لقد وضع الرئيس إبراهيم رئيسي سياستي “الجوار” و”التوجه شرقاً” الإيرانيتين في قلب نهجه للعلاقات الخارجية. وفي حين تداخلت مجالات هاتين السياستين في السابق، إلّا أنّها أصبحت اليوم أكثر ترابطاً بعد حرب روسيا ضد أوكرانيا، وانخراط الصين سياسياً في منطقة الخليج، وهجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023. وقد أثّرت هذه التطورات بشكل ملحوظ في تصوّر إيران لنفسها، وحساباتها الخاصة في السياسة الخارجية: تتبنّى طهران اليوم بالكامل وجهة نظرها الشرقية، وتستعرض قوّتها بشكل أكثر حزماً، كما تسعى بنشاط إلى تحقيق هدفها التعديلي المتمثّل بتشكيل نظام ما بعد الغرب.
تتوافق سياستا “الجوار” و”التوجه شرقًا” اللتان تنتهجهما حكومة رئيسي مع ما وصفه المرشد الأعلى علي خامنئي بتفضيلات السياسات في فبراير 2018. وعندما كانت إدارة دونالد ترامب تستعدّ علناً لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المعروف رسمياً بخطة العمل الشاملة المشتركة، دعا خامنئي صانعي القرار الإيرانيين إلى تفضيل الشرق على الغرب والدول المجاورة على البعيدة.1
بالنسبة إلى الدول المجاورة، ركّزت حكومة رئيسي إلى حدّ كبير على وقف التصعيد مع الدول الخليجية، لتكللّ ذلك باتفاق التطبيع مع المملكة العربية السعودية في مارس 2023. وتهدف المحاولات الإيرانية لخفض تواجدها الأمني في منطقة الخليج إلى تحويل التركيز إلى التكامل الاقتصادي وتخفيف المخاوف الأمنية بشأن التطبيع السعودي الإسرائيلي؛ ذلك أنّ هذه الأخيرة لم تعد تشكّل تهديداً مباشراً لطهران منذ أن نفّذت حماس هجومها الأكبر حتى الآن ضدّ إسرائيل في أكتوبر 2023، ما أدّى إلى تخريب فرص التطبيع بين الرياض وتل أبيب في الوقت الحالي.
أمّا بالنسبة إلى الدول غير المجاورة، فقد ركّزت طهران بشكل أساسي على إعادة إحياء سياسة “التوجه شرقاً”.2 وخلافاً للحوادث السابقة، يفتقر تواصل إيران الحالي مع الشرق إلى بديل معقول. وبغياب الحلّ للصراع حول البرنامج النووي الإيراني، تبقى طهران هدفاً لا لمجموعة واسعة من العقوبات الأمريكية فحسب، بل أيضاً لسلسلة من العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي حديثاً بسبب حملة القمع الوحشية ضد احتجاجات “المرأة، الحياة، الحرية” التي عمّت البلاد في 2022 و2023. وعلى هذه الخلفية، لم يعد تحقيق التوازن ما بين المقاربة الشرقية وتحسين العلاقات مع الغرب خياراً قابلاً للتطبيق.
ومع ذلك، قام رئيسي بتوسيع نطاق سياسة “التوجه شرقاً” إلى أبعد ممّا اعتبره صنّاع السياسات في ايران منذ وقت طويل مناسباً لها. وبدا ذلك واضحاً عندما قرّرت طهران تسليم طائرات قتالية واستطلاعية مسيّرة إلى روسيا في العام 2022، لتؤدّي بالتالي دور اً بارزاً في حرب موسكو ضد أوكرانيا – وهو القرار الذي أثار الكثير من الانتقادات في الداخل.3 ومع ذلك، فقد رأت القيادة أنّ تحوّل إيران من شريك صغير يسهل تهميشه إلى مورّد ضروري للمسيّرات الجوية استحقّ المشاركة غير المباشرة في حرب أعلنت طهران رسمياً حيادها تجاهها.4
ويرافق قرار إيران تزويد روسيا بالمسيّرات شعورٌ جديدٌ بأهميّتها على الساحة الدولية بعد سلسلة من النكسات المهينة والإخفاقات الاستخباراتية، بما في ذلك اغتيال الجنرال قاسم سليماني وتخريب مواقعها النووية وحصول إسرائيل على الأرشيف النووي الإيراني. كما أنّ الشعورَ بالأهمية العالمية المتزايدة مستمَدٌّ أيضاً من انضمام إيران إلى منظمة شنغهاي للتعاون في يوليو 2023 – وهو إنجاز لم يتحقّق إلّا بعد أكثر من 15 عاماً على تقديم الطلب، والعرض الذي تلقّته طهران وقبلته للانضمام إلى مجموعة البريكس.
