هذا الملف هو الثاني من مشروع يمتدّ على سنوات بعنوان “مستقبل النظام (أو اللا نظام) في الشرق الأوسط“. في الملف الأول تناولنا التحوّلات الإقليمية الراهنة وصعود تعدّدية الأقطاب، مع تحليل تأثيرهما في الديناميّات بين دول المنطقة وإعادة التوازن الإستراتيجي بين الجهات الفاعلة الإقليميّة والقوى الخارجية. كما استكشفنا مقاربات هذه الجهات تجاه بؤر الصراعات والأزمات داخل المنطقة. لذلك، تمحور الملف الأول حول مواضيع شاملة تعكس التغيّرات الدينامية في المشهد الإقليمي.
في المقابل، يتميّز هذا الملف بنطاقه الجغرافي ويغوص في مسألة الأمن والنظام في البحر الأبيض المتوسّط. فقد أصبحت منطقة المتوسّط—شأنها شأن الخليج—تشكّل مركز الثقل في السياسة الإقليمية. يستكشف هذا الملف تغيّر السياق الدولي للجيوسياسة وللأمن في المتوسّط، ويُركّز بشكلٍ خاص على تطوّر سياسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين حيال هذه المنطقة.
لقد أصبحت منطقة المتوسّط مساحةً متنازعاً عليها بشدّة ومكتظة للغاية، تعكس هويّة جيوسياسية غنيّة ومتعدّدة الأبعاد. فهو ليس مجرّد بحر متوسّط واحد، بل هو متوسّط يحمل في طيّاته ملامح الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا. لذا، يرتبط أمنه ارتباطاً وثيقاً بأمن هذه المناطق. إنّ هذه الهويّات الجيوسياسية المتعدّدة وتداخلها مع قضايا الأمن الإقليمي تجعل منطقة البحر المتوسّط نقطة استقطاب إستراتيجية لكثير من القوى العالمية، ما يعكس تعقيداته وتحدياته المتزايدة في الساحة الدولية.
تكتسب هذه المنطقة أهميّةً بالغة بالنسبة إلى أوروبا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وروسيا والصين. فعلى سبيل المثال، قبل سقوط نظام الأسد في سوريا ، كان وجود روسيا في الشرق الأوسط أكثر وضوحاً في المتوسّط من أي منطقة أخرى. وكانت موسكو لاعباً رئيسياً في مناطق الصراع في المتوسّط مثل سوريا وليبيا، وكان لها وجود بحري في شرق المتوسّط وروابط وثيقة مع دول مثل الجزائر ومصر والمغرب. بيد أنّ سقوط الأسد قَلَب المشهد الجيوسياسي رأساً على عقب. لم تخسر موسكو أقرب شريكٍ عربي وأعمق دور إستراتيجي لها في العالم العربي بين ليلة وضحاها فحسب، بل تراجع وجودها في شرق المتوسّط إلى حدّ بعيد نتيجةً لهذه الخسارة، إضافة إلى إلغاء الإدارة الجديدة في دمشق الاتفاق الذي منح روسيا قاعدة طرطوس البحرية لمدّة 49 عاماً. وأصبح المتوسّط مهماً من الناحية الإستراتيجية بنظر الصين كونه نقطة التقاء بين الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا. ويحتلّ مكانة بارزةً في رؤية الصين للترابط العابر للأقاليم، لا سيّما في ما يتعلّق بطريق الحرير البحري، حيث يمثّل بوابة جيوسياسية وجيواقتصادية لأوروبا. وتحظى منطقة المتوسّط أهميّة مماثلة بالنسبة إلى الممرّ الاقتصادي المدعوم من الولايات المتحدة والذي يربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. وكذلك، تشكّل هذه المنطقة ساحةً رئيسية للتنافس بين روسيا والغرب.
علاوة على ذلك، لن يقتصر التنافس بين القوى العظمى في المتوسّط على تشكيل البيئة الأمنية الدولية فحسب، بل سيُعزّز أيضاً أهميّتها الإستراتيجية بالنسبة إلى اللاعبين العالميين كافة. تشهد مقاييس الأمن الإقليمي في المتوسّط تغييراً جذرياً، حيث تُعيد الحرب على غزة وتداعياتها تحديد الجيوسياسة الإقليمية-أكان في شرق المتوسط أم في المنطقة الأوسع. وبالمثل، تتعدّد مناطق الصراعات والأزمات في المنطقة ولا يلوح أي حلّ في أفقها، مثلما هو الحال في ليبيا والصحراء الغربية. في المقابل، يخيّم جوّ من الإيجابية على العلاقات التركية اليونانية على الرغم من غياب تسوية لنزاعاتهما الثنائية، ما ينعكس على التوترات في شرق المتوسط. بالإضافة إلى ذلك، يشكّل قطع منفذ إيران إلى شرق المتوسط نتيجةً لسقوط نظام الأسد في سوريا وتدهور وضع حزب الله في لبنان تطوّراً أساسياً آخر سيترتّب عليه تداعيات على دينياميات الأمن الإقليمي في شرق المتوسّط.
لكن يجب الإشارة إلى ملاحظة مهمّة. بدلاً من التركيز على اللاعبين الإقليميين، يتناول هذ الملف كيفية تطوّر جيوسياسيات منطقة المتوسّط وإعادة تموضع اللاعبين الدوليين الرئيسيين. إلا أنّه على مستويات متعدّدة، لا يقلّ دور الجهات الإقليمية في تحديد الأمن الإقليمي في المتوسّط عن دور الجهات الدولية. نتطلّع إلى مواصلة استكشاف هذا الموضوع في إصدارات وورش عمل أخرى في المستقبل.
المقدّمة: غالب دالاي ويحيى ح. زبير
الفصل 1: نفوذ روسيا في منطقة المتوسّط بعد سقوط الأسد – أندريه كورتونوف