فرصة مهمّة للتعاون الإقليمي: يوفّر مشروع “طريق التنمية” في العراق محفّزاً لتحقيق ازدهار اقتصادي مع إمكانية تحقيق فوائد مشتركة للمنطقة بأكملها، نظراً لقدرة المشروع على التكامل وترابطه مع الموانئ والبنى التحتية الموجودة أصلاً.
التحديات الناجمة عن الاضطرابات السياسية في العراق: لضمان نجاح المشروع، يجب على تركيا والدول الخليجية المشارِكة التأكّد من قدرة العراق على تسوية أوضاعه السياسية الداخلية. فإنّ استبعاد إقليم كردستان من المشروع يثير مخاوف بشأن استدامته.
استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي الحالية اختبارٌ حاسمٌ: شهدت علاقات العراق مع دول مجلس التعاون الخليجي تحسّناً ملحوظاً، بالتزامن مع سير المنطقة بشكل عام نحو التعاون المتبادل. مع ذلك، فإنّ الاستثمارات الخليجية القائمة أصلاً في العراق ستشكّل اختباراً حاسماً تقرّر على أساسه هذه الدول مدى التزامها بمشروع “طريق التنمية”.
تعزيز صمود المشروع من خلال التعاون والتنسيق: يجب على تركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر أن تنسّق انخراطها في مشروع “طريق التنمية” لمدّه بعمق إستراتيجي وضمان صموده في وجه التقلّبات السياسية في العراق.
يُعدّ “طريق التنمية” في العراق مشروعاً جريئاً وضرورياً في بلد أنهكته عقود من الحرب الأهلية والصراعات الإثنية والمذهبية والتوتّرات الجيوسياسية. ويهدف المشروع الذي تقدّر تكلفته بـ17 مليار دولار إلى جعل العراق مركزاً إقليمياً للنقل من خلال ربط مناطقه الداخلية في الجنوب بالحدود التركية شمالاً،1 فيصبح الطريق محفّزاً رئيسياً للازدهار الاقتصادي في العراق والمنطقة ككلّ.
يأتي مشروع “طريق التنمية” في إطار توجّه إقليمي أوسع نحو مبادرات التكامل الاقتصادي التي أسهمت إلى حدّ كبير في التخفيف من التوتّرات في المنطقة. وتشمل الأطراف المشارٍكة الموقّعة على المشروع تركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة، وتبرز على وجه الخصوص مشاركة الدوحة وأبو ظبي، لما يعكسه ذلك من تقارب بين دول مجلس التعاون الخليجي بعد انتهاء الأزمة بين قطر والدول المجاورة التي استمرّت من العام 2017 حتى 2.2021 ويسلّط المشروع أيضاً الضوء على تعميق الروابط الاقتصادية بين العراق والدول الخليجية في السنوات الماضية.3
يتوقّف نجاح المشروع على مجموعة عوامل جيوسياسية، إلى جانب الحاجة للتعامل مع التقلّبات السياسية في العراق واحتمال سقوطه مجدّداً في أتون الصراعات. فلتركيا مثلاً مصالح اقتصادية وأمنية مشتركة واسعة النطاق مع العراق، وهي تضطلع بدور رائد في المشروع، ولكن هذا الدور لا يخلو من التحدّيات. فقد تعرّضت القواعد التركية لهجمات من قوّات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، بينما تشنّ تركيا حالياً حملة عسكرية ضد حزب العمّال الكردستاني في شمال العراق.4 أمّا إيران، التي ليست جزءاً من المشروع، فقد أعربت عن مخاوفها بشأنه، وبمقدورها عرقلته عبر حلفائها داخل العراق.