وفي حين تعتمد هذه الإنجازات إلى حدّ كبير على عمل الرئاسات السابقة، فقد تمكّنت حكومة رئيسي من إدعاء نسبتها إليها، وحقّقت النجاح على ثلاث جبهات. أولاً، خفّت حدّة التوتّرات في منطقة الخليج بعد أن اقتربت من حافة الحرب في ظل الحكومة الإيرانية السابقة. ثانياً، توسّعت مكانة إيران كقوة متوسّطة على الساحة العالمية. وثالثاً، استفاد رئيسي من هذه النجاحات لتعزيز الدعم المحلي، ما قدّم فوزاً سياسياً كان مؤيّدوه في أمسّ الحاجة إليه بعد أن هزّت الاحتجاجات على مستوى البلاد أركان النظام لأشهر متعدّدة.
لقد تحقّقت نجاحات السياسة الخارجية الإيرانية في خلال مرحلة انتقالية حرجة لا تزال قائمة، تستعد في خلالها الجمهورية الإسلامية لمرحلة ما بعد خامنئي. وأظهرت طهران من جانبها قدرة كبيرة على التحمّل تكاد تقارب المنعة التي لا تقهر في مواجهة الضغوط الخارجية الناجمة عن العقوبات والاضطرابات الداخلية. وتتزامن هذه الثقة بالنفس الجديدة مع التطورات السياسية الخارجية التي انعكست على دور الجمهورية الإسلامية في النظام الدولي، وأبرزها أنّ الحرب التي شنّتها روسيا ضدّ أوكرانيا، وتحوّل الصين من جهة فاعلة اقتصادية في الشرق الأوسط إلى جهة فاعلة سياسية، والهجوم العنيف الذي شنّته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، ساهمت جميعها في تغيير تصورات إيران السياسية.
وعلى هذه الخلفية، تداخلت سياسات إيران الشرقية والإقليمية – والتي كانت في السابق مجالات متمايزة في سياستها الخارجية. وكانت سياسة “التوجه شرقاً” مدفوعة في المقام الأول بالمصالح الاقتصادية والجغرافيا السياسية العالمية، في حين افتقرت علاقات طهران الإقليمية إلى بُعدٍ اقتصادي كبير، وتمحورت حول المخاوف الأمنية المباشرة والمكانة الإقليمية. أمّا اليوم، فيتداخل المجالان السياسيان، لا بل يجتمعان، من حيث مصلحة الجمهورية الإسلامية في تشكيل النظام الدولي.
