومية برفقة كبار المسؤولين الطبّين التابعين لهم.34 وعوّلت نيوزيلندا بشدّة على التواصل واستخدمت شركة إعلانات رائدة لمساعدتها في برنامجها للتواصل مع الناس. وتمحورت رسائلها حول نوع السلوكيات الملموسة الذي ينبغي على المواطنين اعتماده لمحاربة الفيروس، فضلاً عن طلب عمومي أكثر للتحلّي بالعطف والتعاطف والتضامن.35 وشكّل الانسجام بُعداً مهمّاً في الرسائل الموجّهة للسكّان. فالتغيّرات المتكرّرة في التوجيهات التي تصدرها سلطات الصحّة العامة أو التراجع في وتيرة التواصل بعد عبور موجة من الإصابات بالفيروس هي أقلّ فعالية من الرسائل المستمرّة والمتروّية مع مرور الوقت. ويعتبر العثور على وسائل متعدّدة لتوصيل الرسائل، بما فيها من خلال الأطباء الشخصيّين والشخصيات الإعلامية والقادة الروحيين، مهماً أيضاً. وكما بيّنت التجربة الأخيرة التي حدثت في المملكة المتّحدة، من 36 المهمّ للقادة السياسيين أن يقرنوا القول بالفعل وأن يأخذوا التوجيهات التي يصدِرونها على محمل الجدّ.
بالنسبة إلى معظم الحكومات، من الممكن إعادة تأسيس المصداقية التي كسبتها ثمّ خسرتها في خلال جائحة فيروس كورونا المستجدّ مع مرور الوقت عقب ظهور أزمة أخرى. وقد كسبت بعض مؤسّسات الصحّة العامة زيادة مستمرّة في الثقة الشعبية، فيما خسرت أخرى مصداقيتها، على غرار مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأمريكية، أقلّه ضمن بعض شرائح السكّان. لكن في الوقت الراهن، أيّ “عائدات ثقة” يمكن أن تتوقّع الحكومات أن تكسبها من محاربة فيروس كورونا المستجدّ بفعالية قد كُسبت ثمّ فُقدت على الأرجح، إلا بالنسبة إلى سكّان كانبيرا أو الدار البيضاء أو كوبنهاغن المحظوظين.