يسلّط هذا الموجز الضوء على التحدّيات التي يواجهها مشروع “طريق التنمية”. فعلى الرغم من الدور المحوري لكلّ من قطر والإمارات كشريكين جيوستراتيجيين وداعمين اقتصاديين للمشروع، يعتمد نجاحه في الأساس على تركيا والعراق. حتى أنّ التزام تركيا على المدى الطويل أساسيّ لضمان استمرار مشاركة قطر والإمارات في المشروع. إلى ذلك، فإنّ تركيا لاعب بارز على الساحة السياسية والاقتصادية العراقية، وصلة الوصل بين آسيا وأوروبا، ما يشكّل جانباً جوهرياً من المشروع. وفي حين تتخوّف تركيا من مشروع الممرّ الاقتصادي الرابط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا5 الذي لا يمرّ عبر أراضيها، فإنّ الدور الذي ستؤدّيه في مشروع “طريق التنمية” سيحدّد ما إذا كان هذا المشروع سينافس الممرّ الاقتصادي أو يتكامل معه. وسيحدّد الدور التركي أيضاً مدى دعم مشروع “طريق التنمية” لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية.6 وهذه كلّها ديناميات تسلّط الضوء على أهمية المشروع الجيوسياسية.
ويحذّر هذا الموجز أيضاً من ديناميات جيوسياسية ومحلّية أخرى لا بدّ من معالجتها لضمان نجاح المشروع. ومن بين هذه التحدّيات الخلاف حول وجود حزب العمّال الكردستاني في العراق، والتوتّرات بين أربيل وبغداد، واحتمال عرقلة قوّات الحشد الشعبي للمشروع. تُضاف إليها مخاوف جيوسياسية أوسع، حيث قد يهدّد المشروع مصالح إيران والكويت الاقتصادية والجيوستراتيجية.
يهدف مشروع “طريق التنمية” إلى تقليص وقت السفر بين آسيا وأوروبا من خلال ربط البصرة في العراق بأوفاكوي في تركيا. وهو يضاف إلى مشروعيّ الحزام والطريق والممرّ الاقتصادي الرابط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، كواحد من مشاريع التكامل الاقتصادي الكبرى في المنطقة.7 وفي حين استقطبت هذه المشاريع الطموحة تغطية إعلامية واسعة، إلّا أنّ تفاصيلها بقيت مبهمة. مع ذلك، مشروع “طريق التنمية” مرشّح بقوّة ليبصر النور بما أنّه جزء أساسيّ من الأجندة الداخلية والجيوسياسية لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ويجمع بين مجموعة من مشاريع بنى تحتية هي قيد التنفيذ بالفعل،8 بما فيها مراكز لوجستية ومجمّعات صناعية وشبكات لخطوط أنابيب النفط والغاز.9
بخلاف مبادرة الحزام والطريق والممرّ الاقتصادي الرابط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا وهما مشروعان دوليان متنافسان، يتمحور مشروع “طريق التنمية” حول العراق ويركّز على مشاريع البنية التحتية الموجودة بهدف تحويل العراق إلى معبر رئيسي للتجارة ومركز للبنى التحتية، بما يعزّز مكانته الإستراتيجية والاقتصادية،10 ويجعل بالتالي تحقيق أهداف المشروع وطموحاته واقعية أكثر. زِد على ذلك، أنّه على الرغم من حاجة المشروع إلى التزام استثماري قطري وإماراتي، فهو يعتمد في الأساس على قيادة العراق وتركيا، وليس على عدد من الحكومات، مثلما هو الحال في مشروع الممرّ الاقتصادي الرابط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي لم تعلن الدول المعنية عن التزاماتها تجاهه بعد.