رفضت إيران، شأنها شأن الجهات الفاعلة التعديلية الأخرى، النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وأملت ببنية عالمية جديدة متعدّدة الأقطاب مع صعود قوى إقليمية. لذلك رحّبت بالتراجع النسبي لمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وتصوّرت ظهور نظام ما بعد الغرب. ولقد زعم خامنئي لسنوات أنّ هذا النظام الجديد هو في طور التكوين بالفعل، مشيراً إلى أربعة مؤشّرات رئيسية تدلّ على هذا التحوّل.5 وتشمل انتقال القوى السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية من الغرب إلى آسيا بشكل متزايد؛ تراجع نفوذ الولايات المتحدة، وإسرائيل، وأوروبا؛ بروز قوى إقليمية وعالمية جديدة؛ فضلاً عن توسّع “جبهة المقاومة”.6 وفي سبتمبر 2023، كرّر المرشد الأعلى تقييمه بأنّ العالم “على وشك أن يشهد تحولًا”.7
وفي هذا الإطار، استفادت إيران كثيراً من الحرب الروسية ضد أوكرانيا. فقد أدّت الحرب إلى توسيع الانشقاق العالمي بين الشرق والغرب، ما يفصل روسيا إلى حدّ كبير عن الميدان الغربي في المستقبل المنظور. وهكذا، وقع تخفيف المخاوف الإيرانية التي طال أمدها بشأن موسكو، بما في ذلك الدعم غير الموثوق به الذي تقدّمه هذه الأخيرة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو استخدام إيران كورقة مساومة من جانب موسكو في مواجهة الولايات المتحدة. فضلاً عن ذلك، ومع بروز الصين في الشرق الأوسط كجهة فاعلة سياسية بعد التوسّط في إبرام الاتفاق مع المملكة العربية السعودية، لم تعد سياسة “التوجه شرقاً” التي تنتهجها إيران تعتمد على رؤية غامضة وطويلة الأمد لنظام ما بعد الغرب. وترى طهران بالفعل ملامح عالم جديد متعدّد الأقطاب على طول خط تشكّل كتل عالمية تكشف عن فرص أكبر لشراكات في النصف الشرقي من العالم أوثق بكثير ممّا كانت البلاد تأمل فيه قبل بضع سنوات ليس إلّا. ويتعزّز هذا التقييم من خلال افتراضات طهران حول تضاؤل نفوذ الولايات المتحدة وأوروبا في ظل انخراطهما في حرب مكلفة في أوكرانيا، فضلاً عن تراجع نفوذ إسرائيل بعد هجمات حماس التي وصفها خامنئي بأنها هزيمة “لا يمكن تعويضها”.8
وأشادت القيادة الإيرانية أيضاً بعملية 7 أكتوبر باعتبارها دليلاً عالمياً على قوّة “محور المقاومة” الذي توسّع الآن بشكل أكبر من خلال المشاركة النشطة لأنصار الله في اليمن. وقد عزّزت الهجمات التصوّر الإيراني بوجود نقطة تحوّل جيوسياسية. ومع استعراض قوّة “محور المقاومة” بشكل كامل، بلغت قدرة إيران على استعراض قوّتها أعلى مستوياتها على الإطلاق. وعلى هذه الخلفية، يبدو أنّ مؤشّرات التحوّل العالمي الأربعة – كما حدّدها المرشد الأعلى – قد أصبحت واضحة.9 ووفقاً لتقييم طهران، ستسمح التطوّرات السياسية في أوراسيا والشرق الأوسط لإيران بتجاوز التحالفات المترابطة بشكل فضفاض لإنشاء شبكة أكثر إحكاماً من الهياكل والمصالح المشتركة والتوابع في جوارها وفي آسيا عموماً.
وبينما ترى القيادة الإيرانية أنّ الظروف مؤاتية لصعودها الجيوسياسي وظهور نظام ما بعد الغرب، إلّا أنّها لا تزال تسير على منحدر زلق. وفي الوقت الذي تحظى فيه جبهة المقاومة بنفوذ غير مسبوق إلّا أنّها أكثر ضعفاً من أيّ وقتٍ مضى. فقد يؤدّي شنّ حرب شاملة من جانب “محور المقاومة” ضدّ إسرائيل وحلفائها إلى توجيه ضربة مدمّرة لجزء من هذا المحور على الأقل، وبالتالي إضعاف أهمّ الأصول الأمنية لإيران في المنطقة بشكل ملحوظ. وبناءً على ذلك، تتّخذ طهران خطوات حذرة بعد 7 أكتوبر، حيث أنكرت أي تورّط لها في التخطيط لعملية حماس، ولكن مع التحذير بأنّ إمكانية فتح جبهة أخرى ضدّ إسرائيل تبقى واردة.10
وفي حال أرادت إيران الانخراط بشكل مباشر في صراع عسكري مع إسرائيل، فقد يؤثّر ذلك أيضاً في سياسة “التوجه شرقاً” بشكل كبير. ولا ترغب روسيا ولا الصين في الانجرار إلى مواجهة تشمل المنطقة بالكامل؛ وقد يؤدّي تزايد التصعيد إلى إعاقة توطيد علاقاتهما مع طهران في المستقبل. ومع تحوّل إيران إلى مسؤولية أمنية كبيرة تقع على كاهل موسكو وبكين، فقد تتضاءل بسرعة طموحات طهران في تأدية دور تشكيلي داخل آسيا الصاعدة. وقد تتأثّر عمليّة تطبيع إيران المبدئية مع الدول الخليجية على حدّ سواء. وعلى الرغم من استئناف الدول الخليجية لعلاقاتها الدبلوماسية مع إيران – لخفض حدّة التوترات وتقليل مخاطر المواجهة العسكرية – إلّا أنّها لا ترغب في رؤية طهران تثير المزيد من التوتّر الإقليمي.
