نظام جديد متعدّد الأقطاب
تشهد العلاقات بين الصين ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تطوّراً ملحوظاً في ظلّ صعود نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب. وفي الوقت الذي لا يبدو دور الولايات المتحدة المستقبلي واضحاً في الأمن الإقليمي، بدأت دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتحويل أنظارها تدريجياً نحو آفاق جديدة. ومنذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق (BRI) في العام 2013، نما التعاون الاقتصادي بين الصين ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل كبير في مختلف المجالات. ومع ذلك، يواجه توسّع انخراط الصين مجموعة من التحدّيات، بما فيها الضغوط الأمريكية للحدّ من تعاون بكين السياسي والأمني مع دول المنطقة.
وتساهم التحوّلات الجديدة في النظام العالمي في زيادة حدّة المنافسة بين القوى العظمى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويعكس إطلاق الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) في العام الماضي جهود الغرب لمواجهة تأثير مبادرة الحزام والطريق. وتبرز هذه المشاريع الشاملة أهمية الترابط الإقليمي والعالمي في تشكيل العلاقات بين القوى العظمى ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وسيكون للديناميات التنافسية دور بالغ الأهمية في رسم مستقبل العلاقات بين الصين والشرق الأوسط، حيث سيتعيّن على القوى الإقليمية تحقيق توازن دقيق بين شركائها التقليديين والتحالفات الناشئة.
جهود دبلوماسية تتوسّع، ودور أمني محدود
في العام 2023، توسّطت الصين في التوصّل إلى اتفاق سلام بين السعودية وإيران، ما عكس تطلّعات بكين للاضطلاع بدور سياسي أوسع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفيما يتوسّع نفوذ الصين الدبلوماسي، تحافظ سياستها الخارجية على التزامها بمبادئها الراسخة بعدم الانحياز وعدم التدخل. وقد تطرح التوتّرات المتصاعدة في الشرق الأوسط تحدّياً أمام هذه السياسة ما قد يدفع بكين إلى تأدية دور أوسع في السياسة والأمن الإقليميين. ومن المرجّح أن توسّع الصين جهود الوساطة وتدعم مبادرات السلام الإقليمية، إلّا أنّها لن تقدّم ضمانات أمنية.
وستساهم خيبة الأمل المتزايدة في المنطقة تجاه الغرب في تشكيل العلاقات السياسية بين بكين والشرق الأوسط. ويثير دعم الولايات المتحدة المطلق والمستمرّ لإسرائيل في حربها على غزة، منذ أواخر العام 2023، الشكّ حول التزام واشنطن بأمن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويدفع القوى الإقليمية إلى البحث عن شركاء بديلين. وسيكون لإطلاق مبادرات مثل مبادرة الأمن العالمي (GSI) في العام 2022 دورٌ بالغ الأهمية في تشكيل مستقبل التعاون السياسي بين الصين والمنطقة، إلّا أنّه من المرجّح أن يحافظ عدد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على علاقات وثيقة مع الغرب، نظراً لدور واشنطن الرئيسي في تشكيل المشهد الأمني في المنطقة.
الطاقة ستبقى محور العلاقات بين الصين ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
لقد بشّر إطلاق مبادرة الحزام والطريق في العام 2013 ببداية حقبة جديدة من التعاون الاقتصادي بين الصين والمنطقة. وأصبحت استثمارات الصين في مشاريع البنية التحتيّة الرئيسية في دول المنطقة كافة محرّكاً أساسياً لنموّها. ومع ذلك، تعيق القدرات التمويلية لعددٍ من دول هذه المنطقة توسيع استثمارات الصين، ما يثير المخاوف حول احتمال وقوع بعض الدول المقترضة في فخ الديون.
وتبقى الطاقة جزءاً أساسياً من اقتصادات بعض من دول المنطقة، على الرغم من الجهود المبذولة لتنويع العلاقات الاقتصادية. ولا تزال بكين تتصدّر قائمة مستوردي النفط في العالم، ما يجعل من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شريكاً اقتصادياً لا غنى عنه. كما تفتح الطاقة آفاقاً لتطوير العلاقات الإستراتيجية بين الصين والقوى الإقليمية. وبالنظر إلى المستقبل، ستحافظ الطاقة على أهميّتها، إلّا أنّ الجهود العالمية لتسهيل تحوّل الطاقة وجهود الصين لزيادة الاكتفاء الذاتي من الطاقة ستكون محوريّة في مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الصين والمنطقة. كما أنّ وفرة إمدادات الغاز الطبيعي المسال في منطقة الخليج ستجعل منها شريكاً هاماً في هذا التحوّل. وستعزّز خطوات الصين في اعتماد الطاقة النظيفة على نطاق واسع تعاونَها مع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تسهيل التحوّل في مجال الطاقة.