إلى ذلك، يمكن لـمشروع “طريق التنمية” أن يدعم مبادرة الحزام والطريق والممرّ الاقتصادي، بما أنّه يتمحور حول موقع العراق الجغرافي وعلاقاته الجيوسياسية وتطوّر بنيته التحتية المستمرّ. ويُعدّ ميناء الفاو الكبير المحور الأهم في المشروع، إذ سيزيد من قدرة العراق على استقبال سفن الحاويات الضخمة ويخفّف من اعتماد البلاد على ميناء أم قصر القريب. وكان قد أُعلن عن مشروع ميناء الفاو الكبير في العام 2010 وبدأ العمل عليه في 2013، ليشكّل المحطة الجنوبية للمشروع، ومن المتوقّع استكماله بحلول العام 2028 كأوّل مرحلة من مراحل المشروع الثلاثة. وسيربط “طريق التنمية” الذي يتألف من خطّ برّي وخطّ سكة حديد على طول 1200 كيلومتر، ميناء الفاو في البصرة بفيشخابور على الحدود مع تركيا، ومن هناك بشبكة الطرق والسكك الحديدية التركية،11 ما يتيح الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر ميناء مرسين، وإلى أوروبا عبر الطرق البرية من إسطنبول.12
من المتوقّع استكمال المشروع بحلول العام 13.2050 وسيصبح حينها ميناء الفاو الذي تأخّر إنجازه بسبب عقبات مالية والحرب على الدولة الإسلامية،14 قادراً على استيعاب أكبر سفن الحاويات في العالم، حيث سيضمّ 99 رصيفاً، ما يجعله الميناء الأكبر في الشرق الأوسط.15 وبحلول العام 2028، يتوقّع أن يستقبل الميناء 36 مليون طنّ من البضائع المعبّأة في حاويات، و22 مليون طن من البضائع الجافة السائبة المنقولة في حاويات كبيرة، على أن تزيد هذه السعة بحلول العام 16.2038
طريق التنمية17
على الرغم من أنّ مشروع تطوير ميناء الفاو و”طريق التنمية” أصبح أولوية وطنية في عهد رئيس الحكومة السوداني، إلّا أنّه يواجه تحدّيات جمّة. إذ سبق لرؤساء وزراء سابقين في العراق أن حاولوا تطوير الموانئ ومشاريع البنى التحتية الكبرى التي كان من شأنها إحداث تحوّل هائل في نظام النقل، لكن جهودهم باءت بالفشل نتيجة الصراعات والتقلّبات السياسية.18 ورغم الحماسة التركية والعراقية للمشروع، فإنّ قطر والإمارات تتعاملان معه بحذر.19 لذلك، يقع على عاتق بغداد وأنقرة إثبات أنّ المشروع لن يتداعى تحت وطأة الضغوط الداخلية والإقليمية، كما حصل مع ما سبقه من مشاريع مشابهة.
تصبّ عوامل متعدّدة في صالح بغداد. على المستوى الإقليمي، تسير الأمور نحو التعاون والحدّ من التوتّرات، فيما تظهر الدول الخليجية رغبة في تأدية دور فعّال على الساحة العراقية. مثلاً، تعمل الإمارات على توسيع حضورها من خلال شركتيّ “دانة غاز” و”نفط الهلال” اللتين فازتا بعقود لتطوير حقول الغاز في جنوب البلاد، مستفيدتين من نشاطهما القائم منذ وقت طويل في إقليم كردستان.20 من جانبها، تستثمر المملكة العربية السعودية في محافظة الأنبار وفي عدد آخر من المشاريع، بما في ذلك مشروع ربط كهربائي مع العراق، يدخل ضمن هيئة الربط الكهربائي لدول مجلس التعاون الخليجي.21 أمّا قطر، فتمتلك نسبة 25 في المئة من “مشروع نموّ الغاز المتكامل” البالغة قيمته 27 مليار دولار،22 فيما تعهّدت شركة “استثمار القابضة” بتخصيص 7 مليارات دولار لتطوير القطاعين العقاري والسياحي في بغداد.23
يعمل العراق إذاً على ترميم علاقاته بتركيا والدول الخليجية. فلتركيا شبكة علاقات مترامية الأطراف في العراق، حيث يتركّز نفوذها في إقليم كردستان العراق والمحافظات السنيّة في الشمال، وبعض المناطق المتفرّقة في بغداد والجنوب. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا والعراق 19,9 مليار دولار في العام 24.2023 وفي خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2024، نمت الصادرات التركية إلى العراق بنسبة 24,5 في المئة.25 وكان البلدان قد اتّفقا في مارس الماضي على إنشاء مركز عمليات مشترك يهدف إلى محاربة حزب العمال الكردستاني،26 في خطوة غير مسبوقة تعني عملياً أنّ العراق وتركيا سيسعيان إلى طرد المجموعة من الأراضي العراقية.