وحتى في ظلّ غياب صراع عسكري واسع النطاق، فمن المرجّح أن تخيب التوقعّات الإيرانية تجاه الشرق. ويتّسم نهج السياسة الخارجية الذي تنتهجه طهران بأوجه قصور وقيود متعدّدة، بما في ذلك إمكانية حصول ارتدادات محلّية عنيفة، وقيود اقتصادية بسبب العقوبات الأمريكية الفرعية، وفهم عام خاطئ لمقولة تدهور الغرب.11 وبينما كانت إيران تدير ظهرها للغرب، كانت سياسة “التوجه شرقاً” التي تنتهجها تعاني بالفعل، ما يحدّ بشدّة من فرص طهران لتوطيد العلاقات الاقتصادية والمالية مع شركائها الشرقيين.12 وقد أصبح واضحاً أنّه لا يمكن حتى لدول مثل الصين أو الهند الهرب بشكل كامل من الضغوطات للامتثال للعقوبات الأمريكية. ومع ثبات العقوبات الغربية، تبقى سياسة “التوجه شرقا” التي تنتهجها إيران معوّقة.
علاوة على ذلك، وبالرغم من مشاركة جهات فاعلة مثل روسيا أو الصين إيران سخطها على النظام العالمي الحالي، إلّا أنّ ذلك لا يشكّل أي إجماع حول الشكل الذي ينبغي للنظام الجديد أن يتّخذه عندما يتعلّق الأمر بالهياكل أو المؤسسات أو قواعد السلوك الدولية. وبصرف النظر عن أي اختلافات، فقد سعت إيران في الماضي إلى إقامة شراكات أوثق مع هذه الدول على أساس اعتبارات براغماتية. ومع تغيّر البيئة السياسية في أوراسيا، أظهرت طهران استعدادها لتجاوز التحالفات التكتيكية المؤقّتة نحو تعاون إستراتيجي. وفي الوقت عينه، تجاهلت القيادة الإيرانية الانتقادات المحلّية بشأن التكلفات السياسية الفعلية للتحالفات الإستراتيجية وانعكاساتها على السيادة الوطنية، أو رفضتها من دون تردّد.
ونظراً إلى التحديات والعقبات المتعدّدة التي لا تزال قائمة، يبقى صعود إيران الجيوسياسي في النظام العالمي الجديد غير مؤكّد على الإطلاق. ومع ذلك، فمن وجهة نظر طهران، يبدو أنّ الأمور باتت في نصابها الصحيح، بناءً على تصوّرها لنفسها بامتلاك قوّة غير مسبوقة وعند نقطة تحوّل جيوسياسية مثالية. فقد حوّلت حرب روسيا في أوكرانيا وجهود الوساطة التي تبذلها الصين في منطقة الخليج وهجوم حماس على إسرائيل، رؤيةَ إيران للنظام العالمي المستقبلي من رؤية طويلة الأمد إلى هدف قريب المنال. وفيما تسعى إيران إلى نظام دولي معدّل، ستعمل على التنسيق ما بين سياسة “التوجه شرقاً” وسياساتها الإقليمية بشكل أوثق. وبالتالي، فمن المرجح أن تكون طهران أكثر حزماً في أجندتها التعديلية وأقلّ مجازفة في ما يتعلّق بمواجهة أوسع مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.