التكنولوجيا الصينيّة تعزّز إستقلالية المنطقة الإستراتيجية
تضطلع التقنيات الناشئة وتطوير البنية التحتية بدور مهم في التنسيق الإستراتيجي بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والصين. تعمل شركة هواوي الصينية الرائدة في مجال التكنولوجيا، على سبيل المثال، على توسيع الوصول الإقليمي إلى التكنولوجيات المتقدّمة. وترتكز العلاقات التكنولوجية المتنامية بين الصين ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على أبعاد سياسية وإستراتيجيّة.
ويساهم الاستحواذ على التكنولوجيا الصينية في تحديث اقتصادات دول المنطقة وفي زيادة استقلالية القوى الإقليمية الإستراتيجية. كما وأنّ التكنولوجيا الصينية محوريّة في خطط التنمية الوطنية الطموحة في عدد من هذه القوى، بما في ذلك رؤية المملكة العربية السعودية 2030. بيد أنّ الضغوط المتزايدة التي تمارسها الولايات المتحدة على المنطقة للحدّ من تعاونها التكنولوجي مع الصين قد تعقّد العلاقات بين بكين ودول المنطقة. وستختبر هذه الضغوط التوازن الذي تسعى دول المنطقة للحفاظ عليه في علاقاتها مع بكين من جهة وواشنطن من جهة أخرى، ما يصعّب على هذه الدول الاستعانة بالتكنولوجيا الصينية.
التبادل الثقافي سيؤدّي دوراً بارزاً في مستقبل مبادرة الحزام والطريق
بات التبادل الثقافي بين الأفراد يؤدّي دوراً متزايد الأهمية في تحديد العلاقات بين الصين ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويسلّط تعزيز مبادرة الحزام والطريق للربط العالمي الضوء على العلاقات الثقافية بين الصين والشرق الأوسط. وتستضيف بلدان مختلفة من المنطقة الآن معاهد كونفوشيوس التي تعكس توسّع أثر القوة الصينية الناعمة. كما أنّ تركيز بكين على تعزيز الحوار بين الحضارات – من خلال مبادرة الحضارة العالمية (GCI) للرئيس شي جين بينغ – يضع الترابط الثقافي في صميم الخطاب الدبلوماسي الصيني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويعكس التأثير الواسع النطاق للمنصات الإلكترونية، مثل تيك توك، النفوذ المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي للصينية. كما سيعزّز توسيع الروابط الاجتماعية والثقافية بين الصين والشرق الأوسط التعاون في مجالات رئيسية مثل العمل المناخي. إذ يجعل ارتفاع مستويات ندرة المياه ودرجات الحرارة العالمية التصدّي لتغيّر المناخ مسألة ضرورية لمستقبل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويمكن للجهود الرائدة التي تبذلها الصين في هذا المجال أن توجّه سياسات المناخ الإقليمية.
علاقات الصين الخارجية: السلام من خلال التنمية
تفاقم التحوّلات السريعة في النظام العالمي الضغوط على بكين لتعزيز دورها كقوة سياسية. وتزيد تطلّعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى قيادة الصين كبديل محتمل للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. وبذلك، تستعدّ بكين لتأدية دور دبلوماسي وسياسي بارز في المنطقة، إلّا أنّ نهجها سيرتكز على تسخير السلام من خلال التنمية. ترى الصين أنّ دفع عجلة التنمية يمكنه أن يساهم في إحلال السلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على نطاق واسع. كما ستشكّل الوساطة عاملاً أساسياً للدبلوماسية الصينية في المنطقة.
وستواصل الصين توطيد العلاقات الشاملة مع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتأكيد التزامها بالازدهار الإقليمي. كما سيساهم نمو التنسيق المتعدّد الأطراف، من خلال مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون على سبيل المثال، في تعزيز التعاون بين الصين والمنطقة. إلّا أنّ المخاوف الأمنية في الشرق الأوسط والتطلّعات إلى وجود أمنيّ صينيّ أوسع في المنطقة سيعقّد مستقبل العلاقات السياسية بين بكين وعواصم المنطقة.