داخلياً، ينعم العراق اليوم بفترة من الاستقرار، بعد أن نجح السوداني في استرضاء الحشد الشعبي وتحسين العلاقات بين بغداد وحكومة إقليم كردستان على الرغم من القضايا الكثيرة العالقة بينهما.27 تمكّن السوداني أيضاً من الحفاظ على نوع من التوازن في علاقة بغداد مع كلّ من واشنطن وطهران، على الرغم من تداعيات حرب غزة. إلى ذلك، أظهر استطلاع أجرته مؤسّسة “غالوب” (Gallup) زيادة في ثقة العراقيين بمؤسّساتهم السياسية والوطنية، حيث أفاد 56 في المئة منهم أنّهم يثقون بحكومة السوداني، وهي نسبة قياسية.28
لكن حالة الاستقرار هذه قد لا تدوم طويلاً، نظراً لاحتمال إنزلاق العراق مجدّداً نحو الصراعات والتوتّرات الإقليمية، واحتمال عودة رجل الدين الشعبوي مقتدى الصدر إلى الساحة السياسية.29 كما أنّ اعتماد العراق على النفط وافتقاره إلى التنويع الاقتصادي قد ينعكس سلباً على “طريق التنمية”. فعلى الرغم بلوغ احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية مستويات قياسية بفضل ارتفاع أسعار النفط، تبقى هذه الاحتياطيات عرضةً لتقلّبات أسعار النفط والعقوبات الأمريكية.30 وصحيح أنّ قطر والإمارات قد تكونان المستثمرين الأبرز في المشروع، ولكنّ اعتماد العراق على أسعار النفط وإخفاقه في تخصيص موارده سيحدّان من حجم ونطاق استثمارات أبو ظبي والدوحة اللتين قد تحتاجان أوّلاً لرؤية التزام حقيقي من الجانب العراقي يظهر عبر الأفعال وليس الأقوال فحسب.
ولاعتماد العراق على النفط تبعاتٌ مباشرة على استقراره الاجتماعي والسياسي أيضاً. إذ يسجّل عدد السكان نموّاً سريعاً، حيث ارتفع من 27 مليون نسمة في العام 2003 إلى 40 مليون نسمة حالياً، فيما تشير التوقّعات إلى أنّ عدد السكان سيصل إلى 50 مليون نسمة في العقد المقبل.31 وستفرض هذه الزيادة ضغوطاً على الحكومة العراقية من أجل توسيع القطاع العام لتوظيف الخرّيجين العراقيين الذين يقدّر عددهم بـ700 ألف سنوياً.32 ويهدّد تنامي عدد الشباب في زيادة الفئة التي تشعر باليأس والتهميش، كما وأنّ هذه الديناميات الاجتماعية السياسية ستشكّل المشهد السياسي والأمني في السنوات المقبلة، وقد تصبح عاملاً حاسماً في تحديد مصير “طريق التنمية”.
تبرز أيضاً عقبة أخرى قد تنجم عن التناحر ما بين الفصائل المتنفّذة داخل الطبقة السياسية الشيعية. فقد اضطرّت الشركات الأجنبية للتعامل مع هذه المنافسة في الماضي، منها مثلاً شركة “دايو” الكورية التي فازت بعقد لتطوير مشروع الفاو الكبير، ولكنها اضطرّت للانسحاب تحت ضغط عصائب أهل الحقّ التي كانت تؤيّد شركة صينية.33 تتطلّب هذه التوتّرات التيقّظ بما أنّ الهيمنة الاقتصادية سرعان ما تتحوّل إلى شبكات من الزبائنية والنفوذ السياسي. إلى ذلك، يستشري الفساد في الموانئ جنوب العراق الواقعة تحت هيمنة المجموعات المتحالفة مع إيران التي تسيطر على إدارة الجمارك وتُشرف على أمن المنطقة، واضعة يدها على مليارات الدولارات التي كان يجب أن تؤول إلى الخزينة العراقية.34 ونظراً إلى حجم مشروع “طريق التنمية”، فهو سيقود على الأرجح إلى تسعير الخلافات بين الفصائل في حال عدم التوصّل إلى تسوية طويلة الأجل.35
من الناحية النظرية، من المفترض ألّا تعيق التحديات الأمنية في العراق تنفيذ المشروع. ومع أنّ سجلّ حزب العمّال الكردستاني وقوّات الحشد الشعبي حافل بحوادث تخريب البنى التحتية والتجارية،36 على غرار داعش وأمثالها،37 فالعراق قادر على إدارة هذه التحديات واحتوائها. على سبيل المثال، يمكن تشديد الإجراءات الأمنية لردع الهجمات على البنية التحتية للنفط، من خلال تحصين خطوط الأنابيب ونشر المزيد من عناصر الأمن. وهو ما يفسّر تراجع عدد هذه الهجمات ومحدودية فعاليتها في الآونة الأخيرة.38
تساعد مثل هذه الإجراءات على تشجيع الاستثمار الأجنبي، بخاصة في ظلّ الدعم المستمرّ الذي يتلقاه العراق من الولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب. ورغم التحديات، لم يتراجع المستثمرون الدوليون عن دخول السوق العراقية التي تمرّ بمرحلة انتقالية وتضمّ خامس أكبر احتياطيات نفطية مؤكّدة في العالم.39 لا بل على العكس، فإنّ دعم واشنطن40 المستمرّ يشجعهم على الاستثمار في العراق. وعلى الرغم من التحديات الأمنية، تعمل المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة أيضاً على تعزيز حضورها الاقتصادي في البلاد. في الوقت ذاته، بلغت الاستثمارات المباشرة الصينية في العراق 34 مليار دولار في العام 2023، ما يضعها على رأس قائمة المستثمرين في البلاد.41 وهذه مؤشرات مشجّعة لبلد شهد حربين أهليتين على مدى العقد الماضي.
لكن المشهد لا يخلو من تحدّيات أخرى في السياق العراقي. فقد صعّد حزب العمال الكردستاني هجماته ضد القواعد والجنود الأتراك ردّاً على توغّلات أنقرة ضدّه في شمال العراق. كما أنشأ الحزب مجموعات تابعة له، ويطمح إلى تحويل الأراضي الخاضعة لسيطرته إلى كانتون يتمتّع بحكم ذاتي، ما تعتبره تركيا تهديداً مباشراً لأمنها القومي ومصالحها. علاوة على ذلك، وجّه العراق اتهامات لتركيا باستخدام المياه كسلاح.42 حتى أنّ البنية التحتية لمشروع “طريق التنمية” عرضة للتهديد في منطقة فَيشخابور، على طول الحدود التركية العراقية السورية التي تقصفها بانتظام القوات التركية43 نظراً لاستخدامها كمعبر إستراتيجي من قبل حزب العمّال الكردستاني. وتزداد الأمور تعقيداً نتيجة اعتماد القوّات الأمريكية المتمركزة في شمال شرق سوريا على خط إمداد بري عبر المنطقة.44
كما أنّ التوتّرات بين بغداد وحكومة إقليم كردستان التي تسيطر على فيشخابور، تؤثّر أيضاً في مشاركة تركيا في المشروع على المدى الطويل. فباستثناء آخر 15 كيلومتراً بالقرب من الحدود مع تركيا، يقع”طريق التنمية” خارج إقليم كردستان.45 وقد دفع استبعاد حكومة الإقليم بأربيل إلى إنعاش جهودها لبناء خط سكّة حديد يربط بين إيران وتركيا عبر أراضيها، في ظلّ تحسّن علاقاتها مع كلّ من طهران وأنقرة.46 مع ذلك، وعلى الرغم من التوتّرات بين أربيل وبغداد، يمكن لمشروع سكّة الحديد أن يحقّق مصلحة الحكومتين معاً، ويدعم مشروع “طريق التنمية” عبر طرحه مبادرة تكامل اقتصادي إضافية تشمل اثنين من القوى الإقليمية الوازنة.
يستطيع العراق أن يراهن على استعداد تركيا لتجاوز حكومة إقليم كردستان، لكنّه يبقى رهاناً محفوفاً بالمخاطر. فعلاقات تركيا التاريخية مع حكومة الإقليم تجعل الأخيرة ركيزة مهمّة لمصالح أنقرة الجيوسياسية والأمنية الإقليمية. وقد استفادت تركيا تاريخياً من هذه العلاقة لتعزيز نفوذها في العراق. وشمل ذلك توقيع اتفاقٍ نفطي تاريخيٍ لمدة 50 عاماً في العام 2014 كان أساسياً في تدعيم حكومة إقليم كردستان وتحقيقها للاستقلال الاقتصادي، إلى جانب بروزها كركيزة للمصالح الجيوستراتيجية التركية.47
وفي حين شهدت العلاقات بين تركيا والعراق بعض التوتّرات في العام 2017 على خلفية الاستفتاء على استقلال كردستان، فإنّ علاقاتهما عادت وتحسّنت فيما بعد.48 في هذا السياق، لا بدّ أن يدرك العراق أنّ ضرورات الأمن القومي التركي تستدعي استدامة حكومة إقليم كردستان واستمرار قدرتها على احتواء حزب العمال الكردستاني على الأراضي الكردية والعراقية. وهذا بدوره يعني أنّ التوتّرات بين تركيا وبغداد ــ بما في ذلك الخلافات بشأن المياه وحزب العمال الكردستاني ــ مرتبطة بعلاقة بغداد مع حكومة إقليم كردستان وخلافاتها معها. على الرغم من التحدّيات الكثيرة التي تعترض تركيا والعراق، فإنّ الدولتين قادرتان على معالجتها والحدّ من تأثيرها إذا ما عالجتا جذور المشكلة بدلاً من الاكتفاء بمعالجة العوارض، ما سيساعد على تجنّب أي تبعات قد تترتّب على مشروع “طريق التنمية”.
شهدت علاقات العراق بمجلس التعاون الخليجي تحسّناً ملحوظاً. تمتلك الدول الخليجية استثمارات والتزامات ضخمة في العراق، وقد تشكّل هذه العلاقات اختباراً تدرس على أساسه هذه الدول حجم مشاركتها في “طريق التنمية”. من المستبعد أن تفي الدوحة أو أبو ظبي بالتزاماتهما تجاه المشروع ما لم تحقّق استثماراتهما الاقتصادية السابقة في العراق النتائج المرجوّة وتلبّي تطلّعاتها.
في المستقبل المنظور، ستراقب الدول الخليجية الموقّعة على المشروع، فضلاً عن تركيا، ما إذا كان العراق قادراً على ترتيب شؤونه الداخلية. فبالإضافة إلى تحسين العلاقات بين أربيل وبغداد، سيتعيّن تعزيز العلاقات بين النخب الحاكمة الشيعية في بغداد والمجتمع السني العربي، بما فيه قياداته السياسية، مثل محمد الحلبوسي وخميس الخنجر. وقد أسهمت التحالفات المعقودة بين الطوائف المختلفة بالفعل في ترميم هذه العلاقات، ما انعكس بالتالي إيجابياً على علاقات العراق بتركيا والدول الخليجية،49 ونظراً لعلاقات الخنجر والحلبوسي القوية مع الإمارات العربية المتحدة وقطر وتركيا.50 أمّا على المستوى الجيوسياسي، فمن المرجّح أن تحدّد العلاقات بين النخبة السياسية السنية العربية والطبقة السياسية الشيعية الحاكمة نطاق مشاركة دول مجلس التعاون الخليجي في المشروع وحجمه، تماماً كما كانت علاقات الدول الخليجية بالعراق قد تأثرّت في الماضي بالسياسات الطائفية التي اتبعتها الإدارات العراقية السابقة.51
صحيح أنّ إيران استُبعدت من مشروع “طريق التنمية”، إلّا أنّه من شبه المستحيل أن تبقى طهران وحلفاؤها في العراق خارج اللعبة، ما قد يعيق تنفيذ المشروع الذي رغم أهميته الإستراتيجية بالنسبة إلى العراق وشركائه، فهو يتطلّب تعاوناً إقليمياً طويل الأمد. وستراقب إيران وحلفاؤها سير العمل عن كثب لتقييم ما إذا كان يهدّد بتغيير ميزان القوى في العراق، وقد تتحرّك لمنع تنفيذ المشروع إذا ما ارتأت أنه يحمل تأثيرات ثانوية وثالثية من شأنها أن تمسّ بنفوذ طهران.
وقد سبق أن أعرب مسؤولون إيرانيون عن مخاوفهم من التهديدات الجيوستراتيجية والتجارية52 التي قد تنشأ عن تطوير البنية التحتية للموانئ. فتطوير أم قصر والفاو، المترافق مع التطلّعات الجيوستراتيجية الأوسع لمشروع “طريق التنمية” يهدّد بتقليص مكانة إيران الاقتصادية، خصوصاً أنّ موانئ إيران تتنافس أصلاً مع موانئ الفجيرة وجبل علي53 في الإمارات العربية المتحدة. وعلى المدى الطويل، ستبقي إيران عينها مفتوحة على هذه الموانئ لضمان عدم استخدامها كقواعد لقوى أجنبية معادية. حتى أنّ طهران قد تنظر إلى مشروع “طريق التنمية” كمخطّط يهدف إلى توسيع دائرة نفوذ تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي، ما قد يقود إلى نشوء منطقة سنية مستقلة.54
لقد أثبتت إيران قدرتها على استخدام قوّتها السياسية في العراق واستعدادها لذلك من أجل التصدّي للمبادرات ذات الوزن الإستراتيجي، فيمكنها مثلاً أن تستغلّ نفوذها داخل البرلمان العراقي والمحكمة العليا لإفشال مشروع “طريق التنمية”.55 عندها، ستضطر تركيا إلى الإمساك بزمام الزعامة الإقليمية، بدل ترك مصير المشروع رهينة التوتّرات الجيوسياسية على المدى الطويل. ويتضمّن ذلك طمأنة حلفائها في مجلس التعاون الخليجي حيال إمكانية نجاح المشروع، والعمل مع شركائها وحلفائها في العراق للبحث في مخاوف إيران وبناء إجماع وطني حول المشروع.
ولكن، ليست إيران وحدها التي قد ترى في المشروع خطراً يهدّدها. فقد سبق أن دخل العراق والكويت في نزاع بشأن بناء ميناء مبارك الكبير على جزيرة بوبيان، الواقع على بعد كيلومترات قليلة من الساحل العراقي، والذي أثار مخاوف بغداد من أن يضعف ميناءي أم قصر والفاو.56 وكانت أعمال البناء في الميناء الكويتي قد توقّفت لمدة عشر سنوات قبل استئنافها في وقت سابق من هذا العام، وقد أشار البعض إلى أنّ استئناف العمل يعود بجزء منه إلى خطط العراق لبناء ميناء الفاو ومشروع “طريق التنمية”.57
يواجه مشروع “طريق التنمية” تحدّيات متعدّدة، إذ يعاني العراق فساداً مستشراً، ويهدّده خطر الانزلاق مجدّداً في أتون الصراعات وهيمنة المجموعات المسلّحة التي تضطلع بدور حاسم في تحديد مستقبل مشاريع البنية التحتية الكبرى. ما يميّز هذا المشروع الطموح بحجمه ونطاقه هو اعتماده على تعاون جيران العراق ودعمهم، ما يحتّم أن تسير ديناميات جيوسياسية ومحلّية متعدّدة لصالح العراق حتى يبصر المشروع النور.
يحمل العراق على عاتقه قيادة المشروع وإيصاله إلى برّ الأمان، لكن انخراط تركيا إلى جانبه كشريكٍ أساسي سيخفّف من عبء التحديات الجيوسياسية التي يواجهها المشروع. وسيشكّل ذلك اختباراً لدور تركيا الحقيقي كقوّةٍ إقليمية ولقدرة العراق على تهدئة مخاوف جيرانه. على هذا الأساس، سيتعيّن على رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن يستمرّ في سياسته التي توازن ما بين استرضاء قوات الحشد الشعبي وإيران، من دون تقويض مشروع “طريق التنمية” أو تنفير شركائه الإقليميين. وسيتطلب هذا المسعى أيضاً توضيح دور الدول الخليجية في المشروع، وتحديد مجالات الخلاف الرئيسية أو الخطوط الحمر، والتوفيق بين المجموعات المتنافسة مثل عصائب أهل الحق والتيار الصدري.
يمكن أن يستغلّ العراق المشروع كفرصة لتعزيز التعاون الإقليمي المتبادل وتحقيق التوازن بين علاقاته مع القوى العظمى كالولايات المتحدة والصين وغيرها من خلال إيجاد سبل ليتكامل مشروع “طريق التنمية” ويترابط مع البنى التحتية الإقليمية القائمة أصلاً. فبالنسبة إلى الولايات المتحدة، يوفّر المشروع بديلاً للتجارة والإمداد في منطقة تتزايد فيها الضعوطات على سلاسل التوريد، كما أثبتت هجمات الحوثيين على سفن الشحن في البحر الأحمر. أمّا بالنسبة إلى الصين، فيمكن للمشروع أن يدعم مبادرة الحزام والطريق معزّزاً جهودها بدلاً من تقويضها. ولتهدئة مخاوف الكويت وإيران، يمكن تقديم مشروع “طريق التنمية” على أنّه مكمّل للموانئ والبنية التحتية الكويتية والإيرانية، حيث سيؤمّن شبكة متكاملة وفعّالة تعمل على تحسين التبادلات التجارية، وتفتح الباب أمام المبادرات التعاونية بين الكيانات الإقليمية في القطاعين الخاص والعام، وتقلّل من اختناقات الحركة، وتعزّز مرونة التجارة الإقليمية.
يمكن لتركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة تطوير آليات لحلّ النزاعات عبر القنوات الخلفية لضمان حماية استثماراتها في المشروع من خلال وضع شروط التحكيم وعقد معاهدات استثمار ثنائية. يعني ذلك أيضاً إنشاء قنوات مخصّصة لكل من رئيس الوزراء وقوّات الحشد الشعبي لضمان تقدّم المشروع بسلاسة، والتخفيف من التحدّيات، إذا أو متى ظهرت. كما إنّ الاستثمارات الخليجية القائمة بالفعل في العراق ستكون بمثابة اختبار حاسم تقررّ الدول الخليجية على أساسه حجم مشاركتها في المشروع. فإن أثمرت الاستثمارات، سيكتسب المشروع زخماً إقليمياً. وعلاوة على ذلك، ينبغي لتركيا والإمارات وقطر تنسيق مشاركتها في المشروع لتجنّب التعارض في ما بينها، وتوحيد موقفها، وتأمين استمرار المشروع على المدى الطويل.
صحيح أنّ الميليشيات تسيطر على بنى تحتية إستراتيجية رئيسية في العراق، إلّا أنّ هيمنة المجموعات المسلّحة على الموانئ مرتبطة بالتنافس بين الصدريين وعصائب أهل الحق. وعلى بغداد إدارة هذا التنافس لإيجاد تسوية تسمح بتنفيذ “طريق التنمية”. وفي هذا السياق، لا يبشّر استبعاد حكومة إقليم كردستان من المشروع بالخير لاستدامته، إذ يشكّل الإقليم تقاطعاً جيوسياسياً رئيسياً ولاعباً أساسياً في العراق. وهذا يعني أنّ استبعاد حكومة الإقليم من شأنه في أفضل الأحوال أن يقلّل من الدعم والاستثمارات المقدّمة من دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا، وفي أسوأ الأحوال أن يعرقل المشروع تماماً.
ويتعيّن على تركيا وقطر والإمارات أن تربط التزامها بالمشروع بشرط إشراك حكومة إقليم كردستان. ولا بدّ من أن تتعهّد بغداد بأنّ المشروع سينأى عن محاباة وتفضيل الشركات والمستثمرين المحلّيين والمجتمعات النافذة لدى الطبقة السياسية الشيعية والمجموعات المسلّحة الشيعية المتنفذة، خشية أن يقع المشروع فريسة للانقسامات والتوتّرات المذهبية المترسّخة في العراق أو أن يهمّش الأقليات ويعزلها.